عرض مشاركة واحدة
قديم 22/12/2008   #3
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي



5‏

نعم، نعم، لقد انتهى بي الأمرُ إلى إفسادهم جميعاً! كيف حدث ذلك ـ لا أعلم!‏

لا أذكرُ تماماً. لقد طار الحُلمُ عابراً ألوف السنوات وتركَ في نفسي إحساساً مُتكامِلاً فحسب. ما أعلَمُهُ أنني أنا نفسي سبب الإثم الأوّل. فكدودةِ خنزير، كذرّة طاعونٍ، يمكن أن تُعدي بلداً كاملاً، أمَرضتُ بحضوري أرضاً سعيدةً لا خطيئةَ فيها.‏

لقد تعلَّموا الكذب وأحبّوه وعَرَفوا مواطن الجمال فيه. رُبّما بدأ الأمرُ (بريئاً) على سبيل المزاح، أو الغنجِ والدعابة واللعب، وحقيقة الأمرُ أن البداية كانت ذرةً؛ لكن ذرّة الكذب تلك تسرّبت إلى قُلوبهم وأعجبتهم. بعد ذلك ظهرت اللذّة بسرعة، واللذّةُ ولّدت الغيرة، والغيرةُ بدورها ـ وّلدت القسوة... آه، لا أعلم؛ لا أذكر ولكن بعد ذلك بقليل سُفِحَ الدمُ الأوّل: فدهشوا وذعروا، وتفرّقوا، وتباعدوا عن بعضهم. ثُمّ ظهرتِ التحالفات، ولكن الواحدَ ضد الآخر، وبدأت المعاتباتُ والتقريعات. وعرفوا الخجل، الذي أمسى فضيلةً، وظهَرَ مفهومُ الشرف، ورفَعَ كل حِلفٍ رايتَهُ الخاصة. وبدؤوا يعذّبون الحيوانات، ففّرت منهم إلى الغابات وأصبحت عدواً لهم، ثم بدأت المعركةُ لأجلِ "الانفصال" و"الفرديّة" و"الشخصيّة" لأجلِ: هذا لك وهذا لي. وأخذوا يتحدّثونَ بلغاتٍ مختلفة، وعرفوا الاكتئاب، وأحبّوه.‏

وتعطّشوا للعذاب، فقالوا إن الحقيقة لا تُبْلَغُ إلا بالعذاب(3). وعند ذلك ظهرَ العِلمُ عندهم، وعندما أصبحوا أشراراً أخذوا يتحدّثونَ عن الأخوّة والإنسانيّة وفهموا تلك الأفكار. وعندما أصبحوا مجرمين اخترعوا العدالة، وكتبوا قوانينَ تصونها، ولأجلِ تطبيق القوانين نصبوا المقصلة. وما تذكّروا إلا قليلاً ما فقدوه ورفضوا أن يصدّقوا أنهم كانوا ذات يوم بريئين وسعداء، بل سخروا من إمكانية تحقق نموذج سعادتهم القديمة وسمّوه حُلماً، وعجزوا عن تصوّرِهِ في شكلٍ أو هيئةٍ محسوسة، ومن غريب الأمور: أنهم رغمَ فقدانهم الإيمان بسعادتهم البائدة، وتسميتهم إياها حكاية أو خُرافة، ظلّوا يتوقونَ بقوّة إلى استعادةِ براءتهم وسعادتهم، وسجدوا ثانيةً أمامَ أمنياتِ قلوبهم تلك كالأطفال، وألّهوا تلك الأمنيات، فبنوا مَعابِدَ وراحوا يصلّون فيها لتلك الأفكار، لتلك "الأُمنيات"، مَعَ علمِهم أنها غير قابلة للتحقق، ولكن الدموع مع ذلك ظلّت تُرافق صلواتهم وخشوعهم، ورغم ذلك لو كان باستطاعتهم العودةَ إلى تلك الحالة من البراءة والسعادة، التي فقدوها، وتمكّن أحدٌ ما من وضع تلك الحالة أمامهم وسألهم: هل يرغبون بالعودة إليها؟ ـ لأجابوا أغلب الظن بالرفض. ولقالوا: "فليكن أننا كذابون، أشرار، وغير عادلين، (نعلمُ ذلك) ونبكي ونعذّب أنفسنا بسببهِ، ونعاقبُ ذواتنا بصورة أشد بكثير مما يمكن للدّيانِ الرحيم أن يفعل بنا حين يحاسبنا، وما زلنا لا نعرفُ اسمَه.‏

لكن لدينا العلم الآن، وسنبحَثُ بواسطتِهِ عن الحقيقة من جديد، فنعتنقها بوعي هذه المرّة المعرفةُ فوقَ الإحساس. الوعي بالحياة فوق الحياة نفسها، العلمُ يمنَحُنا الحكمة والحكمة تكشف لنا القوانين، ومعرفة قوانين السعادة فوق السعادة"(4).‏

هذا ما قالوه، وبعد تلك الكلمات ارتفعت نرجسيّةُ كلٍ منهم فوق الآخرين، وما كان بمقدورهم أن يتصرّفوا بغير ذلك. وازدادت غيرةُ كلٍ منهم على شخصيّتِهِ وأصبح يسعى إلى إذلالِ شخصيّات الآخرين والخفض من شأنها، واعتمد على بقائه الشخصي فحسب، وظهرت العبوديّة، بل العبوديّة الطوعية أيضاً: فخضَعَ الضعفاءُ للأقوياء طوعاً، طمعاً في مساعدتهم على سحقِ من هم أكثر منهم ضعفاً. ظهَرَ نفرٌ من الصالحين؛ ممّن قدموا على هؤلاء البشر والدموع في عيونهم ناصحين لهم؛ فحدّثوهم عن صلفهم، عن فقدانِهم الاعتدال والاتساق (الهارمونيا)، عن فقدانهم الخجل، فسخروا منهم، وقذفوهم بالحجارة أحياناً، فسال الدمُ المقدّسُ على عتباتِ المعابد. وبالمقابل ظهَرَ نفرٌ من الناس راحوا يفكرونَ: كيف يعيدونَ الوحدة بين الناس، بحيث يبقى الواحدُ من البشر يحبُ نفسه أكثرَ من الجميع، ولكن لا يقفُ في طريق غيره، فيعيشُ الجميعُ في مجتمعِ الوئام.‏

واندلعت حروبٌ كاملة بسبب هذهِ الفكرة، وكانَ كلُ المحاربين يؤمنون بقوّة أن العلم والحكمة والرغبةَ في البقاء ستجبرُ الإنسان في النهاية على الاجتماع في مجتمعٍ عاقلٍ ومبنيٍ على الوفاق، ولأجلِ هذهِ الغاية، سعى "الحكماءُ" بسرعةٍ إلى تصفيةِ "غير الحكماءِ" جميعاً، ممّن لا يفهمونَ أفكارهم، كي لا يعيقوا الانتصار.‏

لكن رغبة البقاء الذاتي سرعان ما ضعُفت، لينهضَ المعتزّون بأنفسهم، المتجبّرون المندفعون خلف ملذّاتهم، والذين يطلبونَ كلّ شيء أو لا شيء، ولأجلِ الحصولِ على كل شيء لجؤوا إلى الوحشيّة ـ فإن لم يبلغوا غايتهم فإلى الانتحار!‏

ظهرت دياناتٌ تدعو إلى العدم وتدمير الذات لأجلِ الراحة الأبديّة في اللا وجود.‏

وأخيراً تعب هؤلاء البشر من عملهم اللا مجدي، وظهرت على وجوههم علائم المُعاناة، فنادوا بأن العذاب والمعاناة هما الجمال، لأن الفكَرَ في العذاب. ومضوا يغنونَ الألمَ في أغنياتهم. وكنتُ أتجوّل فيهم منحنيَ اليدين؛ باكياً لأجلهم، وشاعراً بالحب نحوهم رُبّما أكثرَ من ذي قبل، حين لم يكن العذابُ يعلو وجوههم، وكانوا بريئين رائعين.

وأحببتُ الأرضَ التي دنّسوها أكثرَ مما مضى؛ يومَ كانت جنّةً، لأن الألمَ قد ظهَرَ على سطحها، وآ أسفاه لقد أحببتُ الألمَ والعذابَ دائماً، أحببتُهما لنفسي، لنفسي فحسب، أما لأجلهم فقد بكيتُ ورثيت. ورحتُ أبسطُ يدي نحوهم مديناً نفسي، لاعناً ومحتقراً إيّاها حتى الهذيان، قلت لهم إن كل هذا إنما صنعتُهُ أنا، أنا وحدي، وأنا الذي حملتُ إليهم الفساد، والعدوى والكذب وتضرّعت إليهم كي يصلبوني وعَلَّمتُهم كيف يصنعون الصليب. لم أكن من القوّة بالمقدار الذي يجعلني أقتلُ نفسي، لكنني أردتُ أن أحمِلَ عذاباتِهم جميعها، وكنت أتحرّقُ للألم والعذاب، وأتمنى أن يسفح دمي حتى آخر قطرة في سبيل ذلك، ولكنهم ما زادوا عن الضحكِ مَما أفعله، ثم اعتبروني مجنوناً مجذوباً في النهاية، واعترفوا لي قائلين أنهم حصلوا على ما تمنّوه لأنفسهم فحسب، وأن كل ما هو موجود الآن؛ ما كان بالإمكانِ إلا أن يوجد. في النهاية أعلنوا إنني أصبحتُ خَطِراً عليهم، وسيحبسونني في بيت المجانين، إن لم أصمت، عندها نفذَ الحزنُ إلى نفسي بصورةٍ شديدةٍ، أحسستُ أن قلبي جراءَها قد انقبَضَ بقوّة، وأنني أموت... وعندها، في تلك اللحظة صحوتُ من النوم.‏

كان الوقت فجراً، والضياءُ لم يعمَّ بعد، الساعة تقاربُ السادسة، وجدّتُني جالساً على المقعدِ نفسه، والشمعَةُ قد احترقت حتى النهاية، في غرفة الكابتن الكل ينام، والهدوءُ يعمُّ كما لا يحدثُ عادةً في بيتنا هذا.‏

أوّل شيء فعلتُه هو أنني قفزتُ واقفاً واعترتني دهشةٌ غريبة، فأنا لم يسبق أن حدثَ لي ما حدث اليوم، حتى بخصوصِ الصغائرِ: كأن أنام على مقعدي جالساً. حين وقفتُ واستعدتُ رشدي لاحظتُ مسدّسي المحشو الجاهز ـ فأبعدتُهُ جانباً بسرعة آه.. الحياةُ الآن.. الحياة! رفعتُ يديّ مبتهلاً للحقيقة الأبديّة، بل باكياً باكياً باندفاعٍ شديد لا حدود له، رَفَعَ وجودي كُلَّه، نعم عليّ أن أحيا ـ وأُبشّر!‏

آه حول التبشير حسمتُ موقفي في اللحظةِ نفسها، وبالطبعِ حتى نهاية حياتي!‏

سأنطلقُ مبشِّراً، وأريدُ أن أبشّر ـ لكن بماذا؟ "بالحقيقة!"، فقد رأيتُها، رأيتها بعينيَّ، رأيتُ مجدها كُلّه!‏

وهكذا ومنذ ذلك الوقت رحتُ أُبشّر!، ووجدتُني أُحبّ أولئكَ الذين يسخرونَ مني أكثر بكثير ممّا أحبُ غيرهم، أما لماذا ـ فلا أعلم ولا أجدُ تفسيراً لذلك، ولكن فليكن ما الضير! يقولونَ الآن إنني ضللتُ الطريق، وما دمتُ قد فعلتُ ذلك الآن فإلى أين سأصل؟ وهذه حقيقةٌ لا غبار عليها: لقد ضللتُ وقد تسوءُ الأمور أكثر في المستقبل. ولا شكَ أنني سأضيعُ أكثر من مَرّة قبل أن أهتدي إلى سواء السبيل، فأعرف كيف عليّ أن أبشّر وبأيةِ كلماتٍ وأفعال، لأن هذا الأمر في غاية الصعوبة، وأنا أعلمُ هذا وأراهُ واضحاً كالنهار منذ الآن، لكن اسمعوا: من مِنّا لا يضل الطريق! ومع ذلك نسيرُ جميعاً إلى غايةٍ واحدة، أو لنقل يسعى الجميعُ إلى نهايةٍ واحدةٍ، من الحكيم حتى آخرِ مجرم، وإن اختلفت السُبُل، رُبّما كانت هذهِ حقيقةٌ قديمة، ولكن إليكم الجديد: أنا إن خُدعتُ ـ فليسَ إلى زمنٍ طويل، لأنني رأيتُ الحقيقةَ، لقد رأيتُ وعرفتُ أن البشر يمكن أن يكونوا رائعين وسعداء دون أن يفقدوا القدرة على الحياة فوق سطح الأرض.‏

أنا لا أريدُ ولا أستطيعُ أن أصدّق أن الشر حالة طبيعيّة للإنسان، غير أنّهم جميعاً إنّما يسخرون مني بسبب اعتقادي هذا، ولكن كيفَ بإمكاني ألا أؤمن بذلك: لقد رأيتُ الحقيقة ـ ولم أختلق الأمرَ ذهنيّاً، لقد رأيتُها.. رأيتُها، وامتلأت روحي "بأُنموذجها الحي" إلى الأبد. شاهدتُها في تجلّيها المطلق، ولم أصدّق أنها لن تتحقق عند البشر. وهكذا، كيفَ لي ألا أضل؟ وأنحرف، بالطبع سيحدُثُ ذلك أكثر من مَرّة، وقد أتحدّثُ بكلامٍ غريب، ولكن ليس لوقتٍ طويل: فالأنموذج الحي الذي رأيته سيبقى معي دائماً؛ يُصححُ لي ويوجّهني. ها أنذا شجاعٌ، وفي نضارة الشباب وسأمضي وأمشي ولو ألف سنة، هل تعلمون؛ لقد أردتُ في البدايةِ حتى إخفاء خبرِ إفسادي لهم جميعاً، وقد كانت تلك غلطة ـ أوّل غلطةٍ لي!‏

لكن "الحقيقة" سرعان ما وشوشتني: إنني "أكذب"، وبالتالي حفظتني وسددت خُطاي. كيف يمكن أن نبني الجنّة ـ لا أدري، لأنني لا أستطيعُ أن أعبّر عن ذلك بالكلمات، بعد حُلمي ذاك ضيّعتُ الكلمات، على الأقل؛ الكلمات الرئيسةُ كُلّها، الضروريّة جداً. ومهما يكن: سأمضي وأتحدّث دونَ كلل، لأنني قد عاينتُ بعينيَّ هاتين، حتى ولو لم أستطع وصف ما رأيت.‏

ولكن المستهزئين في كل الأحوال لن يفهموا: "حُلمٌ، هذيان، هلوسة". إيخ... هل هذا من الحكمةِ في شيء؟! وسيعتزّونَ بكلامهم كثيراً!. حُلم؟ وما هو الحلم؟‏

وهل حياتنا أكثر من حلم؟ وسأقول أكثر من ذلك: فليكن أن كل ذلك لن يتحقق وأن الجنَّة لن توجد أبداً (وأنا أفهم تماماً ذلك) ـ لكنني ورغم ذلك سأنطلقُ مُبشِّراً، فما أسهل الأمر رغم كل شيء: فمن الممكنِ في يومٍ واحد، بل (في ساعةٍ واحدة) ـ أن يُعَادَ بناء كل شيء وبالسرعة القصوى؛ وإنما المهم ـ أن تحبَّ الآخرين كما تحب نفسك، وهذا هو الأمرُ الرئيس(5)، الذي لا يعدِلُهُ أمر: فمتى حققتموهُ بنيتُم الجنَّة. وبالمناسبة هذهِ حقيقةٌ قديمة قرأها البشَرُ ورددوها بلايين المَرّات. فكيف إذاً يمكن التعايشُ مع الفكرة التي تقول: "إن وعي الحياة فوق الحياة نفسها، ومعرفة قوانين السعادة ـ هي أعلى من السعادة" ـ إن ما يجبُ النضال ضده هي هذهِ الفكرة بالتحديد! وسأفعل ذلك. ما أن يَرغبَ الجميعُ في شيء حتى يتحقق من لحظتِها.‏

أما تلك الطفلة فسأجدها... سأمضي... وأمضي وأمضي!‏

تمت
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.09158 seconds with 11 queries