عرض مشاركة واحدة
قديم 26/10/2006   #17
post[field7] التصحيح
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ التصحيح
التصحيح is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
مشاركات:
114

افتراضي


واما عن محاكم التفتيش الاسبانية فحدث ولا حرج ! فعندما استسلمت مملكة غرناطة (وهي أخر دولة اسلامية في اسبانيا) عام 1492 وعدوا المسلمين بالسماح لهم بممارسة شعائرهم الدينية مقابل خضوعهم للسلطة الجديدة. ولكنهم سرعان ما نقضوا هذا الوعد وراحوا يلاحقونهم. ووضعتهم الملكة الشهيرة "ايزابيل " امام خيارين لا ثالث لهما: اما اعتناق المسيحية، واما الطرد من البلاد. وقد اضطر قسم كبير منهم لاعتناق الدين الغالب من اجل البقاء على قيد الحياة. ولكن مع ذلك ظلوا يلاحقونهم ويشتبهون بهم وبأنهم يمارسون شعائرهم الاسلامية سرا واتهموهم بالزندقة واشعلوا المحرقة لمعاقبتهم جسديا. ولكن حتى هذا الحل لم ينجح كليا في حل المشكلة الاسلامية في اسبانيا فكان ان لجأرا الى الطرد الجماعي.(6) ففي عام 1609- 1610 تم طرد ما لا يقل عن ( 275000) شخص الى البلدان الاسلامية المجاورة كالمغرب وتونس والجزائر بل وبعض البلدان المسيحية الاخري. وهكذا تم حل المشكلة عن طريق الاستئصال الراديكالي.. ثم يقولون لك بان التعصب خاص فقط بالاسلام ولا علاقة له بالمسيحية. ننتقل الآن الى ما حصل بعد عصر النهضة والاصلاح الديني في القرن السادس عشر. فمنذ تلك الفترة يؤرخ عادة للعصور الحديثة. نقول ذلك على الرغم من ان هذه العصور لم تنتصر حقيقة على العنصرية والتعصب الا بعد مائتي سنة: اي في اواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر. عندئذ حصلت القطيعة الابستمولوجية (او المعرفية) الكبرى بين العصور الوسطى والعصور الحديثة. بعد اندلاع حركة الاصلاح الديني وحركة النهضة في القرن السادس عشر اصبح العدو الاول لروما والفاتيكان شخصين اثنين هما: البروتستانتي والنهضوي. بمعنى آخر اصبح لوثر(7) هو العدو، وكذلك ايراسم ( 8 ) زعيم عصر النهضة. ولذلك اطلق البابا فتواه الشهيرة بتكفير لوثر وفصله من الكنيسة عام 1521.
وبدءا من تلك اللحظة انقسم العالم المسيحي في اوروبا الى قسمين: قسم كاثوليكي وقسم بروتستانتي. ودارت بينهما المعارك والحروب على مدار مائتي سنة تقريبا. وهي حروب الاديان الشهيرة التي ذهب ضحيتها عشرات الألاف، بل ومئات الآلاف من القتل. وبلغت هذه الحروب ذررتها في فرنسا في الفترة الواقعة بين عامي 1562-1598. فقد هاجت الجماهير الكاثوليكية على افراد الاقلية البروتستانتية ومزقتهم اربا في مختلف المدن والارياف الفرنسية. وكان ان حصلت تلك المجزرة الشهيرة باسم مجزرة سانت بارتيليمي" التي ذهب ضحيتها اكثر من خمسة آلاف شخص خلال يوم واحد او ثلاثة ايام في باريس. وفر البروتستانت الفرنسيون الى مختلف انحاء اوروبا، بل والى مختلف اصقاع العالم. ولا تزال بعض عائلاتهم تحافظ على اسمائها الفرنسية حتى الآن بعد ثلاثمائة سنة من اقامتها في المانيا، او هولندا، او السويد، او انجلترا، او حتى كندا.
وكان ذلك ابان عهد الملك لويس الرابع عشر، الملقب بالملك - الشمس نظرا لسطوته وهيبته. وقد اعتذر البابا للبروتستانت هذا العام عن مجزرة سانت بارتيليمي واعترف ضمنيا بالتعصب الكاثوليكي والاعمال الوحشية التي ارتكبوها بحق اخوانهم البروتستانت. فعلى الرغم من انهم جميعا مسيحيون، الا ان الحزازات المذهبية كانت شديدة بينهم، ولكن البروتستانت فعلوا الشيء ذاته مع الكاثوليك في البلدان التي كانوا يمثلون فيها الاغلبية. فالتعصب اذن يجيء من جهتين لا من جهة واحدة.
وفي أواخر القرن السادس عشر تمت ملاحقة كتب ايراسم ولوثر ووضعت على قائمة الكتب الممنوعة (او المحرمة). بل واحرقت في الساحات العامة وفي القرن السابع عشر حصل الشيء نفسه لكتب ديكارت التي اعتبرت خارجة على الدين. واما الفيلسوف سبنيوزا فقد عانى من التعصب اليهودي والمسيحي في آن معا. فقد حاول احد اليهود المتعصبين اغتياله، ولكن ضربة الخنجر لم تمزق الا معطفه السميك لحسن الحظ. واما في القرن الثامن عشر فان المعركة اندلعت على المكشوف بين فلاسفة التنوير وبين زعماء الاصولية المسيحية. وكانت معركة ضارية استخدمت فيها كافة الاسلحة من فكرية وغير فكرية. وتوجت اخيرا بانتصار عصر التنوير على الظلامية المسيحية. وهكذا انتصرت القوى الجديدة الصاعدة على القوى القديمة الماضوية. وبدءا من تلك اللحظة انطلقت اوروبا واقلعت حضاريا بسرعة مذهلة وسيطرت على العالم. ولكن هذا لا يعني ان القوى الاصولية قد سلمت نفسها بسهولة. فالواقع انها ظلت تحارب قوى الاستنارة وتحاول عرقلة التقدم طيلة القرن التاسع عشر وحتى مشارف القرن العشرين.
والدليل على ذلك ما حصل للأب "الفريد لوازي"(9) الذي فصل من كل مناصبه الجامعية بسبب آرائه الجريئة. فعلى الرغم من انه رجل دين مؤمن الا ان الاصوليين لم يستطيعوا تحمل استنارته الفكرية وسعة أفقه واطلاعه. ومن المعلوم انه كان قد تزعم في فرنسا تلك الحركة الشهيرة المدعوة: بالحركة الحداثية. (le modernisme). فقد حاول تطبيق المنهج التاريخي على النصوص المسيحية الاساسية واضاءها من الداخل بشكل لم يسبق له مثيل من قبل. واثبت ان عيسى ابن مريم (عليه السلام) هو نبي فقط ولا يتصف بصفة الالوهية التي تتجاوز النبوة كما يزعم المسيحيون. فقامت الدنيا عليه ولم تقعد فترك باريس وهاجر الى الريف معزولا ومنبوذا. ثم أصدر البابا قرار تكفيره وفصله من الكنيسة عام 1908. وكانت كتبه قد وضعت على قائمة الكتب المحرمة قبل ثلاث سنوات فقط من ذلك التاريخ: الى عام 1953. وأصدر البابا بيوس العاشر عندئذ قرارا بادانة الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية وحقوق الانسان ومجمل الافكار الحديثة. واعتبرها كفرا ما بعده كفر.
وهكذا اندلع الصراع من جديد بين الحداثة الفكرية الصاعدة وبين الاصولية المسيحية المتشددة. ولم يحسم هذا الصراع الا عام (1962) عندما انعقد المجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني. فقد شعر المسيحيون عندئذ انه لا جدوى من مناطحة العصر الى ما لا نهاية، وانهم سوف يخسرون آخر مواقعهم اذا ما استمروا على خط التشدد والتزمت. وهكذا اعترفوا لاول مرة بشرعية المنهج التاريخي والتأويلي الحديث للدين. كما وقدموا تنازلات أخرى عديدة لأفكار وتوجهات العصور الحديثة. وهكذا توصلوا الى صيغة تصالحية بين المسيحية والحداثة، صيغة توفيقية تعطي لكل ذي حق حقه. ولكن بقيت هناك نواة متشددة ترفض مقررات هذا المجمع الكنسي الجريء وتصر على مواقعها التقليدية. واندلع الصراع عندئذ بين المسيحيين انفسهم: اي بين الاتجاه الليبرالي التحديثي/ والاتجاه الاصولي المنغلق. ولا يزال هذا الصراع دائرا حتى اليوم وان كانت الغلبة قد تحققت للاتجاه الاول. والواقع انه لولا تطور المجتمعات الاوروبية على كافة الاصعدة من علمية وتكنولوجية واقتصادية وارتفاع مستوى المعيشة لما استطاع الاتجاه العقلاني ان ينتصر على الاتجاه السلفي المتشدد. هكذا نجد ان هذه المعركة، اي معركة الاصولية، قد استغرقت من اوروبا مدة ثلاثمائة سنة حتى حلت مما يدل على مدى صعوبتها ووعورتها وخطورتها. ولولا انتشار العقلانية والروح العلمية في اوساط واسعة من المسيحيين الاوروبيين لما استطاع خط التقدم والتنوير ان ينتصر اخيرا.
 
 
Page generated in 0.19487 seconds with 11 queries