عرض مشاركة واحدة
قديم 12/07/2006   #19
post[field7] dot
مشرف متقاعد
 
الصورة الرمزية لـ dot
dot is offline
 
نورنا ب:
May 2006
مشاركات:
3,276

افتراضي


وفي يوم آخر ذهب الرشيد بنفسه إلى واعظ اسمه الفضل بن عياض يزوره في بيته. فأخذ الواعظ ينهال عليه بالتقريع والتخويف والتحذير من عذاب الله. فبكى الرشيد عند سماعه الموعظة حتى أغمي عليه. فلما أفاق من إغمائه قال للواعظ: " زدني". فزاده الواعظ، فأغمي على الرشيد مرة ثانية. فلما أفاق قال: " زدني". فزاده، فأغمي على الرشيد مرة ثالثة. فلما أفاق قال: " زدني" فزاده الواعظ .. فبكى الرشيد هذه المرة دون إغماء وقال للواعظ: " هذه ألف دينار خذها لعيالك، وتقوى بها على عبادة ربك".
وبعد كل هذا البكاء والخوف من الله، اشترى الرشيد جارية بمائة ألف دينار. ثم اشترى أخرى بستة وثلاثين ألف دينار غير أن هذه الجارية باتت عنده ليلة واحدة ثم أهداها إلى أحد أصحابه[38]
ويعتقد المرء أن رجال الدين يخافون الله ولا تأخذهم في الله لومة لائم، وأنهم دائماً يقفون في صف الحق، حتى لو عنى ذلك الوقوف ضد رأي الخليفة أو الحاكم. ولكن الأمر غير ذلك، فقد برع الفقهاء بما يسمونه " الحيل الشرعية" [39]. فهم يستطيعون أن يجدوا مسوغاً شرعياً لكل عمل مهما كان دنيئاً. والسلطان الظالم لا يعمل عملاً إلا بعد أن يجمع الفقهاء ويعرض عليهم الأمر. وهم ينظرون حينئذ إلى السلطان فإذا وجدوه مصمماً على ذلك العمل أسرعوا إلى ما في جعبتهم من الآيات والأحاديث المتناقضة فينفضونها أمامه ليختار منها ما يلائمه.
ويُروى أن يحيي بن عبد الله العلوي كان ثائراً على الرشيد في نواحي طبرستان، فكثر أتباعه واشتدت شوكته، وهرع الناس إليه من الكور والأمصار. فندب الرشيد إليه الفضل بن يحيي البرمكي. ولجأ الفضل هذا إلى طريقة الاستمالة والمصالحة مع الثائر بدلاً من القتال، فطلب من الرشيد أن يكتب له أماناً بخط يده.
أسرع الرشيد إلى كتابة الأمان وأشهد على نفسه فيه القضاة والفقهاء وجلة بني هاشم ومشايخهم ووجه به مع جوائز سنية فاخرة إلى الثائر العلوي عن طريق الفضل، وجاء العلوي بصحبة الفضل فلقيه الرشيد خير لقاء وأكرمه وأغدق عليه الأموال وأمر الناس بزيارته والتسليم عليه.
ثم تغير الرشيد عليه بعد ذلك وأراد الوقيعة به. فجمع الفقهاء عنده في مجلسه واستفتاهم في نقض أمان يحيي العلوي. حاول الفقيه المشهور، محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، أن يظهر للرشيد صحة الأمان وأنه لا يمكن نقضه. فجادله الرشيد في ذلك. وأصر الحسن على رأيه فحقد عليه الرشيد [40]. فنظر الرشيد إلى فقيه آخر، هو أبو البحتري القاضي، وسأله فكان الجواب عنده حاضراً. فقد أفتى بأن الأمان منتقض من عدة وجوه ثم ابتكر طريقة شرعية لتمزيقه. هتف الرشيد عند ذلك مسروراً: " أنت قاضي القضاة، وأنت أعلم بذلك". فمزق الرشيد الأمان ثم تفل فيه أبو البحتري. [41] ونحن نعلم أهمية العقد والميثاق عند الله، الذي لعن بني إسرائيل لنقضهم ميثاقهم: " فيما نقضوا ميثاقهم لعنهم الله وجعلنا قلوبهم قاسية" [42]. ولما تفل القاضي على عقد موثق من أمير المؤمنين، اكتفى العامة بما قال شاعرهم:
إذا جار الأمير وكاتباه وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويلٌ للأمير وكاتبيه وقاضي الأرض من قاضي السماء
ولأن العباسيين كانوا يريدون التشيع لأهل البيت، ويقصدون بأهل البيت العباس وأولاده، ولأن العباس في نظرهم أولى من علي وفاطمة بوراثة النبي، فقد تحمسوا لمحاربة الشيعة الفاطميين في مصر وشمال أفريقيا، كما حاربوهم في العراق.
يقول المقريزي: " إن القادر، الخليفة العباسي، جمع في بغداد مجلساً من القضاة والأشراف والفقهاء وجعلهم يكتبون محضراً يتضمن القدح في نسب الخلفاء الفاطميين ونفيهم من الانتساب لعلي بن أبي طالب. وكتب نًسخاً من هذا المحضر فسُيّرت في الآفاق"[43]
ولم يكن للخلفاء الفاطميين من هم إلا أن يشيدوا بفضل علي بن أبي طالب ويقيموا الاحتفالات بتمجيده. فقد أمر المعز الفاطمي أن يُكتب على سائر الأماكن بمدينة مصر: " خير الناس بعد رسول الله علي بن أبي طالب عليه السلام " [44]
وأخذ المصريون في العهد الفاطمي ينشرون الفكرة القائلة بأن معاوية " خال المؤمنين" باعتبار أن أخته كانت من أزواج النبي. وكانوا يقومون بالتظاهرات في شوارع القاهرة فيمتحنون المارة إذ يسألون أحدهم: " من خالك؟" فإن لم يقل معاوية ضربوه.[45]
ومما تجدر الإشارة إليه أن الفاطميين لم يكونوا أقل من غيرهم من سلاطين ذلك الزمان ترفاً أو ظلماً، ولعلهم فاقوا غيرهم في ذلك[46]. فإذا كان المتوكل العباسي يملك أربعة آلاف جارية، فإن الحاكم الفاطمي كان يملك عشرة آلاف جارية وخادم. وكان عند أخته " ست الملك" ثمانية آلاف جارية منها ألف وخمسمائة من الفتيات الأبكار. ولما قبض صلاح الدين على قصور الفاطميين وجد في القصر الكبير أثني عشر ألف نسمة ليس فيهم فحل سوى الخليفة وأولاده. وأطلق صلاح الدين البيع فيهم فاستمروا يبيعون عشر سنين.[47]
ووعاظ السلاطين في الدولة العباسية لم يكونوا أكثر ورعاً وتمسكاً بالإسلام من نظرائهم وعاظ الدولة الأموية.
ويقال إن معاوية أعطى ذات مرة جماعة من الوعاظ كلاً مائة ألف، إلا رجلاً واحداً حيث أعطاه سبعين ألفاً. فاحتج الرجل على هذا التفريق وسأل عن السبب فيه، فأجابه معاوية قائلاً: " إني اشتريت من القوم دينهم.. ووكلتك إلى دينك" فقال الرجل: " وأنا فاشتر مني ديني".[48] فلم يعد الدين ولا علماؤه يحتلون مكان الصدارة كما كان أيام الرسول وأبي بكر وعمر. ويبدو أن الإسلام أصبح سلعةً يبيعها العلماء، فيشتريها الحكام ليكبتوا بها شعوبهم.
استمرت الدولة العباسية في ريائها ومجونها حتى فقد الناس الثقة في حكامهم وفقد الحكام الثقة في رعيتهم، مما أضطر الخليفة المنتصر أن يستعين بالجند الأتراك لحماية ملكه. وبالتدريج أصبح الأتراك هم الحكام الفعليين إلى نهاية الدولة العباسية وقيام خلافة العثمانيين.
هناك من ينادي بأن الإسلام دينٌ ودولة، ولكن لم تقم في تاريخ الإسلام الطويل دولة إسلامية بمعنى الدولة. وحتى الدول التي قامت ولم تكن إسلامية إلا بالاسم، فعلت ذلك عن طريق القوة واغتصاب الحكم، ولم تقم عن طريق الشورى. فالدولة الأموية نشأت بعد حرب طحون بين معاوية وأتـباعه من الشام ومن بني أمية من جهة وعلي بن أبي طالب وبني هاشم والأنصار من جهة أخرى. وكانت أول دولة بعد الخلفاء الراشدين، وما كانت لتنشأ بالشورى والديمقراطية. ثم جاءت الدولة العباسية عن طريق الثورات التي قام بها العجم الذين اضطهدهم العرب عامة وبنو أمية خاصة. ثم تبعت هاتين الدولتين الخلافة العثمانية التي اتسمت بالعنف حتى بين أفراد الطغمة الحاكمة نفسها، فمما يعرف عن السلطان محمد أنه يوم أن ولى السلطة قتل 19 رجلاً هم أخوته الأشقاء وغير الأشقاء، وصدرت فتوى من المفتى الأعظم في الأستانة يبرر هذا الاغتيال، قائلاً بأنه ادْعى إلى منع الفتن. وصار قتل الأخوة عادة شائعة بين سلاطين الترك ومن لم يقتل أخوته حبسهم مدى الحياة في أقفاص حتى شاعت تسميتهم بأمراء القفص وقد خرج السلطان مراد من القفص إلي أريكة السلطنة وكان مختل العقل مضطرب النفسية لطول الحبس الانفرادي في القفص وتوقعه القتل في أي لحظة [49]. فالذين يقتلون أشقاءهم بهذه القسوة لن يترددوا في قتل الآخرين لأتفه الأسباب.

13-05-2007

مدونتــي :

- ابو شريك هاي الروابط الي بيحطوها الأعضاء ما بتظهر ترى غير للأعضاء، فيعني اذا ما كنت مسجل و كان بدك اتشوف الرابط (مصرّ ) ففيك اتسجل بإنك تتكى على كلمة سوريا -
 


  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.16963 seconds with 11 queries