الموضوع: محمود البدوى
عرض مشاركة واحدة
قديم 19/08/2008   #19
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي قصة عضة الكلب


في شتاء عام 1964 نقل طبيب الأسنان الدكتور حسن بهجت من القاهرة إلى وحدة صحية في الريف .. وكان الطبيب الشاب على عكس الأطباء الذين هم في سنه .. والذين ينقلون من المدينة إلى الريف دون رغبة .. ودون تمهيد .. فيشعرون بالمرارة والضيق النفسي والقلق .. كان على عكسهم تماما .. فقد شعر بالبهجة .. والتفتح النفسي والتطلع الواسع .. وكان في أعماقه يتوق إلى هذه التجربة الحية .. إلى العيش في قلب الريف .. مادام قد عاش إلى هذه اللحظة مدنيا صرفا .. ليخرج بشيء لا يجد مثله في الكتب .
ولما كان غير متزوج فقد أقام في السكن المخصص له بالوحدة .. وكانت القرية التي تقع فيها الوحدة من القرى الكبيرة والمواصلات إليها سهلة .. فهي قريبة من محطة السكك الحديدية .. ومن الطريق العام لسيارات الأجرة .. وأهلها وادعون مسالمون يشتغلون بالزراعة وتجارة المواشي .. وفيها سوق كبير يتجمع فيه أهل القرى المجاورة في يوم الاثنين من كل أسبوع .. ويتبادلون السلع بكل ألوانها وأشكالها ..
***
ولاحظ الطبيب الشاب شيئا في المرضى الذين يترددون على الوحدة .. شيئا لم يلتفت إليه أولا .. ثم شد انتباهه بعد أن برز بوضوح كطلعة الشمس .. لاحظ ندبة في الصدغ الأيمن من كل رجل يدخل الوحدة .. ورأى أن الندبة برزت وأصبحت كالدمل المقروح في وجوه الرجال فقط .. ولم يرها في وجوه النساء والأطفال ..
وأدركه العجب وخرج يمشى على جسر القرية وبين دروبها ليتأكد مما شاهد فوجد الندبة ظاهرة في وجوه الرجال .. وبارزة بوضوح .. واضطر بعد هذا التعميم أن يسأل أحد مرضاه عن سببها فعرف أنها عضة كلب .
ودخل شيخ البلد العيادة فرآه الطبيب وفى صدغه العضة .. فسأله في استغراب :
ـ حتى أنت يا شيخ على ..؟
ـ حتى أنا يا دكتور .. لم يترك الكلب رجلا في القرية إلا عضه .
ـ الرجال فقط ..؟
ـ أجل .. وبفراسة شديدة .. اختار الرجال لفعلته وترك النساء والأطفال .. لم يقترب من أحد من هؤلاء .
ـ ومتى حدث هذا ..؟
ـ منذ أكثر من سنتين .. وبنظام وترتيب .. بدأ بالذين فى البيوت والدروب ثم خرج إلى الغيطان .. وكان يثب كالليث .. ويتخطى الحواجز .. ولم يعض إنسانا مرتين أبدا .. فعلها مرة واحدة .
ـ وقتلتموه ..؟
ـ أبدا .. لقد كان في ضراوة الأسد وشدة بأسه .. فمن الذي يجرؤ على الاقتراب منه .. إنه هو الذي كان يستطيع قتلنا .. ولكنه اكتفى منا بترك هذه العلامة .
ـ وهل لا يزال في القرية ..؟
ـ أبدا .. خرج في ليل ولم نعد نراه ..
وشغلت هذه الظاهرة العجيبة بال الطبيب .. واستغرقت كل تفكيره .. وكلما مشى على الجسر وشاهد الفلاحين العائدين بدوابهم من الغيطان .. والسائرين فى الدروب وعلى وجوههم نفس الندبة في الصدغ الأيمن يتعجب ويتساءل .. قد يكون كلبا مسعورا ككل الكلاب المسعورة .. انتابته حالة سعار من مرضه .. ولكن لماذا التعميم والتخصص ..؟ أهو شيطان في جسم كلب ..؟
وأخذ الطبيب يسأل الموظفين في الوحدة وزملاءه الذين جاءوا إلى القرية في زمن قبله .
فعلم أنهم هبطوا القرية ووجدوا أهلها على هذه الصورة .. ولم يشغلهم الأمر أو يستلفت نظرهم لأنهم ظنوها خلقة طبيعية .. ومنهم من سمع أنها عضة كلب .. ومرت الأيام وألف من في الوحدة هذه الوجوه على حالها .

***
ولكن الدكتور بهجت .. ظل في حيرة من أمر هذه الظاهرة .. وتعجب كيف تكون عند الكلب هذه القدرة على ترك هذه العلامة في رجال القرية جميعا أمام سطوته ..؟ وهم يعرفون أنه يطاردهم في كل مكان .. قد تكون عضة واحدة في صدغ رجل واحد وانتقلت بالتصور إلى جميع الوجوه .

***
وأخيرا قرر الطبيب أن يصلى الجمعة في مسجد القرية الذي يجمع صورا مختلفة من أهلها .. الشيوخ والشبان .. ليتأكد من هذه العلامة الغريبة .. ولما دخل المسجد رأى الندبة برسمها وحجمها على وجوه المصلين جميعا .
وخرج المصلون من الجامع .. واختار الطبيب أكبر المصلين سنا .. وكان شيخا وقورا .. مال به الطبيب إلى جلسـة تحـت المحـراب وسأله وهو يشير إلى صدغه :
ـ وهـل هذه الندبة عضة كلب أيضا .. يا شيخنا الكبير ..؟
ـ أجل .. يا دكتور ..
ـ إنه شيطان إذن مادام يعض الصالحين المتوضئين من أمثالك ..
ـ إنه ليس بشيطان .. إنه نذير ..
ـ وهل إذا رأيت الكلب تعرفه ..؟
ـ بالطبع أعرفه .. وكل القرية تعرفه .. لقد كان من كلاب القرية .. وأخذه عبد الجابر السحلاوى وأصبح من زمرة كلابه .. إلى أن حدث ما حدث واختفى الكلب بعدها ..
ـ وما السبب الذي أهاج الكلب .. لقد سألت الكثيرين فلم أعرف السبب الحقيقي .. الأقوال متضاربة ..
ـ الناس يشعرون بالخجل يا دكتور .. من تصرفاتهم .. عقدة الذنب .. استقرت في أعماقهم .. فمنعتهم من الكلام .. لأن في التصريح بالكلام ورواية الحقيقة عارا .. وعارا أبديا .. على أهل الريف .. أهل الريف الذين عاشوا طول عمرهم يتعاونون في السراء والضراء .. ويغيثون الجار ويدافعون عن المظلوم .. ولكنهم تغيروا الآن يا دكتور .. وانقلب حالهم .. وتسلطت عليهم الأنانية في بشاعة .. حتى لا تجد فيهم من مروءة الرجال من يذوذ عن امرأة مسكينة .. لقد اقتص الكلب من أنانيتهم وانشغال كل منهم بحاله .. غافلا عن حالة أخيه .. مادام لا يصيبه من أمرها مكروه .. فكر فيالسلامة لنفسه .. ولم يفكر في سلامة الآخرين الذين يعيشون بجواره وفى حضن قريته وزمامها ..
لقد كان عبد الحافظ مدرسا في المدرسة الإعدادية بالقرية .. وغريبا عن أهل القرية .. جاء ليهديهم ويعلم أبناءهم .. ولكنهم خذلوه في خسة وضعف .. أشفق المسكين على حالهم عندما رأى السحلاوى يستولى على ريع السوق ويتاجر في سماد الجمعية المخصص لهم .. ويسرق قوتهم وقوت عيالهم .. ويسيطر على كل شيء بنفعية وتسلط .. فحرك الفلاحين ليقفوا فى وجهه .. ويطالبوا بحقهم .. ولكنهم تخاذلوا في ضعف مشين ..
وطلب منهم أن يشتكوه لمن يرد لهم حقهم المسلوب .. ولكنهم كانوا يعرفون بالخبرة أن الشكوى لا تنفع وسترتد إلى صدورهم .. فسكتوا .
ولم يرض عبد الحافظ بهذا وكتب هو الشكاوى بلسانهم .. ولكن الشكاوى كانت تموت لسطوة السحلاوى وكثرة معارفه من ذوى النفوذ ..
وعلم .. السحلاوى .. أن كاتب هذه الشكاوى هو عبد الحافظ .. وفكر في الانتقام منه سريعا ..
وكان عبد الحافظ لأنه أعزب .. وليس من أهل القرية قد اختار مضيفة الحاج حسانين القريبة من المدرسة كمنزل إقامة ..
وكانت المضيفة قريبة من حوش البهائم الخاصة بالسحلاوى ومن منزله .. وعند السحلاوى كلاب شرسة مدربة على الحراسة ونهش من يقترب من البهائم .. وكل من سار في الليل واقترب من حوش السحلاوى ومنزله يخافها لشراستها .. وكان السحلاوى لا يريد اغتيال المدرس الغريب مواجهة وإنما فكر في تعذيبه وإذلاله .
وفى ليلة من ليالي الصيف أطلق عليه وهو نائم كلبا من كلابه الشرسة .. وشاءت إرادة الله أن يعرف الكلب عبد الحافظ ويحفظ له صنيعه عنده .. فقد أطعمه عبد الحافظ ذات ليلة من ليالي الشتاء الشديدة البرودة .. وأواه في المضيفة .. وكان الكلب وقتها طريدا شريدا .
وعرفه الكلب .. فنام بجواره يحرسه بدلا من أن ينهش لحمه .. وجن جنون السحلاوى عندما رأى عبد الحافظ لم يمس بسوء .. وما كان يفعله مستخفيا .. أخذ يفعله علانية وهو فى حالة هياج .. فأخذ يضرب الكلب .. ويطلقه على المدرس .. ولكن الكلب لم يستجب له إطلاقا .. فرأى أن يضع مع الكلب كلبا آخر ليحرضه على افتراس المدرس المسكين الذي أخذ يستغيث بأهل القرية فلم يغثه أحد .. كانوا مشغولين بحالهم .. ويخافون من بطش السحلاوى فتخاذلوا عن غوث الغريب .
وأخذ السحلاوى بعين الوحش يرقب ما يجرى أمامه ولكن .. خاب فأله .. فقد افترس الكلب الأول الكلب الثاني وألقاه جثة هامدة .
ولمح السحلاوى عين الشر في عين الكلب الأول فلم يقترب منه وإنما قرر أن يقتله بمسدسه .
وفى اللحظة التي فكر فيها أن يفعل هذا كان الكلب الأول قد وثب عليه وألقاه على الأرض .. بعد أن عضه في صدغه تلك العضة .. ووضع فى وجهه تلك العلامة المميزة ..
وارتعب السحلاوى وغشى عليه .. ولما أفاق كان الكلب قد خرج من القرية ..
ولكنه عاد إليها وأخذ يعض الرجال من أهلها بالصورة التي رأيتها في وجوههم .
وبعد هذه الحادثة لفق السحلاوى تهمة للمدرس المسكين ونقله من القرية ..
وسافر السحلاوى ليعالج نفسه من عضة الكلب وطال غيابه ..
وصمت الشيخ قليلا ليرى أثر حديثه في وجه الطبيب الشاب ثم قال :
ـ هذه هي قصة العضة التي تراها في وجوهنا يا دكتور بهجت وأرجو أن تساعدنا أنت وزميلك الجراح على إزالتها ..!
ـ مع الأسف يا حاج .. لا أستطيع ذلك .. لا أنا .. ولا زميلي الجراح ..
ـ كيف .. يا دكتور .. كيف ..؟
ـ لأنها من عملكم وخصائص نفوسكم .. ومتى تغيرتم ستزول ..
ـ بغير جراحة ..؟!
ـ بغير جراحة ..
وشكر الدكتور بهجت الشيخ الكبير على حديثه .. وأخذ طريقه إلى الوحدة ، وهو يفكر فى طريقة عملية ليخرج الخوف من نفوس هؤلاء المساكين الذين أصابهم الكلب بهذه الوصمة .. وتمنى أن يرى السحلاوى والكلب والمدرس وبعد هؤلاء الثلاثة سيعالج الخوف بطريقته .

***
ومع دوامة الحياة تصور عبد الحافظ أنه نسى ما حدث له .. ولكن تصوره كان خاطئا .. فقد كان الجرح عميقا وضاربا في أعماق النفس .
وذهب يسأل عن السحلاوى فعلم أنه مات .. ومات مع قوته الانتقام .. ونسى عبد الحافظ ما حل ولكنه فوجئ بعد ذلك بمن يخبره أن السحلاوى حى وفى بلده .. فأشعلت في نفسه جذوة الانتقام التي حسبها تحولت إلى رماد .. وقرر أن يغتاله في نفس المكان الذي عذبه وأذله فيه .. نفس المضيفة .
وركب القطار إلى القرية بعد أن تسلح .. ووصل إلى بساتينها ساعة العصر .. ورأى أن يظل في البستان إلى الساعة التي يختارها في الليل للتحرك .
وبعد وصوله بأقل من ساعة شاهد جنازة طويلة تتجه إلى المقابر القريبة من البساتين ..
فسأل عنها .. وعلم أنها جنازة السحلاوى .
وتعجب وقال لنفسه :
ـ مات السحلاوى في اليوم الذي قصدته فيه .. ما أعجب الدنيا بتصاريفها ..
وتعجب أكثر من طول الجنازة وعرضها .. فقد خرج وراءه رجال القرية جميعا .
وردد لنفسه :
ـ إنهم يخافونه ميتا .. أكثر مما يخافونه حيا ..

***
ودخل عبد الحافظ في خط الجنازة مع الرجال .. وتلفتوا بأصداغهم التي عضها الكلب .. وتهامسوا ..
ـ جاء المدرس .. يشترك في الجنازة .. ونسى ما فعله فيه ..
ـ إنه نبيل .
وفجأة اضطربت الصفوف المتراصة الواجمة .. ورفعت رؤوسها المنكسة .. وصاح الرجال :
ـ الكلب .. الكلب ..
وأصابهم الذعر .. ووضعوا النعش على الأرض .. وانطلقوا يمينا وشمالا في الغيطان يسابقون الريح ..
ونظر عبد الحافظ فوجد الكلب واقفا على القنطرة التي سيعبر منها الرجال إلى المدافن .. إنه نفس الكلب ولكنه تضخم أكثر وغدا أشبه بالأسد في ضراوته ..
تقدم عبد الحافظ نحوه بثبات وناداه :
ـ تعال .. يا مبروك .. تعال إلى صاحبك ..
واتجه الكلب إليه بعد أن عرفه .. وهو يحرك ذنبه فرحا بلقاء صاحب قديم ..
ووضع عبد الحافظ يده على رأس الكلب ومسح على ظهره بنعومة .. وطوقه بذراعيه .. ثم أشار إليه بأن يبتعد ..
فانسحب الكلب وهو يشيع صاحبه بنظرة لم تصدر مثلها من إنسان ..
وانحنى عبد الحافظ على النعش ليحمله .. وشجعت هذه الحركة الرجال .. فعادوا إلى الجنازة من جديد ..
عادوا وهم يشعرون أن حركة الكلب قد فعلت شيئا فيهم لم يدركوه بعد .. وهم يتحركون في صمت .. والمدرس الغريب بينهم وفى رأس الصفوف ..

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.07733 seconds with 11 queries