الموضوع: محمود البدوى
عرض مشاركة واحدة
قديم 19/08/2008   #26
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي رجل على الطريق


اشتغلت وأنا فى العشرين من عمرى فى شركة من شركات الملاحة بالسويس براتب تافه ، كنت أسكن بنصفه ، وأشرب بالنصف الآخر جعة ، ولا أحفل بعد ذلك بشىء فى الوجود ، وكنت أقيم مع أسرة إيطالية تسكن فى منزل صغير على شط القناة فى بور توفيق ، وتعيش عيش الكفاف .
وقد كانت الحياة شاقة على شاب فى مثل سنى ونشاطى فى هذه المدينة الصغيرة التى ليس فيها شىء سوى القناة ، ومنازل الشركة المتناثرة على الشاطىء ، وسكانها جميعا من الأجانب الذين وضعتهم الأقدار العجيبة فى هذا المكان ، ولاصلة تربطهم بالمواطنين ولا مودة ولا إخاء .
على أن ولعى بالمطالعة ، وحبى للهدوء ، خففا مما كنت ألاقيه من وحدة ووحشة فى هذه الضاحية . وكنت أذهب كل مساء إلى السويس لأشرب الجعة فى مشرب صغير ، وأتمشى فى طريق الزيتية .. ثم أعود إلى بور توفيق لأنام .
وكنت أجد على رأس الطريق الموصل لبيتى رجلا غريب الأطوار ، يجلس على الحشائش قرب القناة وبجواره كلب ضخم وزجاجة فارغة ...! وكان الرجل يجلس ينظر دائما إلى ناحية القناة ، ويخط باهتمام فى دفتر أمامه .. ويجلس هكذا معظم النهار ، فإذا غربت الشمس حمل متاعه ومضى ووراءه كلبه واختفى فى الظلام .
وكان موضع السخرية من العابرين فى الطريق .. وكان أكثر الناس سخرية به العمال الذاهبون إلى ورش الميناء .. وما كان الرجل يعبأ بسخريتهم أو يحفل بكلامهم .. كان يمضى فى عمله ولا يجيب .
ولعلى كنت الوحيد الذى يمر به فى الصباح والمساء ولا يسمعه كلمة نابية ، ولذلك كان ينظر إلىّ فى استغراب ودهشة . وكنت أخرج لأتمشى كل أصيل ومعى كتاب .. وأتخذ طريق القناة عادة .. وأجلس هناك على كرسى حجرى أطالع ، والرجل على مقربة منى يكتب فى كراسته ، ودنوت منه ذات مرة ، وجلست إلى جواره فوق العشب ، وحييته فحيانى بهزة من رأسه وهو يبتسم ، ومر مركب فى القناة فانحنى على كراسته وكتب شيئا فى تمهل وعناية .
فسألته :
ـ ماذا تكتب ..؟
فنظر إلىّ بوجه ضاحك وقال :
ـ إننى أتلهى ..
ثم أضاف وقد لمعت عيناه بعض الشىء :
ـ لقد كنت ملاحظ فنار فى البحر الأحمر ، وكان هذا هو عملى فى النهار والليل .. أرقب السفن وأدون أسماءها ، وأنا أفعل هذا الآن بحكم العادة ، وأجد فى ذلك لذة تنسينى متاعب الحياة ..
ـ لاشك أن العمل فى المنارة وسط البحر ممتع للغاية ..
ـ جرب وسترى ..
ثم شاعت فى وجهه ذى التجاعيد ابتسامة عريضة وسألنى :
ـ هل أنت متزوج ..؟
ـ لا ..
ـ إذن فيمكنك أن تركب البحر إلى هناك .. ولا بأس عليك .. كتاب وفونوغراف ، وكل شىء سيمضى على سننه .. أما إذا كنت متزوجا فستعود من هناك نصف مجنون ..!
ـ وهل اعتزلت هذا العمل من مدة ..؟
ـ مدة طويلة جدا يا بنى .. منذ سنين وسنين ..
وتغير صوته وأطرق .. فأدركت أنه تذكر شيئا يؤلمه .. فتحولت بوجهى عنه ، وأخذت أقلب صفحات الكتاب الذى معى حتى أقبل المساء ، فحييته وانصرفت .
***
والتقيت به بعد ذلك كثيرا فى هذا المكان حتى توثقت بيننا مودة صادقة . وكان الرجل مخمورا أبدا ، وما رأيته غير ثمل فى نهار أو ليل ، وكانت زجاجة الخمر معه لاتبارحه قط ، وكان ادراكه الصحيح للحياة قد جعله لايعبأ بشىء مما تواضع عليه الناس ، فهو يسكر وينام فى الطريق .
وما رأيته متبرما بشىء ، أو شاكيا من شىء .
ورآنى مرة فى حانة صغيرة فى مدينة السويس .. أتحدث مع زوجة صاحب الحان .. فلما انصرفت المرأة لعملها جاء وجلس إلى مائدتى ..
وسألنى :
ـ لماذا تسكر فى هذه السن ..؟
ـ لأننى أشعر فى أعماق نفسى بالتعاسة
ـ إن هذا أحسن جواب لسكير ..!
ـ ولماذا النساء ..؟
فصمت ولم أقل شيئا ..
واستطرد هو :
ـ انك تسكر لأنك وحيد .. ولا رفيق ولا أنيس لك فى هذه المدينة الكئيبة ، ومع كل مساوىء الخمر فإنها قربتك منى ولم تجعلك تسخر من ضعفى ، وأنا أشرب على قارعة الطريق فى بور توفيق ، إنك تدرك الضعف الإنسانى لأنك إنسان ..!
ـ إن هذا لايغير من نظرة المجتمع إلى السكير ..
ـ هذا صحيح .. ولكنى أسكر رغم أنفى وكذلك أنت . وهناك شىء فوق إرادة الإنسان يربطنا بهذه الدنان .. وإن تشرب فى ساعة مظلمة من حياتك ثم تصحو .. إن هذا لاشىء .. ولكن النساء .. هذا شىء آخر .. إنك لا تستفيق من خمرهن إلا وأنت ساقط فى الهاوية ..
وجاء له الساقى بكأس فشربها وعض على نواجذه .. ثم أشعل لفافة من التبغ ، وأخذ يسرح الطرف فى سماء الحان ..
فسألته وأنا أنظر إلى وجهه وقد غضنته السنون :
ـ لماذا تركت البحر ..؟
ـ إنها الأقدار ..
ثم صمت .. وأمسك بالكأس البللورية الفارغة .. ورفعها إلى عينيه كأنه يقرأ فيها من لوح الغيب .
ثم سألنى :
ـ أركبت البحر ..؟
ـ ذهبت منذ سنتين إلى استامبول ..
ـ أشاهدت منارات فى الطريق ..؟
ـ أجل ..
ـ سأحدثك عن قصة منارة من هذه المنارات ..
ووضع الكأس البللورية على المائدة .. وأشعل لفافة أخرى وأقبل علىّ يتحدث :
ـ كنت أعمل فى منارة بالبحر الأحمر منذ سنين .. وكان معى زميل لى يساعدنى على العمل . أمضيت شهرين فى المنارة وسط البحر .. ولا شىء تراه هناك غير البحر .. وكنا نطالع ونصطاد السمك ، ونسمع الفونوغراف .. وننير المنارة فى الليل للسفن ، ونغنى ونفعل كل شىء لنتلهى . ولكنك فى ساعة من الساعات تحس كأن شيئا يثور ويضطرب فى أعماق نفسك ، فتكاد تمزق الكتاب وتحطم الفونوغراف .. وتشعر بسأم .. وتضيق ذرعا بكل شىء .. وتحس بالاختناق .. وتنظر ولا ترى حولك غير البحر ، وبينك وبين الأرض سفر أيام ، فى هذه الساعات كنت أجلس على سلم المنارة وأدلى بساقى فى الماء .. وأحلم بعرائس البحر التى قرأت عنها فى الأساطير .. وأتصور أن واحدة منهن ستطلع وتجىء إلىّ .. وتمر سفينة من بعيد ، وأنوارها ترقص على الموج ، وأتصور أننى أسمع ضحكات نساء .. ورقص نساء .. وأرى بعين الخيال واحدة منهن تتجرد من ثيابها وتتهيأ للنوم ، فيأخذنى السعار .. وأظل أفكر وأحلم فى المرأة .. ولا شىء غير المرأة .. إنها تأخذ عليك مسالك تفكيرك ، وتشغل حواسك ، فإذا رأيت شيئا أبيض يلوح فى سفينة من بعيد تصورته ساق امرأة .. وإذا أبصرت شيئا ينثنى على سطح مركب تصورته امرأة .. إنك تراها فى كل شىء ولا تراها ..
وكنت أنا وزميلى أحسن صديقين .. كنا نعمل فى صفاء ووئام .. وكان الطعام لابأس به ، ووسائل التسلية متوفرة .. أما إذا جن الليل وثارت الغريزة فقد انقلب كل شىء إلى جحيم .
وكان صاحبى متزوجا وكنت أعزب ، وكان يحب زوجته ويحدثنى كثيرا عنها ..
ومضت شهور ، واقترب موعد عودتى إلى السويس لأستريح فى الأجازة المقررة لأمثالنا .
وجاءت الباخرة التى ستقلنى إلى السويس ، وأعطانى صاحبى رسالة إلى زوجته .
***

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06799 seconds with 11 queries