عرض مشاركة واحدة
قديم 11/02/2008   #2
شب و شيخ الشباب Moonlights
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Moonlights
Moonlights is offline
 
نورنا ب:
Nov 2007
المطرح:
فوق جبل بعييييييد
مشاركات:
263

افتراضي منطقة الجمر والرماد


منطقة الجمر والرماد

د. عبدالله ابراهيم
في سيرته الذاتية "الجمر والرماد" يستعيد هشام شرابي وقائع من حياته في بيروت خلال الأربعينيات من القرن العشرين، غير أنه لا يشغل بالحنين العاطفي لتلك الأيام، كما يلاحظ عند معظم كتاب السير الذاتية العربية، إنما يشغل بدور المثقف في مجتمع تقليدي، ورغبته في تحديثه دون التمكن من الشروع بذلك.. وعلى خلفية هذه الفكرة تبدو أحداث الماضي متناثرة، فالإحساس بعدم الانتماء يطوف في السيرة، وهو إحساس عقلي يتعالى عن العواطف والمشاعر، كونه يتصل بمفكر اشكالي مفارق للنزوع الاجتماعي العام، فكلما هم باتخاذ قرار الانتماء بمعناه المباشر إلى عالمه الأول الذي تركه منذ مدة طويلة، جد ما حال دون ذلك، فقد انفصمت عرى صلته بمجتمعه كونه مثقفاً نقدياً أفرد خارج سياق القطيع الاجتماعي، وحيثما حل برز أمامه مانع في ألا يكون داخل بلاده. وتتأرجح السيرة بين حالين من التواصل والانقطاع، وبين حقبتين، فلم يتمكن شرابي من فصم عراه عن الحقبة الأولى، ولم ينجح في أن ينخرط في الثانية.. والوقوف في المنطقة المتأرجحة بين رغبة المرء في عمل ما، وعدم قدرته على القيام به أمر ملفت في سيرته، فهو يكشف أحياناً عن موقف نقدي صارم في تحليله للبنية الأبوية للمجتمع الذي ظهر فيه، وأحياناً تخامره الرغبة للقيام بدور رسولي لتغييره، وثمة هوة لا تردم بين فمكر ينهض بمهمة تشريح البنية التقليدية لمجتمعه، كاشفاً الأزمات الكبرى في عمقه، وبين مثقف يتوهم دوراً نبويا في تغيير ذلك المجتمع.. ومن المتوقع أن يفضي كل ذلك إلى ظهور نزعة انطوائية لديه، تؤدي به إلى إعادة بناء تجربة طفولته وشبابه في عكا وبيروت، حيث كانت فكرة الانتماء والملازمة قائمة بينه وبين العالم، وذلك من موقع المفكر المفارق الذي أفرد خارج مجتمعه، فعجزه عن تغييره، وتلاشت لديه فكرة الانتماء، فراح يستيعد حقبة انقضى عهدها، ومكاناً لم يعد قائماً.
وكان شرابي قد عرف الترحل مبكراً، فقد ولد في يافا، وترعرع في عكا ثم درس فيها، وفي رام الله، قبل أن يرسله أبوه إلى بيروت في عام 1938لمواصلة تعليمه في مدرسة داخلية، ثم أكمل الجامعة الأميركية في بيروت، وتوجه إلى أميركا لاستكمال دراسته العليا.
ومنذ عام 1953تولى تدريس تاريخ الفكر الأوروبي في جامعة "جورج تاون" في واشنطن، بوصفه أستاذاً فيها، وباستثناء عودات قصيرة إلى بيروت، مكث في أميركا نحو نصف قرن. ومن واشنطن عرف باقتلاع أسرته من وطنها فلسطين في عام النكبة، وانشطارها بين لبنان والأردن، وحينما قرر العودة، وقد ارتبط بالحزب الاجتماعي القومي السوري، من أجل أن يسهم في مجتمعه بوصفه مثقفاً عضوياً فاعلاً، فقتل زعيم الحزب أنطوان سعادة، وضرب الحزب، وتفكك، فعاد ثانية إلى أميركا مصاباً بخيبة أمل، إذا فرض عليه المنفى بعد أن كان قرر العودة حال اكمال دراسته، وكان شاباً يافعاً يتطلع إلى عودة سريعة إلى بلاده كأنه محكوم بأداء واجب.
وهذه العودات الخاطفة كانت أشبه بزيارات شخصية لا يمكن أن تعبر عن موقف فكري، وتجربة شخصية، ولهذا أغفل شرابي الوقوف عليها، فما أن التحق أستاذاً بالجامعة في واشنطن إلا وأصبحت تجاربه الأولى مادة للذكرى. إن إعادة تخيل مدينة الطفولة بعد مرور نصف قرن على مبارحتها أمر بمقدر ما ينطوي على المفارقة فإنه ينطوي على العذاب، فالمفارقة أن التاريخ عرض مقترحاً ماكراً وخبيثاً، فقد أصبحت عكّا في قلب إسرائيل، وأصبح ابنها شرابي منفياً في واشنطن. والحال فقد انفصمت عرى العلاقة المباشرة بين شرابي وبيروت بتفكك الحزب السوري القومي الاجتماعي إثر إعدام زعيمه، وأصبحت علاقة ذهنية يقع استعادتها، فموضوعها هو الذكرى بعد حادث فاصل، فالأحداث الجسام تفرض قطيعة فعليه بين الشخص والمكان، فيصبح هو منفياً، وتصبح هي ذكرى، فيعاد بناء العلاقة عبر التخيل.
توقف شرابي كثيراً على وصف نزعته الانطوائية والشكية، وتكاد حياته تنقسم إلى مرحلتين: مرحلة الاندماج النسبي التي كان عليها إلى أن أنهى دراسته الجامعية في بيروت، ثم مرحلة العزلة شبه الكاملة في الحقبة الأميركية من حياته. ومن قلب الأخيرة أعاد بناء الحقبة الأولى من حياته، وينبغي ألا نغفل أنه استدعى وصف المرحلتين بعد مروره بهما، وقد أصبحت حياته وقائع تلاشت، وأحداثاً انقضت، وهو يعزو ذلك جزئياً إلى نزعة التفلسف التي اتصف بها، أي نزعة خداع الذات بأنه قادر على إنتاج فكر فلسفي حقيقي، فيما كان يخوض سجالات حول الفلسفة، فحسب كانت النزعة الطاغية في حياتي، في أثناد دراستي الجامعية، هي نزعة "التفلسف". لم يكن بامكاني آنذاك التفرقة بين الفلسفة والتفلسف وكنا في دائرة الفلسفة، أساتذة وطلبة، جميعاً متفلسفين. وكنت بطبيعتي أميل إلى "فلسفة" الأشياء، أي أن أراها من خلال حجب كثيفة من التأمل والتفكير، وليس بشكل مباشر وعفوي. ولعل هذا هو السبب في أن الحياة كانت تبدو لي غامضة مشوشة لا أقدر على تلمسها أو تذوقها ببساطة ومرح.
كما كان يفعل معظم زملائي.. فكان كل يوم يمر في حياتي معقداً مليئاً بالأحاجي والأحداث المؤلمة نفسياً.. ولاشك أن نوعية الفكر الذي تعرضت إليه في الجامعة الأمريكية عزز اغترابي عن نفسي وزاد من ابتعادي عن واقع الحياة الذي كنت أتوق لتفهمه وامتلاكه. وهذا قاده في نهاية المطاف إلى الشك في كل شيء، حتى الشك في أصالة أفكاره "كل أفكاري هي، بشكل أو بآخر، نتاج ما أقرأ.. لم تصدر عني فكرة يمكن وصفها بأنها فكرة أصيلة أو ملهمة".
يحوم القلق في تضاعيف الكتاب، وتتناثر الوقائع، وباستثناء المرحلة الأخيرة من مصاحبته لزعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، حيث تتبع حالة في الأيام الأخيرة لوجوده بين بيروت، ودمشق، وعمّان، فإن كافة ما ورد غير ذلك جاء على شكل انتقالات بين مرحلة الطفولة في عكا، والشباب في بيروت، والكهولة في شيكاغو.. على أن النص يرتفع مرهفاً في بعض المواقف، مركز الاهتمام على فرد لا يبرح يفكك أواصر العلاقة التقليدية داخل نفسه، وفي المحيط الذي يعيش فيه، ثم يتوسع فيقدم تحليلاً للمجتمعات التقليدية الأبوية، ويكشف بوضوح كيفية انزلاق المثقف إلى عالم ذهني خاص تاركاً طبقات المجتمع الدنيا تدفع ثمن عذابات الحياة اليومية، بما في ذلك اقتلاعها عن أوطانها، وتشردها. لكنه بالمقابل حاول رسم شخصية تعد بقدرتها على خدمة قضايا شعبها لكنها تنزوي أسيرة تأملات تجريدية، وهذا التعارض بين تخيلات ذهنية للقيام بأدوار قدرية متخيلة، وانكفاء ذهني تحليلي شبه منقطع عن الجماعة الكبرى، يرسم شخصية مفكر اجتماعي منكفئ على ذاته، وغير قادر على القيام بأية مهمة حقيقية للتغير، وتلك هي صفة المنفي بعينها.

We ask the Syrian government to stop banning Akhawia and all Syrian sites

القمر بيضوّي عالناس
والناس بيتقاتلوا .
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03683 seconds with 11 queries