الموضوع: أسبوع وكاتب - 2
عرض مشاركة واحدة
قديم 23/06/2008   #186
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


المواجهة المأساوية:

أدركت ساشا أن أباها مضطربٌ أشد الاضطراب، وأنه قد عزم على متابعة مسيرة فراره المأساوية، وأنه لا فائدة من أية محاولة لإثنائه عن عزمه!

عندما قال لها: ساشا يجب أن أغادر شاماردينو، ولا أدري إلى أي مكان! ربما إلى القوقاز، فالحياة في الجبال تتناسب وصحتي، والجو هناك منعش وخال من الرطوبة.. لقد عشت طفولتي في جبال القوقاز!

لكن صديقه الطبيب، يسأله فيما إذا كان يقوى على مشاق الرحلة إلى القوقاز؟! فيجيبه:
ـ لم لا! وأنت معي؟! هيا! هيا! لننم مبكرين حتى نبدأ الرحلة غداً مع بزوغ ضوء الشمس.\
كان تولستوي سعيداً رغم رنة الحزن في صوته، ورغم إحساسه بما يشبه الأزمة الربوية! حاول جهده أن يخفي السعال ويمزجه بضحكات خفيفة، ولم يغب ذلك عن فطنة الطبيب الذي اقترح عليه تأجيل الرحلة لأسبوع على الأقل، فانتابه الذعر.. أسبوعاً؟!.. وهل تتركني صوفيا هنا أسبوعاً؟!.. وجاء الصباح.. ولم يكن يدور بخلد الدكتور ماكوفيتسكي أن الحمى قد أمسكت بالجسد الواهي للعجوز العنيد ابن الثانية والثمانين! وبينما هم في العربة، كان تولستوي يتحدث إلى ابنته عن القوقاز وكيف أنه سيقيم في الأيام الأولى عند صديقه العزيز دنيسنكو: إنه كاتب ممتاز يا ساشا! لا يعيبه إلا اهتمامه بالمحسّنات اللفظية! لو ترك قلمه على السجيّة، لاحتل مكانةً مرموقةً في قائمة كبار كُتّاب روسيا! لقد قلت له هذا مراراً، لكنه من مدرسة تورجنييف! وبينما هو مسترسل فيما يشبه الهذيان!

قالت له ساشا: أبتي، لا تجهد قواك بالكلام الكثير.. فإن أمامنا رحلة طويلة بالقطار! لكن هزّات العربة الصغيرة قد أتعبت جسده جداً، وما أن بلغوا محطة القطار حتى كان الكاتب الكبيرقد بدأ يهذي. وركبوا القطار، وبعد أن سار بهم، سأل الدكتور:
ـ كم المسافة التي سنقطعها حتى نصل القوقاز يا عزيزتي ساشا؟!، قالت: ـ حوالي 1000 كيلومتر.
فقال الدكتور:
ـ يا إلهي! ثلاثون ساعة؟! وليو على هذا المقعد الخشبي غير المريح؟!
فأجابه تولستوي:
ـ وماذا في ذلك؟! إنني في صحة جيدة! وإن كنت استشعر صداعاً شديداً بعض الشيء، ولكن بمقدوري مواصلة الرحلة!
فيطلب الدكتور من تولستوي أن يعطيه يده ليقيس ضغط دمه.. ومدّ له يده، وبعد ثوانٍ ظهرت ملامح القلق على وجه الدكتور فقال بحزم:
- يجب أن نغادر هذا القطار اللعين في أقرب محطة.. فالحمى ستكون لها عواقب وخيمة إذا لم نتلافاها!

وكانت أول محطةٍ مجهولةً ولم يسمع بها أحدٌ من قبل، ولكنها أصبحت من أشهر المحطات في روسيا بعد الأحداث التي وقعت فيها لكاتبهم الأشهر تولستوي وهي محطة (أستابوفو). نزل تولستوي من القطار يجر ساقيه مستنداً على كتفي ابنته وصديقه الطبيب.. وحين علم ناظر المحطة بالضيف الكبير للقرية النائية والمنسية!. جاء مسرعاً وهو يقول: اسمي أوزولين يا صاحب السعادة، يسعدني.. ويشرفني أن تقيم في داري المتواضعة إلى أن تستعيد صحتك وعافيتك.. ثم أعدّ سريراً مريحاً، وفراشاً ناعماً في أكبر غرفةٍ في بيته. رقد تولستوي وهو في حالةٍ من الهذيان!

ساشا، هاتي الشمعة وضعيها قرب فراشي! لماذا لا تأتي صوفيا؟! لا بأس لعلها تتفقد أحوال الخدم!! وأين كراسة مذكراتي يا ساشا؟!.. كان يظن وهو في هذيانه.. أنه ـ كالعادة ـ يعيش في إيزيانا/ بوليانا. ونام نوماً عميقاً بعد أن هبطت حرارته، وتناول شراباً من الشعير الساخن! في الصباح وكأنما أحس بخطورة الموقف، فنادى على ابنته:
- هاتي ورقة وقلماً واكتبي هذه البرقية إلى صديقي (تشيرتيكوف)، وأخذ يملي عليها: «عزيزي.. أصابتني وعكةٌ بينما كنت في القطار يوم أمس، أخشى أن تصل أخبار ذلك إلى الصحافة، وقد شاهدني الكثيرون أثناء نزولي من القطار، وسأتابع رحلتي إلى القوقاز.. أرجو أن تفعل المستحيل كي لا يتسرب خبر مرضي للصحف وبالتالي ينتشر خبر سفري.. أبرق لي بكل ما يستجد! صديقك ليو تولستوي..».

أرسلت ساشا برقية أبيها إلى صديقه وعادت إلى دار ناظر المحطة لتفاجأ بالاضطراب الشديد الذي استولى على الطبيب ماكوفيتسكي إذ فاجأها بقوله: لقد عادت الحمى يا آنسة ساشا، عادت هذه المرة بعنف، ولا أحب أن أتحمل المسؤولية وحدي، فأبرقي إلى موسكو لاستدعاء الدكتور (نيكيتيين). وما هي إلا فترة وجيزة حتى أُذيع الخبر في العالم: أن الكاتب الروسي الأشهر ليون تولستوي يرقد ليموت في دار محطة مجهولة على الخريطة الروسية تُدعى استابوفو.. وأمسك عشّاق تولستوي في العالم أنفاسهم وهم يسمعون تلك الأخبار.. في الغرفة البسيطة التي أعدها له على عجل في بيته ناظر محطة القطار، كان تولستوي يرقد بعد أن بلغ من الضعف أشدهّ! ويسأل ابنته: ساشا، أتحسبين أن أمك ستعرف مكاني؟!.. تجيبه في حدب وقلق: أبتاه! لا تشغل نفسك الآن بأمي، من المؤكد أنها ستفهم، ولن تحاول البحث عنك! أرجوك يا أبي لا تكثر من الكلام، فأنت متعب! وتغادر ساشا غرفة أبيها.. لتقول للطبيب:
ـ إنها رحلة القطار! نوافذه كلها محطمة، والعاصفة الثلجية اللعينة!
ـ وعناد أبيك، فما كان يجب أن نغادر شماردينو، ولكن سنتمكن بعون الله من اتقاء خطر الالتهاب الرئوي! فالغرفة دافئة وهو بحاجة إلى الهدوء!
وكتبت ساشا في دفتر يومياتها: «لقد أجلى السيد أوزولين ناظر المحطة وصاحب البيت الذي يرقد فيه والدي.. أجلى زوجته وأولاده، ولم يُبق إلا خادمة للمطبخ لتلبية طلباتنا.. وعندما حاولت أن أدفع له بعضاً من المال لمساعدته على التكاليف.. مال الرجل على يدي ولثمها وهو يبكي ويقول: بحق السماء! دعوني أقدم ما أستطيع للرجل العظيم الذي أسعد المئات من البشر حينما أطلق سراحهم من عبودية المزارع!».

يتبــع ..

لا أحتاجُ لتوقيعٍ .. فالصفحةُ بيضا
وتاريخُ اليوم ليس يعاد ..

اللحظةُ عندي توقيعٌ ..
إن جسمكِ كانَ ليَّ الصفحات
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04573 seconds with 11 queries