الموضوع: أسبوع وكاتب ...
عرض مشاركة واحدة
قديم 31/08/2007   #501
شب و شيخ الشباب وائل 76
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ وائل 76
وائل 76 is offline
 
نورنا ب:
Jul 2006
المطرح:
Gaza Palestine
مشاركات:
2,210

افتراضي عينان في عالم آخر " قصة فصيرة "


عينان في عالم آخر ..

في ذلك المؤتمر الذي قيل أنه سيناقش آخر المستجدات على الساحة ، و في زاوية أحد الصفوف الخلفية جلس وائل ، لم تكن عيناه اللتان اعتادتا العتمة في سجن نفحة تستطيعان أن تبصرا الأشياء البعيدة ، و لكن لا يهم طالما أن أذنيه سليمتان فلن يفوته شيء ، فقد تدربت أذناه على استقصاء الأصوات البعيدة خلال سجنه الطويل عندما كان يصغي جيداً لوقع أقدام الجنود خلف باب الزنزانة بينما كان رفاقه يخيطون الأعلام من بقايا ملابسهم و يصنعون من أشيائهم البسيطة هياكل جميلة تجسد مشاهد الانتفاضة استعداداً للاحتفال بالمناسبات الوطنية التي كانوا يحاولون أن يتواصلوا خلالها مع رفاق النضال في شوارع الوطن ..

- الله على تلك الأيام ..

قال محدثاً نفسه بصوت مهموس تنبه له ذلك الجالس إلى جانبه دون أن يكلف نفسه عناء الالتفات لصاحب الصوت ..

كانت نظرات هذا الذي بجانبه تحمل الكثير من ملامح القلق و الترقب الموزّع بين ساعته و مدخل تلك القاعة التي امتلأت بالحضور ..
طبعاً فالمتحدث مسؤول كبير اعتاد الناس أن يشاهدوه على الشاشات ليتحدث باسمهم ، و هم يعتبرون رؤيته أمامهم وجهاً لوجه مغنماً كبيراً يحرصون عليه ..

- ترى لو قمت بدعوة هؤلاء إلى لقاء تضامني مع الأسرى في السجون فكم سيحضر منهم ؟؟

هكذا كان يحدث نفسه في اللحظة التي دخل فيها ذلك المسؤول الكبير و المنتفخ جداً لدرجة جعلت الجميع يقف تحية له ..

لكن وائل ظل جالساً في مكانه يراقب تلك الوجوه التي لا يميز ملامح أغلبها ، و ابتلع دون اكتراث نظرة ازدراء من ذلك الرجل المجاور له ..
- لا بد أنني الآن قليل أدب في نظره أو لربما تم تصنيفي ضمن قائمة المدسوسين من جهات خارجية ..!

لا يهم .. جميل أن لا ترى عيون الإنسان كل شيء ، فهو سيكون حراً في التصرف بتلقائية دون أن تحاصره وجوه جامدة لا يحب أن يراها ..

جلس الجميع و توجهت الأنظار و الكاميرات نحو المنصة التي بدت لوائل مسرحاً تتراقص عليه أشباح متشابهة ...

بدأ ذلك ( المناضل ) حديثه عن الشهداء و رحلة الكفاح الطويلة ، و حيّا الجرحى و المعتقلين بنفس الكلمات التي اعتاد الجميع على سماعها كمقدمة للسخافات التي ستأتي بعدها ..

كان كلامه قد اختير بشكل جيد يتناسب مع مستجدات المرحلة و يراعي وجود الصحافة و الكاميرات الأجنبية التي يجب الحرص على جعل صورتنا تبدو أمامها جميلة (حضارية) و بأعلى درجات حسن النية و الدبلوماسية ..

جال وائل ببصره بين تلك الوجوه الغريبة عنه ..
- واضح أنهم جميعاً من المنتفخين ... مؤكد لا يوجد بينهم واحد من أبناء المخيمات ..
سبحان الله .. حتى الوطنية أصبحت خاضعة للاعتبارات الطبقية ، فوطنية البرجوازيين لها خصائص و طقوس تختلف عن وطنية الفقراء ..

ما زالت كل الوجوه تتابع باهتمام بالغ كل ما يقال ، بينما رحلت أنظار وائل إلى حيث يستطيع أن يرى جيدا ..

كان يوماً مشهوداً في تاريخ السجناء هناك ...
- اليوم سنحيي ذكرى الانتفاضة الباسلة التي انطلقت عام 87 ، و التي كنتم أنتم وقود ثورتها و نواتها الأولى ..
هكذا بدأ وائل كلماته يومها مخاطباً إخوانه في السجن ..

كانت تكبيرات الرجال الحقيقيين تتعالى و تشق جدران السجن ، مع علمهم بأن سجانيهم لن يفوتوا عليهم ذلك التمرد دون عقاب ..
و مع ذلك أبوا إلا أن يرفعوا الأعلام التي هربت خيوطها الأمهات و الزوجات في الزيارة الأخيرة .. و أنشدوا جميعاً للوطن و الحرية و الفدائيين ، و أقاموا صلاة الغائب على أرواح الشهدداء و عاهدوا فلسطين على ألا يستسلموا ..

و جاء العقاب كما توقعوا من إدارة السجن ، فبعضهم حرم من حقه في النوم و الطعام و بعضهم تعرض للضرب ، أما وائل فقد أحيل إلى زنازين العزل بصفته الرأس المدبرة لكل تلك المشاغبات ..

و في عزله عاش أياماً طويلة مع العتمة ، حتى أصبح الظلام جزءاً من عينيه ،
لم يشأ أن يذهب إلى طبيب العيون بعد خروجه ، فشكل الحياة أجمل هكذا و كل ما فيها لا يستحق المشاهدة و التأمل ...

ما زال ذلك المسؤول يتكلم بأشياء غريبة لم يجدها وائل في قاموسه الذي شكل كلماته بالدم و المقاومة ...
- من أي كوكب أتيت يا وائل ، و كيف ستكون قادراً على المواصلة في عالم كهذا ..
كل شيء أصبح غريباً ، و كلماتنا القديمة صارت تراثاً لا يستذكر إلا لرفع العتب، و يوماً بعد يوم ستنسى و تحل مكانها كلمات حديثة تلائم الواقع الجديد ..

انتهى ذلك المسؤول من الحديث ، و بدأ الحضور يوجهون له اسفساراتهم بأدب جم و تأن شديد خشية الوقوع في خطأ لا تحمد عواقبه ..
و لا بد أن يشحن السؤال بكثير من عبارات التقدير و التبجيل و الشكر الجزيل على كرمه في منحهم جزءاً من وقته الثمين لمناقشة القضايا التي تهمهم ..

- اللعنة عليكم جميعا ..
هكذا كان وائل يجيبهم بصوته المهموس و الذي لم يكن يسمعه سواه هذه المرة ..
- ماذا تعرف عن المعاناة أيها الثرثار .. و ماذا تعرف عن الفقراء الذين تتحدث باسمهم ، و من ألبسك ثوب النضال هذا قبل أن يسألك عن رصيدك فيه ؟؟

انتهى المؤتمر و بدأ الجميع يتدافعون صوب ذلك المسؤول ليتبركوا بالسلام عليه بينما كانت نظراته تلاحق مصوري و مراسلي الوكالات الأجنبية ليطمئن بأن كلامه كان له وقع طيب عليهم و لم يكن فيه ما يسيء إلى الإنسانية و منطق العقلانية الجديد ..
فهؤلاء في نظره الوحيدون القادرون على الحكم على الأمور و تصنيفها ، أما الناس العاديون فلا بأس من مجاملتهم و شحن عواطفهم ببعض الشعارات الحماسية في موقع آخر لا يكون فيه تواجد للمراسلين الأجانب ..

كان وائل آخر من خرج من تلك القاعة التي كانت أضواؤها ترهق عينيه و تحبس أنفاسه ..

- ليتني بقيت معكم أيها الأحبة ، ليتني لم أخرج لهذا العالم المزيف الذي أصبح كل شيء فيه قابل للتغيير و المساومة ، أنتم وحدكم من تعرفون قيمة الرجال .. و بينكم فقط أستطيع أن أتنفس بحرية و أرى بوضوح ..

على عتبة بيته كانت أمه جالسة ترقب مجيئه بقلق لم تستطع أن تخفيه ..

- أين كنت يا حبيبي .. ؟ لقد انشغل بالي عليك كثيرا ...
- و أين سأكون يا أمي ؟ في جبهة القتال يعني ..
- لقد قلقت عليك .. أولاد الحرام كثيرون هذه الأيام ..

قال بعد أن أخفى وجهه على صدرها الذي ما زال يشتاق لدفئه الفريد :
- ربما أصبحوا جميعاً يا أمي أولاد حرام ...
- من هم يا بني ؟؟
- إنسي الأمر الآن فأنا متعب جداً .. أحس بأنني لم أعد أقوى على فعل شيء .. ليتني أستطيع أن اسافر إلى كوكب آخر ..

أمسكت وجهه بكفيها و قالت :
- أنت بطل يا وائل .. و عيب على الأبطال أن يتعبوا ..عيب عليهم أن يتكلموا هكذا ..

لم يشعر وائل بتلك الدمعة التي انتفضت فجأة على وجهه ..
- ياه يا أمي .. منذ متى لم أسمع هذه الكلمة ، أنت دائماً تذكرينني بحقيقة لا أستطيع العيش معها هنا ..

- و هل هناك من ينكر ذلك .. كل الناس يعرفون من هو وائل الذي دوًخ اليهود قبل أن يمسكوا به ..

ابتسم وائل و كأن الأمس ينتصب أمامه بكل تفاصيله ..
أجابها و قد علت ملامحه ابتسامة أراد أن يخفيها :

- ما دمت تعترفين بهذا و تصرين على تذكيري به دائماً فلا أريد أن أرى دموعك لو حصل لي شيء جديد ، اتفقنا ؟؟

أجابت بسرعة كمن استدرك زلته فجأة :
- (أنا ما حكيت إشي غلط .. بعدين يعني هو لازم الأبطال ما يعيشوا حياتهم مثل باقي الناس .. أنت عملت اللي عليك و زيادة )

أجاب وائل ضاحكاً :
- هكذا كل الأمهات .. تريد الواحدة لابنها أن يكون دائماً بطلاً ، و لكن شريطة أن يظل أمام ناظريها و دون أن يمسه سوء ..

سألته بقلق و هو يهم مجدداً بالخروج :
- إلى أين ؟؟
- إلى المسجد ..
- حسناً و لكن لا تنس بعدما تعود أن تحلق لحيتك ..

أجاب مستغرباً :
- و لماذا ؟؟
- أنسيت أننا على موعد غداً لنذهب إلى دار أبي محمد لكي ترى ابنته ميسون ؟...
- طيب و ما دخل لحيتي في الموضوع ؟!
- لا شيء و لكنك ستبدو أجمل بدونها ..

لم يتمالك وائل نفسه و انفجر ضاحكاً و هو في طريقه للخارج و قد أدرك ما ترمي إليه والدته ..

كم أنت بارعة يا أماه في تبرير ما تريدينه بكلمات مناسبة دائما .. و لكنها كلمات صادقة و عفوية .. ليست كتلك التي تحاصرنا بها الأجواء لتحبس ما تبقى فينا من أنفاس ..


* لمى خاطر

إن تراب العالم لا يغمض عيني جمجمة تبحث عن وطن!

19 / 6 / 2007
 
 
Page generated in 0.04747 seconds with 11 queries