عرض مشاركة واحدة
قديم 12/06/2008   #42
شب و شيخ الشباب Seth
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ Seth
Seth is offline
 
نورنا ب:
Jun 2006
مشاركات:
197

افتراضي


ولعل هذا المنهج هو ما قاد العلويين إلى مناهضة المنصور، فما دام النسب هو الفيصل، فهم أقرب إلى الحكم، وأحق بالخلافة، وقد دار حوار طريف بين المنصور من ناحية، ومحمد العلوي المشهور باسم (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم من ناحية أخرى، ومبعث الطرافة أن الحوار كله يدور حول إثبات أحقية الخلافة بالنسب، مع تجاهل كامل لما يسمى بالشعب، أو ما كان يطلق عليه وقتها اسم الرعية، فمحمد (النفس الزكية) وأخوه إبراهيم، يريان أنهما من نسل علي وفاطمة، وأنهما حفيدا الرسول، وأنهما بهذا ولهذا أحق، والمنصور يرى أن العم أقرب من ابن العم، وأنه بذاك ولذاك أحق، وأنا – بعد استئذان القارئ – أرى أنها مأساة أن أبايع حاكماً لمجرد أنه من نسل علي، أو أناصر حاكماً آخر لأنه من نسل العباس، وأتجاوز فأقول: أنه لو عاش للرسول من نسله ذكور، ما بايعت حفيداً من أحفاده لمجرد انتسابه إليه، فالنبوة لا تورث، والصلاح لا ينتقل بالضرورة للأبناء، ولا مانع أن يكون (نوح) نبياً، وأن يكون ابنه في ذات الوقت (عمل غير صالح).

غير أن الطريف في حوار المنصور والنفس الزكية، أنه انتقل إلى الغمز، فالنفس الزكية يرد على عرض المنصور بالأمان بغمزة موجعة حين يذكر (أي الأمانات تعطيني؟ أمان ابن هبيرة؟ أم أمان عمك عبد الله بن علي؟ أم أمان أبي مسلم؟)، فيرد عليه المنصور غامزاً في الحسن"جد النفس الزكية"قائلاً: (ثم كان الحسن فباعها معاوية بخرق ودارهم، ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمر إلى غير أهله).

والمنصور يشير إلى مبايعة الحسن لمعاوية أو بمعنى أدق إلى الصلح بينهما، ذلك الصلح الذي أثار مشكلة بسبب بطء (وسائل الاتصال) في تلك الأيام، فقد أرسل الحسن إلى معاوية يصالحه على شروط مالية. وفي نفس الوقت كان معاوية قد ارسل إلى الحسن صحيفة بيضاء ختم أسفلها وترك للحسن أن يشترط فيها ما يشاء، ووصلت الرسالتان في وقت واحد، وطمع الحسن فكتب في صحيفة معاوية شروطاً جديدة طلب فيها أضعاف ما طلب في رسالته، وعندما التقيا تمسك معاوية بخطاب الحسن وتمسك الحسن بخطاب معاوية ثم تصالحا على خمسة ملايين هي أموال بيت مال الكوفة (تاريخ الأمم والملوك للطبري، ج4 – ص121 – 125).

ولسنا في مجال تقييم فعل الحسن، وحسبنا أن نذكر أنه استراح وأراح، أراح المسلمين من القتال، وأراح عبد الله بن عباس (الذي ما أن علم بالذي يريد الحسن عليه السلام أن يأخذه لنفسه حتى كتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التي أصابها فشرط ذلك له معاوية).

وسوف يهنأ ابن عباس بما حصل عليه من مال البصيرة حتى نهاية حياته، فقد قتل علي وتنازل الحسن وسمح معاوية، وسوف يهنأ أيضاً الحسن بمال الكوفة حتى حين، فسوف يتخلص منه معاوية بدس السم له حين يرشح يزيداً لخلافته، ونعود إلى المنصور، الذي لم يتحمل محاورة محمد طويلاً، فقبض على أبيه وعمومته وكثير من أهله وحبسهم معذبين حتى الموت، وهاجم محمداً بالمدينة وقاتله حتى قتله، ثم هاجم أخاه إبراهيم في البصرة وقاتله حتى قتله ولم يكن المنصور في ذلك كله مدافعاً إلا عن الملك، فقد (ذكر أن المنصور هيئت له عجة من مخ وسكر فاستطابها، فقال: أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأشباهه) (مروج الذهب للمسعودي – ج3 ص309).

والشاهد هنا أن أحد الطرفين كان يدافع عن (النسب)، وأن الطرف الآخر كان يدافع عن (العجة)، وإن المسلمين في الفريقين كانوا يعتقدون أنهم يدافعون عن صحيح الإسلام، دليلنا على ذلك ما حفلت به خطب الفريقين من آيات وأحاديث ووعد بالجنان ووعيد بسقر، ولم يكن الأمر عسيراً بالنسبة لمحمد وإبراهيم فآيات الحكم بما أنزل الله موجودة وما أيسر أن ينتقل منها إلى الحديث عن شمائل الرسول، وفضائل علي، ولم يكن الأمر عسيراً أيضا على المنصور، فما أكثر الأحاديث عن شق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، وما أيسر الاستشهاد بآيات الإفساد في الأرض، فقد روي عن المنصور أنه عندما تسلم كتاب انتصار جيشه على إبراهيم، تلا هذه الآية:

(والقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب المفسدين). ثم صعد إلى المنبر وقال: السعيد من وعظ بغيره، اللهم لا تكلنا إلى خلقك فنضيع ولا إلى أنفسنا فنعجز، فلا تكلنا إلا إليك.

وهكذا أقنع أفراد جيش المنصور أنفسهم بأن الله نصر الحق بهم، وسيجزي الله الشاكرين، وأقنع من تبقوا من جيش محمد وإبراهيم أنفسهم بأنه اختبار من الله، وبلاء إلى حين، وسيجزي الله الصابرين، وانطلق كل فريق قانعاً بما اعتقد أنه جزاؤه من عند الله، ولم تنقل لنا كتب التاريخ خلال ذلك كله موقفاً مشهوداً لفقيه، أو دفاعاً طلياً عن الحق من إمام من أئمة المسلمين، وما أكثرهم في عهد المنصور، فقد عاصره أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي، وعمرو بن عبيد، وسفيان الثوري، وعباد بن كثير، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهم، وما كان تعذيب المنصور لأبي حنيفة وحبسه وجلده ودس السم له في النهاية إلا لرفضه ولاية القضاء، وما كان جلد المنصور لمالك وهو عاري الجسد غير مستور العورة تشهيراً به إلا لذكره حديثاً عن الرسول لم يعجبه، وكلا الموقفين لا يصلحان نموذجاً للجهاد، أو مثالاً على مناوأة الحاكم إن حاد، أو دليلاً على أن الحق يعرف بالرجال، وينصر بالرجال، وينبري للدفاع عنه الرجال..

ولا بأس أن ننهي حديث المنصور، بحديث ابن المقفع الذي أرسل للمنصور كتاباً صغير الحجم، عظيم القيمة أسماه (رسالة الصحابة) نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه، وحسن سياسة الرعية، وكان في نصحه رفيقاً كل الرفق، رقيقاً غاية الرقة، ولعله كان ينتظر من المنصور تقديراً أدبياً ومادياً يليق بجهده، ولعله لم يتصور أن مجرد إسداء النصح للمنصور جريمة، وأن غاية دور الأديب في رأي المنصور أن يمدح، ومنتهى دور المفكر أن يؤيد، وأن عقاب من يتجاوز دوره كما فعل ابن المقفع، أن يفعل به كما فعل بابن المقفع، الذي قطعت أطرافه قطعة قطعة، وشويت على النار أمام عينيه، وأطعم إياها مجبراً، قطعة قطعة، حتى أكرمه الله بالموت في النهاية ولعله تساءل وهو يمضغ جسده بأمر أمير المؤمنين، أي أمير وأي مؤمنين، ولعله أدرك ساعتها ما نتمنى أن يدركه من يتنادون بالخلافة، ويتغنون بالشورى، ويهاجمون الحكام (العلمانيين) ويتصورون في الدولة الدينية ملاذاً .

وفي الحكم باسم الإسلام موئلاً ورحمة، وفي التطبيق الفوري للشريعة وحدها عدلاً واستقامة، وفي الديموقراطية جوراً وحكماً بالهوى، ولعلنا نذكرهم أن المنصور وإن دخل التاريخ من باب الجبروت إلا أنه تركه من باب رجال الدولة العظماء، وهو إن جار فبفتوى البعض من الفقهاء، وخوف البعض وصمت البعض الآخر، وهو إن قسا فبهدف بناء هيبة الدولة، وأركان الحكم بمقاييس عصره، وهو إن أسال الدماء أنهاراً، فقد بنى بغداد والرصافة وحمى ثغور الدولة الإسلامية، وأعاد التماسك إلى بنيانها، وكانت حكمته البليغة نصب عينيه:

"إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك، وإلا فقبلها".

لا اله الا الانسان
نشأ الدين عندما التقى أول نصاب بأول غبي
Religion can never reform mankind , because religion is Slavery
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05063 seconds with 11 queries