عرض مشاركة واحدة
قديم 02/10/2009   #6
صبيّة و ست الصبايا جلنارالغالية
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ جلنارالغالية
جلنارالغالية is offline
 
نورنا ب:
Aug 2009
المطرح:
تحت شجرة ياسمين
مشاركات:
109

إرسال خطاب MSN إلى جلنارالغالية إرسال خطاب Yahoo إلى جلنارالغالية بعات رسالي عبر Skype™ ل  جلنارالغالية
افتراضي بين الجنون والعظمة


الواقع أن الاكتئاب شائع كثيراً لدى كبار المبدعين. نضرب على ذلك مثلاً بيتهوفن. فهو أحد كبار الموسيقيين على مر العصور. ولكنه لم يعش حياة مريحة أو هنيئة كلنا يعرف أنه كان أطرشاً لا يسمع. وقد سبب له ذلك عقدة نفسية حقيقية. وربما كانت هي الدافع إلى تفجر عبقريته. فالعبقرية تجيء كتعويض عن نقص ما أو خلل ما كما يقول التحليل النفسي. كان بيتهوفن بحسب ما يروي لنا معاصروه يتميز بالسوداوية والحزن العميق الذي لا شفاء منه. وحتى عندما كان يضحك فإن ضحكته كانت بشعة. عنيفة، ناشزة غير طبيعية. كانت ضحكة رجل لم يتعود على الفرح أبداً في حياته. وعندما كانت تجيئه لحظة الإلهام، فإنه كان يخرج عن طوره ويصبح وكأنه أصيب بمس من جنون يصبح غائباً، سارحاً، شارداً والناس يضجون من حوله، ولكنه لا يعبأ بهم عل الإطلاق. وكان يصرخ بأعلى صوته، ويتمتم، ويدندن، ويمسح غرفته، ذهاباً وإياباً. وهو في حالة من التوتر الأقصى، حتى تحصل الولادة السعيدة، أو القطعة الموسيقية المنشودة. وبالتالي فهناك علاقة واضحة بين التوتر النفسي ، إن لم نقل المرض النفسي وبين الإبداع.
نضرب على ذلك مثلاً أخيراً الرسام الفرنسي الشهير كلود مونيه، أحد مؤسسي المدرسة الانطباعية في الفن. فقد كان على حافة الانهيار النفسي، وكان يشهد حالة الإحباط التي تسبق وتتلو كل عملية إبداع: أي كلما رسم لوحة فنية، وكان مازوشياً زاهداً في نفسه، مستصغراً لقدراته ولا ينفك يقول: كل شيء ضاع، لن أنجح في حياتي أبداً، سوف تخسر كل أعمالي، سوف أضطر لبيع البيت والفرش والأدوات الخ.. ومع ذلك فقد سجله التاريخ كأحد كبار الفنانين في العصر الحديث..
قلنا إذاً بأن العبقري يشترك مع المجنون (أو مع المريض العقلي ) بصفة أساسية واحدة: هي التأزم الداخلي، ولكن الفرق بينهما هو أن أزمة العبقري تنحل عن طريق الإبداع، في حين أن أزمة المجنون تبدو مجانية ولا تؤدي إلا إلى الهذيان الفارغ. هذا يعني أنه لولا إبداعه الخارق لكان العبقري قد أصبح مجنوناً .
فالإبداع هو الذي يحرر الشخصية من أزمتها الداخلية أو من تناقضها الحاد الذي يبدو عصياً على التجاوز في الحالات العادية. بهذا المعنى فإن الإبداع هو انفجار خارج من الأعماق. إنه ولادة تجيء بعد مخاض عنيف وخطر. وهكذا يستعيد المبدع توازنه لفترة من الزمن، وذلك قبل أن يدخل في دورة تأزمية جديدة تنحل أيضاً عن طريق إبداع جديد وهكذا دواليك.. نقول ذلك وبخاصة إذا ما لقي الإبداع ترحيباً في وقته من قبل شريحة واسعة من الناس. وهكذا يتوازن العبقري على اعتراف الناس وإعجابهم به.، ولولا هذا الاعتراف لربما فقد توازنه وغطس في بحر الجنون. فاعتراف الآخرين بك يعطيك ثقة بالنفس ويثبت أقدامك ويزيل الكابوس النفسي عن صدرك. والواقع أن تعريف العبقرية هو هذا : اعتراف العدد الأكبر من الناس بالمبدع، وديمومة هذا الاعتراف على مدار الزمن والقرون. هذا هو الشي ء الذي يعطي قيمة لا تقدر بثمن للوحات ميكيل أنجيلو ، أو فان كوخ ، أو لمسرحيات شكسبير، أو لروايات بلزاك وديستويفسكي، أو لكتب ديكارت، وكانط وهيجل في مجال الفلسفة، الخ.. ولكن المشكلة هي أن بعض العباقرة لم يتوازنوا نفسياً حتى بعد أن أبدعوا، كما حصل لفان كوخ وشومان وفيرجينيا وولف ونيتشه. وربما كان السبب الأساسي يعود إلى أنهم لم يحظوا بالاعتراف الكامل بهم أثناء حياتهم، وإنما بعد مماتهم، فقد جاء الاعتراف متأخراً ، جاء بعد فوات الأوان. وينطبق ذلك أكثر ما ينطبق على فان كوخ الذي تباع لوحاته الآن بعشرات الملايين من الدولارات، في حين أنه كان جائعاً وفقيراً في حياته. لم يتح له القدر أن ينعم بشهرته ونتاج عبقريته. وقل الأمر نفسه عن نيتشه الذي لم يعترف به إلا نفر قليل في حياته، ثم انفجرت شهرته كالقنبلة الموقوتة بعد جنونه أو موته بوقت قصير. وكان قد تنبأ بذلك عندما قال جملته الشهيرة: البعض يولدون بعد موتهم ! سوف يجيء يومي، ولكن لن أكون هنا. وقد تنعمت أخته " إليزابيث " بهذه الشهرة والمال العريض الناتج عن بيع أعمال أخيها بملايين النسخ، في حين أنه لم يبع منها إلا بضع عشرات في حياته كلها.. ولكن يمكن القول بأن هناك نفوساً عطشى لا تشبع حتى بعد أن ترتوي. إنها أرواح حائرة لا يعرف كنهها أو سرها. وأكبر مثل على ذلك الكاتبة الانجليزية فيرجينيا وولف التي انتحرت حتى بعد أن نجحت وذاقت طعم الشهرة في حياتها..
في يوم الاثنين بتاريخ 27 فبراير 1854 كان الموسيقار الألماني الشهير روبيرت شومان جالساً مع أصدقائه في جلسة سمر في بيته. وفجأة يترك الزوار ويخرج بثيابه العادية. واعتقد أصدقاؤه عندئذ أنه خرج لحاجة ما وأنه سيعود بعد قليل. ولكنه في الواقع توجه مباشرة إلى نهر الراين وألقى بنفسه فيه بعد أن وصل تأزمه إلى حده الأقصى. ولحسن حظه (أو لسوء حظه، لم نعد نعرف ) كان هناك صيادون بالقرب منه فانتشلوه وأنقذوه من الغرق..
وفي عام 1880 كان عمر نيتشه 36 سنة. عندئذ ترك الجامعة بعد أن قدم استقالته وذهب لكي يعيش حياة التشرد والضياع على الطرقات والدروب. وهكذا ابتدأ يصبح فيلسوفاً حقيقياً. ولكن مزاجه كان دائماً متقلباً وفكرة الانتحار تلاحقه باستمرار. وقد اشتد تأزمه بعد أن فشل حبه الكبير للغادة الحسناء: لواندريا سالومي. ويبدو أنه قام بثلاث محاولات انتحار فاشلة عن طريق تجرع كميات ضخمة من سائل الكلورال. ولكنه لم يمت. والغريب العجيب أنه على أثر تلك الفترة بالذات راح يكتب رائعته الشهيرة: هكذا تكلم زرادشت وهكذا أنقذ من الجنون ولو إلى حين..
أما فيرجينيا وولف فقصتها مختلفة. فقد كانت مهددة بالانتحار طيلة حياتها كلها. وكانت تغطس في حزن عميق لا قرار له. وترفض أن تأكل، وترفض أن تعترف بأنها مريضة. وكانت تقول بأن حالتها تعود إلى شعورها بالذنب. ولكن أي ذنب؟ لا أحد يعرف. وعندما وصل تأزمها إلى ذررته حاولت أن تنتحر مرة أولى عام 1895 عن طريق إلقاء نفسها من النافذة. ثم حاولت مرة ثانية عام 1913 عن طريق تناول السم. ثم حاولت مرة ثالثة عام 1941 (ونجحت ) عن طريق إلقاء نفسها في النهر والموت غرقاً..
أما الكاتب الفرنسي الشهير دو مو باسان فقد حاول الانتحار عام 1892 عندما أطبقت عليه الأفكار السوداء ووصل تأزمه إلى ذررته. ولكنه لم ينجح. فاقتادوه إلى المصح العقلي حيث مات بعد سنة من ذلك التاريخ. وهكذا دفع ثمن شهرته وإبداعه غالياً .
والآن من يصدق أن الفيلسوف الفرنسي الكبير أوجست كونت، مؤسس الفلسفة الوضعية، كان على حافة الجنون أكثر من مرة، وأنه حاول الانتحار عن طريق رمي نفسه في نهر السين !.. فبما أن الوضعية تمثل قمة العقلانية في الغرب، فإن أحداً لا يتوقع أن يكون مؤسسها قد أصيب بالجنون ، أو بالانهيار النفسي ، في بعض مراحل حياته. وهو دليل على أن العبقرية يمكن أن تخرج من رحم الجنون، بل وتنتصر على الجنون. ولولا أن أوجست كونت استطاع التوصل إلى بلورة فلسفته الوضعية وحظي بالإعجاب والتقدير من قبل معاصريه لكان قد انهار وغاص كلياً في ليل الجنون... إذاً ينبغي أن نغير تلك الصورة السائدة في أذهاننا عن العباقرة والتي تعتبرهم أنهم فوق البشر وأن الضعف لا يأتيهم من بين أيديهم ولا من خلفهم.. فهذه صورة مثالية أو أسطورية لا علاقة لها بالواقع. إنها صورة تتشكل عادة عن العباقرة بعد موتهم،. صورة تبجيلية يساهم في صنعها الأتباع والأنصار والمعجبون هذا لا يعني بالطبع أن العبقري ليس عظيماً ، إذ يكفيه عظمة أنه استطاع الانتصار على انهياره الداخلي وتحويله إلى شيء ايجابي، إلى عمل عبقري. هنا تكمن عظمة العباقرة بالضبط. فهم يبذلون جهوداً جبارة للتغلب على أنفسهم، لقهر العقد النفسية المتجذرة في أعماقهم. وهكذا يحولون السلب إلى إيجاب والتحت إلى فوق، والجنون إلى عبقريات. أو قل إن الجنون والعبقرية يتجاوران لديهم جنباً إلى جنب. فأوجست كونت الذي كان يهذي والذي حاول الانتحار مرة هو نفسه أوجست كونت الذي أسس الفلسفة العلمية التي رافقت صعود العصر الصناعي في الغرب. وبالتالي فإنه يمثل قمة العقلانية وقمة الجنون في آن معاً ! وبالتالي فإن العبقرية والجنون هما من مصدر واحد: أي يصدران عن اللاوعي السحيق للفرد، ذلك اللاوعي الذي يمثل قارة مظلمة ومجهولة في آن معاً. إنها تشبه البركان العميق الذي يختلج تحت طبقات الأرض الجيولوجية. فأحيانا تقذف بالعبقرية إلى السطح، وأحياناً تقذف بالهذيان والجنون.
وأما جوته فعلى الرغم من الجنون الدوري الثقيل الذي كان يصيبه من حين إلى آخر، إلا أنه لم يقدم على الانتحار. وإنما اكتفى بأن جعل بطل روايته الأولى " آلام الشاب فيرتر " هو الذي ينتحر وهكذا وفر على نفسه هذه المهمة، ويقال بأن الكتاب الذين يمارسون الانتحار في كتاباتهم، أو يتحدثون عنه كثيراً ، لا ينتحرون فعلاً. وأما أولئك الذين يسكتون عنه كليا فهم الذين ينتحرون حقاً . وهكذا يفاجئون الناس بأنهم أقاموا على شي ء بدون مقدمات ودون أن يرهصوا به. وقد جرت إحصائيات في فرنسا عن نسبة المنتحرين بين المبدعين وتبين أنها عالية في أوساط الأدباء والشعراء وضعيفة في أوساط الرسامين والموسيقيين . نقول ذلك على الرغم من انتحار فان كوخ وجو جان وشومان وتشايكوفسكي. ولكن عددهم لا يقاس بأسماء الشعراء والروائيين الذين انتحروا من أمثال : جيرار دونيرفال، مايكوفسكي، بودلير، همنجواي، مونترلان، جي دوموباسان، فيرجينيا وولف، نيتشه، إدغار ألان بو ، والقائمة طويلة..
أخيرا سوف يكون من الحمق والغباء أن ندعي هنا بأننا قادرون على اكتشاف سر العبقرية. فالعبقرية، تحديداً ، هي سر الأسرار إنها تستعصي على كل تفسير. ولكن يمكن فهم بعض الجوانب المحيطة بها من خلال تجلياتها في أشخاص معينين ندعوهم بالعباقرة ، أو بالأشخاص الاستثنائيين أو بالمبدعين الكبار كما نحب أن نقول في لغتنا المعاصرة، وذلك لأن كلمة "عبقري" أو "عبقرية" أصبحت عتيقة أو بالية في الوقت الراهن. نقول ذلك على الرغم من أن المعنى هو ذاته. فلا أحد يعرف سر مسرحيات شكسبير الرائعة، أو سبب نجاح لوحات فان كوخ، أو قصائد رامبو، الخ.. صحيح أنه يمكن لمناهج النقد الأدبي والفني أن تشرح لنا الكثير من جوانب هذه الأعمال الإبداعية، بل وتنفذ إلى أعماقها في بعض الأحيان. ولكن يبقى هناك لغز ما يصعب الوصول إليه واستنفاده كلياً عن طريق التحليل. وهذا اللغز هو ما يدعى بالعبقرية.
فرامبو كان يستخدم اللفة الفرنسية مثله في ذلك مثل بقية شعراء جيله. ولكنه هو الوحيد الذي استطاع أن يكتب تلك القصائد التي لا تضاهى والتي لا تزال تسحرنا حتى الآن. يمكن أن نقول الشي ء ذاته عن المتنبي في اللغة العربية، أيضا أو حتى عن شعراء كبار آخرين. وإذاً فهناك كيمياء سحرية أو سرية للإبداع لا نعرف كنهها، ولا يتوصل إليها إلا المبدع الكبير (أو العبقري). إنه يركب الكلمات بطريقة ما وينفخ فيها الروح ثم يسطرها قصائد خالدة على صفحات التاريخ. وتظل تعجبنا وتأخذ بقلوبنا حتى بعد مرور مئات السنين. هنا يكمن سر العبقرية أو لغزها المحير. لقد حاول علم الطب النفسي والتحليل النفسي أن يكتشف سر العبقرية وتوصلا إلى نتائج لا يستهان بها، ولكن يبقى هناك شيء ما في العبقرية يستعصي على كل تفسير. يقول جاستون باشلار، أحد كبار العلماء والنقاد الأدبيين في آن معاً :"في أعماق الطبيعة ينبت عشب غريب. في ظلام المادة تنبثق أزهار سوداء. إن لها قطائفها الرائعة وعطرها الفواح"..
هكذا تولد العبقرية: إنها كالنور الذي ينبثق من رحم الظلام، أو كالعقل الذي ينهض عل أنقاض الجنون. والعلامة الأساسية التي لا تخطي، على العبقرية هو الاعتراف الكامل والكوني والدائم بها. فلا أحد يشك في عبقرية شكسبير، أو المتنبي أو المعري أو بودلير أو نيتشه أو هيجل.. وكلما مرت الأزمان على إنتاجهم عتق ونضج كالخمرة المعتقة وأصبح أكثر أهمية وامتلاء بالمعاني والدلالات.
لقد أثبت الطب النفسي الحديث بعد أن أجرى دراسات تجريبية عديدة أن العبقري لايتميز بتركيبة نفسية خاصة بقدر ما يتميز بتشغيل خاص لهذه التركيبة النفسية. فهو إنسان مثله مثل بقية البشر. ولكن استعداده النفسي مختلف،. فهو يتميز مثلاً بطاقة هائلة عل الحركة والابداع قياساً بالإنسان العادي. كما أنه يتميز بالاختلاف وحب الخروج على المألوف. فالامتثالي الخاضع للعادات والتقاليد السائدة في المجتمع لا يمكن أن يكون عبقرياً. لأن أول سمة من سمات العبقرية هي الشذوذ عن المألوف. ولذلك فإن العباقرة يصدمون الناس في البداية ويلاقون صعوبات جمة من قبل وسطهم والمحيط السائد. ثم يمضي وقت طويل قبل أن يتم الاعتراف بهم، وأحياناً لا يعترف بهم إلا بعد موتهم. وحده العبقري يعرف قيمته منذ البداية، ولكنه لا يستطيع إقناع الآخرين بها فوراً بمن فيهم أسرته الشخصية. ولذلك يعاني معاناة جمة ويصاب بالإحباط في لحظات كثيرة، ويحاول التراجع عن الأمر أو الاستسلام، ولكن هناك قوة داخلية فيه أي قوة سرية، تدفعه لأن يستمر، لأن يواظب على مسيرته. ولذلك قلنا بأن من صفات العبقري الصبر والمواظبة لفترة طويلة من الزمن. إنه عنيد فعلاً، ولا يتراجع قبل أن يتواصل إلى تنفيذ المهمة التي خلق من أجلها. لذلك انه ينبغي أن نعتقد بأن العبقري يعتبر نفسه محملاً برسالة أو مسؤولاً عن تنفيذ مهمة عليا تتجاوزه وهو مستعد لأنه يضحي بحياته من أجلها، ومن أجلها وحدها. من هنا تجيء سر قوته ومقدرته على تجاوز العقبات والحواجز التي يصطدم بها في طريقه، والتي يضعها الآخرون في طريقه، فالعبقري ما إن يكتشف الآخرون نواياه الحقيقية حتى يتألبوا عليه ويحاولوا منعه من تحقيق مهمته. العبقري مهدد باستمرار خصوصاً في مراحله الأولى، والعبقرية خطر على صاحبها. ويصل هذا الخطر أحياناً إلى مرحلة التهديد بالتصفية الجسدية. لماذا كل هذا الخطر على العبقري؟ لأنه ليس من الطبيعي أن تكون عبقرياً، وإنما الطبيعي أن تكون عادياً مثلك مثل بقية البشر. ولذا فما إن يشعر الناس بأنك عبقري، أو تحمل بذرة العبقرية في داخلك، حتى يعترضوا طريقك ويحاولوا الإيقاع بك بشتى الأسباب. فالحسد قاتل أحياناً. وأحياناً يجيء من قبل عباقرة سابقين لا يريدون أن تتفتح أي موهبة بعدهم. وتروي الأسطورة أن أم كلثوم قد ساهمت في القضاء على أسمهان لأنها غارت منها وخافت أن تنافسها بعد أن سمعت صوتها وعرفت أنها عبقرية. وسواء كانت هذه الحكاية صحيحة أم لا فإنها تدل على شي ء ما. وتروي الروايات أن شعراء كباراً حاولوا القضاء على بعض المواهب الجديدة أو الصاعدة لأنهم أحسوا بأنها تشكل خطراً على أمجادهم.. نعم إن العبقري يدخل في الدائرة الحمراء للخطر ما إن يشعر بعضهم بأنه قد يصبح عبقرياً ويحل محلهم.
ولكن هناك خطراً أخر يهدد العبقري كما ألمحنا إلى ذلك أكثر من مرة ألا وهو: الجنون أو التوتر العقلي الشديد أو الهيجان. وقد أثبتت أخر دراسة احصائية أجريت مؤخراً على هذا الموضوع أنه نادراً ما يخلو عبقري ما من إمارات الجنون أو التوتر النفسي الحاد. وقد قام بهذه الدراسة الباحث فيليكس بوست عام 1994، أي أنها حديثة العهد جداً، وشملت 291 شخصية تنتمي إلى عالم السياسة والفلسفة والعلم والفن والموسيقى والشعر والأدب.. وهي شخصيات عبقرية ظهرت في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين. وتبين بعد إجراء هذه الدراسة أن هؤلاء العباقرة يتميزون بصفات غير طبيعية. فهناك نسبة 50% منهم يتميزون باضطرابات نفسية حادة جداً، بل وتشلهم عن الإبداع في بعض فترات العمر. وترتفع هذه النسبة لدى الفلاسفة فتصل إلى 60%، ولكنها أعلى ما تكون لدى الأدباء، والشعراء خصوصاً حيث تصل إلى 70%. ثم تنخفض لدى الرسامين والموسيقيين ورجال السياسة (حوالي 30% ) ولا نستطيع أن نحصي عدد الشعراء والروائيين الذين أصيبوا بالجنون أو المرض العقلي بشكل جزئي أو كلي، مؤقت أو دائم، ولكن هذا لا يلغي إبداعهم أو عظمتهم و عبقريتهم.
فلا أحد يستطيع أن ينكر عظمة شعر جيرار دونرفال لمجرد أنه جن أو انتحر، ولا أحد يشك بعبقرية دوموباسان لأنه مات في المصح العقلي بعد أن انهارت قواه النفسية. ولا أحد يستطيع أن يقول بأن نيتشه ليس فيلسوفاً كبيراً لمجرد أنه أمضى سنواته العشر الأخيرة في غيبوبة الجنون. ولا يوجد روائي في التاريخ أعظم من ديستويفسكي على الرغم من أنه كان مصاباً بالصرع.. ويرى فرويد أن الابداع هو تعويض عن نقص ما في الشخصية. وأنه لولا هذا النقص لما أصبح المبدع مبدعاً . فالإنسان المتصالح مع نفسه ومع الواقع الخارجي ليس بحاجة لأن يكون عبقرياً وأكبر دليل على ذلك فرويد نفسه الذي كان مصاباً بالعصاب ولم يشف منه إلا بعد أن اكتشف تلك القارة المظلمة والمعتمة والهائلة: أي اللاوعي. فلا ريب في أن الاكتشاف أو الابداع ينقذ العبقري أو يعيد إليه توازنه. يقول الفيلسوف كيركغارد الذي كان معقداً جداً من الناحية النفسية: أن المرض هو السبب الأساسي لكل اندفاعة ابداعية. وبالابداع أشفي نفسي من أوجاعي وهمومي. بالابداع أسترد الصحة والعافية". والواقع أن هذه الكلمات هي للشاعر"هيني" ولكن كيركغارد استشهد بها، وكذلك فرويد. وكان ويلكه يعترف بأنه لم يكتب قصيدة واحدة إلا من خلال العذاب النفسي والقلق.
ومن المعلوم أن العقد النفسية الموروثة عن طفولته كانت تلاحقه كالأخطبوط ولا يستطيع منها فكاكاً إلا عن طريق الابداع. ثم سرعان ما تعود بعد انتهاء عملية الإبداع. وهكذا كان يتوازن باستمرار من خلال اللاتوازن. أو قل كان دائماً يشعر بأنه على شفا حفرة من الانهيار وأنه مهدد بالسقوط في كل لحظة. وكان مضطراً لتأجيل لحظة الجنون الكامل في كل مرة. ومن المعلوم أن رامبو كان يكتب وهو على حافة الجنون، وكان يتقصد الجنون تقصداً. كان مهووساً بتلك النقطة الغائرة في الأعماق والأقاصي، تلك النقطة التي لا يستطيع أن يصل إليها أي شاعر إلا إذا غامر بنفسه واقترب من منطقة الخطر الأعظم. عندئذ كانت تخرج القصائد العبقرية. واعترف سارتر نفسه بأنه لم يتخلص من مرض العصاب الذي كان يلاحقه إلا عن طريق الكتابة. فالكتابة تمتص الجنون الداخلي وتساعد على التخلص منه أو تحجيمه على الأقل. نقول ذلك وبخاصة إذا نجحت وأدت إلى إبداع حقيقي. والواقع انه لا يوجد فنان حقيقي إلا ويعاني من مرض ما. أو مشكلة معينة. الإبرة التي توخز الكاتب وتدفعه دفعاً إلى عملية الإبداع. وبالتالي فلا ينبغي أن يخاف الكاتب إن كان يعاني من عقدة نفسية معينة أو من جرح داخلي حتى لو استغله الآخرون ضده . فربما كان هذا الجرح كنزه الوحيد. وهو على أي حال يشكل مصدر عبقريته وسر إبداعه.

الهوامش:
1- من المعلوم أن ميشيل فوكو ختم كتابه الشهير "تاريخ الجنون في العمر الكلاسيكي" برفع ثناء حار إلى الجنون. وطلب من العقل أن يمثل أمام محكمة الجنون لا آلكس. فجنون هولدرلين وأنطونين أرتو ونيتشه هو الذي ينبغي أن يحاكم العقل الغربي، ولا يحق لهذا العقل إطلاقاً أن يحاكم جنونهم، وأن يرتفع إلى مستواه. أنظر: Michel Faucault: Histoire de la folie à la âge classique (الصفحات الأخيرة) Gallimard 2972.
2- اعتمدت كثيراً في تحضير هذه الدراسة على المرجع التالي الصادر حديثاً في العاصمة الفرنسية: فيليب برينو: العبقرية والجنون، منشورات بلون، باريس 1997 Philippe Brenot: Le et folie, pion, Paris 2791. وكلام اندريه مورو وارد في مقدمة الكتاب، الصفحة (9).
3- المصدر السابق ب، ص 13.
4 - للمزيد من التوسع حول أحلام ديكارت الثلاثة تلك الليلة الشهيرة انني: جننييف رود يسر - لويس: ديكارت. سيرة ذاتية، منشورات كالمان ليفي، باريس 1995. ص 63 وما بعدها. Geneviéve Rodis - Lewis: Descartes. Biographie. Almann - Lévy. Paris 1995.
5- أنظر كتاب فيليب برينو عن العبقرية والجنون، ص 45.
6- نحيل القاريء هنا إلى السيرة الذاتية التالية لبلزان: هنري ترويا. بلزاك. منشورات فلاماريون، باريس، 1995. Henri Troyat: Balzac. Flam marion. Paris. 1995.
7- أنظر كتاب فيليب برينو السالف الذكر، ص 52.
8- المصدر السابق، ص 120.
9- المصدر السابق، ص 121

مـا أجـمـل أن يـبـكـي الإنـسـان والـبـسـمـة عـلـى شـفـتـيـه وأن يـضـحـك
والـدمـعـه فـي عـيـنـيـه
فـي لـحـظـة تـشـعُـر أنـك شـخـصٌ فـي هـذا الـعـالـم بـيـنـمـا يـوجـد
شـخـص فـي الـعـالـم يـشـعُـر أنـك الـعـالـم بـأسـره
اهواك بلا امل...
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.08081 seconds with 11 queries