عرض مشاركة واحدة
قديم 10/09/2008   #49
شب و شيخ الشباب achelious
مشرف
 
الصورة الرمزية لـ achelious
achelious is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
المطرح:
الغدّ
مشاركات:
2,008

افتراضي


فولوديا الكبير وفولوديا الصغير

ـ أريد أن أقود بنفسي، أرجوك اسمح لي، سأجلس بقرب الحوذي ـ قالت صوفيا لفوفنا بصوت عالٍ.‏
ـ انتظر لحظة أيها الحوذي، سأجلس بجانبك في المقعد.‏
كانت تقف في العربة، بينما كان زوجها فلاديمير نيكيتش، وصديق طفولتها فلاديمير ميخايليتش يمسكان بها من ذراعيها كي لا تقع. انطلقت الترويكا(1) مسرعة.‏
ـ قلت لك ألا تعطيها الكونياك.‏
همس فلاديمير نيكيتش لرفيقه بانزعاج.‏
كان الكولونيل يعرف من تجربة سابقة أن حالة الابتهاج الصاخب أو بالأحرى الثمل بالنسبة لامرأة مثل زوجته صوفيا لفوفنا عادة ما يعقبها ضحك هستيري ومن ثم بكاء. وقد كان قلقاً الآن لأنه حال وصولهم إلى البيت سيتوجب عليه الانشغال بالكمادات وجرعات الدواء بدلاً من الذهاب إلى السرير.‏
ـ هِشْ! ـ صرخت صوفيا لفوفنا ـ أريد أن أقود.‏
كانت فرحة ومسرورة حقاً، فطوال شهرين، ومنذ يوم زفافها بالذات، كان يعذبها التفكير بأنها تزوجت الكولونيل لمصلحة، أو كما يقال Par depit(2). واليوم على أية حالة، أدركت أخيراً في مطعم خارج البلدة أنها تحبّه بشغف.‏
فعلى الرغم من أعوامه الأربعة والخمسين، كان متين البنية، رشيقاً، مرن الأعطاف، يحسن التلاعب بالألفاظ والمشاركة في أغاني الفتيات الغجريات.‏
حقاً، في أيامنا هذه، يعدّ الرجال الأكبر سناً أكثر جاذبية من الشباب اليافعين بألف مرّة، حتى ليخيّل للمرء أن الشيخوخة والصبا قد تبادلا الأدوار.‏
كان الكولونيل يكبر أباها بسنتين، ولكن، أكان من الممكن أن يكون لهذا معنىً، إن كان يقيناً يفوقها هي نفسها حيوية ونشاطاً وغضارة، ودون أن يكون هناك أي مجال للمقارنة بينهما، على الرغم من أنها كانت ما تزال في الثالثة والعشرين من عمرها بعد؟‏
آه يا عزيزي ـ فكرت ـ أنت رائع.‏
في المطعم أدركت أيضاً أنه لم يتبق في قلبها حتى مجرد ومضة من شعورها السابق، والآن كانت تشعر بلا مبالاة تامة تجاه فلاديمير ميخايليتش صديق طفولتها، أو فولوديا كما كان يدعى، والذي كانت ما تزال حتى البارحة تحبه إلى حد الجنون واليأس. فقد بدا لها طوال الأمسية فاتراً، ناعساً، مملاً وعديم الشأن. على أن لا مبالاته التي كانت تصحب تهربه المألوف من دفع فواتير المطعم، جعلتها الآن تشعر بالاشمئزاز، وبالكاد تمالكت نفسها من القول "إن كنت لا تملك نقوداً، فعليك البقاء في المنزل". دفع الكولونيل.‏
وربما لأن الأشجار وأعمدة التلغراف والثلوج المتراكمة مرّت مروراً خاطفاً أمام عينيها، كانت تخطر على بالها أفكار مختلفة: بلغت فاتورة المطعم مائة وعشرين روبلاً، والغجر ـــ مئة، وبإمكانها غداً إلقاء ألف روبل في الهواء إن أرادت، ولكنها قبل شهرين من زواجها لم تكن تملك حتى ثلاثة روبلات، وكان يتوجب عليها مراجعة أبيها بشأن أتفه الأمور. يا لهذا التحوّل الكامل في حياتها!‏
كانت أفكارها مشوشة للغاية، وتذكرت أيضاً أن الكولونيل ياغيتش، الذي هو زوجها الآن، كان قد تودد إلى خالتها، عندما كانت هي في العاشرة من عمرها. وكان جميع أهل المنزل يقولون آنذاك أنه دمرها. كما تذكرت كيف أن خالتها غالباً ما كانت تنزل لتناول الغداء دامعة العينين، وكيف كانت تغادر المنزل بين الحين والحين، حتى قيل إنه ليس في وسع هذه المخلوقة البائسة أن تجد راحة في أي مكان.‏
آنذاك كان وسيماً جداً، وكان نجاحه الباهر مع النساء قد أكسبه شهرة في البلدة كلها، حتى راحت تُحكى عنه الحكايات. ويقال إنه كان يتردد على المعجبات به كما يعود الطبيب مرضاه. وبالرغم من شعره الأشيب وتجاعيده ونظّارته، وبالرغم من نحول وجهه، فإنه حتى الآن يبدو بهي الطلعة، لاسيّما إذا نظرنا إليه من الجانب.‏
كان والد صوفيا لفوفنا طبيباً عسكرياً، وقدّر لـه في وقت مضى أن يخدم مع ياغيتش في الفوج نفسه. وكان والد فولوديا طبيباً عسكرياً أيضاً، وخدم في الماضي مع والد صوفيا وياغيتش في الفوج ذاته. وبغض النظر عن المغامرات العاطفية التي غالباً ما كانت معقدة وعاصفة، كان فولوديا طالباً ممتازاً، أنهى دراسته الجامعية بتفوق، ثم قرر التخصص في مجال الأدب الأجنبي، وقيل إنه يكتب أطروحة.‏
كان يقيم حالياً في الثكنات مع والده الطبيب العسكري دون أي نقود يملكها، مع أنه قد بلغ الثلاثين. في طفولتهما، عاش فولوديا وصوفيا لفوفنا في شقتين مختلفتين، ولكن دائماً تحت سقف واحد، وكثيراً ما كان يزورها للعب، ومعاً تعلما الرقص واللغة الفرنسية. ولكن عندما كبر وأصبح شاباً ممشوق القامة وسيما، بدأت تشعر بالخجل منه، ثم أغرمت به بجنون، وظلت تحبه إلى أن تزوجت ياغيتش.‏
كان لفولوديا أيضاً نجاح باهر مع النساء، فمنذ الرابعة عشرة من عمره تقريباً، كانت النساء اللواتي يخنّ أزواجهن معه يبررن لأنفسهن أن فولوديا كان فتى صغيراً.‏
ومنذ وقت ليس بالبعيد تناقلت الألسن عنه قصة، وهي أنه عندما كان طالباً كان يقيم في غرفة مفروشة قرب الجامعة، وكان يقترب من الباب كلما دقّ ويعتذر بصوت خافت "Pardon, Je ne suis las seul"(3).‏
اعتاد ياغيتش أن يفيض ابتهاجاً حياله، وتنبأ لـه بمستقبل عظيم كما تنبأ درجافن(4) لبوشكين، إذ يبدو أنه كان يحبه.‏
كانا يلعبان البلياردو والبيكيت لمدة ساعة وهما صامتان، وكان ياغيتش يصحب معه فولوديا أينما ذهب في الترويكا، وكذلك لم يُطلع فولوديا على أسرار أطروحته أحداً غير ياغيتش.‏
وقبل ذلك، عندما كان الكولونيل أصغر سناً، غالباً ما وجدا نفسيهما غريمين يتنافسان، ولكن لم يكن للغيرة مكان بينهما قط، وإذا ما اجتمعا في بيوت علية القوم، كان ياغيتش يُعرف بفولوديا الكبير، وصديقه بفولوديا الصغير.‏
وفضلاً عن فولوديا الكبير وفولوديا الصغير، وصوفيا لفوفنا، كان هناك شخص آخر في العربة، إنها مارغريتا ألكساندرفنا، أو ريتا كما كانت تدعى، قريبة زوجة ياغيتش، وهي فتاة تعدّت الثلاثين، شاحبة الوجه، لها حاجبان أسودان، وتضع نظارة دون ذراعين.‏
كانت تدخن سيجارة تلو الأخرى، حتى في جو الصقيع القارص، فهناك دوماً رماد على صدرها وركبتيها. كانت تخن في كلامها وتمط كل لفظة تقولها. زد على ذلك أنها امرأة باردة، قادرة على تجرع الليكيور والكونياك بأي قدر تشاؤه دون أن تثمل. كانت تروي فكاهات مريبة بطريقة ذابلة غير مستحبة. وفي المنزل، كانت تقرأ صحفاً سميكة من الصباح حتى المساء، تبعثر الرماد فوقها أو تلوك تفاحاً مجمداً.‏
ـ توقفي يا سونيا عن إحداث هذا الضجيج! ـ قالت بصوت مترنم ـ حقاً، إن هذا سخيف.‏
حين اقتربت من بوابة المدينة، تباطأت حركة الترويكا، فتراءت البيوت والناس بصورة خاطفة، والتصقت صوفيا لفوفنا بزوجها وقد هدأت واستغرقت في التفكير. كان فولوديا الصغير جالساً قبالتها، فيما اختلطت الآن أفكارها المشرقة السعيدة بأفكار أخرى كئيبة.‏
فقد جال في خاطرها: هذا الرجل الجالس قبالتها كان يعرف أنها تحبه، ومن المؤكد أنه صدّق الإشاعة القائلة إنها تزوجت الكولونيل par depit. لم تبح لـه بحبها يوماً أبداً، ولم تشأ أن يعرف بذلك، فأخفت مشاعرها عنه، ولكن بدا جلياً من نظرته أنه كان يفهمها جيداً، بينما عانت كبرياؤها بسبب ذلك. إلا أن الحقيقة الأكثر إهانة لها كانت تتمثل في أن فولوديا الصغير راح يعيرها اهتمامه فجأة بعد زواجها، وهذا شيء لم يكن لـه وجود من قبل. فقد أخذ يجلس معها صامتاً لساعات، أو يثرثر في أمور تافهة، والآن، عندما كانوا راكبين في الترويكا، شرع يدوس على رجلها بخفة تارةً، ويضغط على يدها تارة أخرى دون أن ينبس بكلمة واحدة. كان واضحاً أنه أراد لها أن تتزوج فقط، مثلما كان واضحاً أنه يحتقرها وأنه كانت تثير في داخله نوعاً محدداً من الاهتمام فحسب، بوصفها امرأة فاسدة وغير مستقيمة.‏
ولما كان شعورها بالانتصار والحب تجاه زوجها قد اختلط بالخزي والكبرياء المجروحة، فقد راودتها رغبة ملحة بالمشاكسة، لدرجة أنها أرادت الجلوس في مقعد الحوذي كي تصرخ وتصفر.‏
وبينما هم يمرون بدير نسوي ترامى إلى أسماعهم صوت جرس عظيم يزن نحو عشرين طناً، فرسمت ريتا إشارة صليب على صدرها.‏
ـ عزيزتنا أوليا في هذا الدير. قالت صوفيا لفوفنا وصالبت أيضاً بارتجاف.‏
ـ لماذا التحقت بالدير؟ سأل الكولونيل.‏
ـ par depit ـ أجابت ريتا في تلميح ساخر منها إلى زواج صوفيا لفوفنا من ياغيتش ـ إنها عادة دارجة هذه الـــ par depit. إنها تحدٍّ للعالم أجمع، لقد كانت أوليا تقهقه بصوت عال وتتغنج بطيش، وقد كان أمر العشّاق والحفلات الراقصة هو شغلها الشاغل، ولكن بغتة ـ انظروا ما حصل! لقد فاجأت الجميع.‏
ـ هذا ليس صحيحاً ـ أجاب فولوديا الصغير وهو يثني ياقته المصنوعة من الفرو، ويكشف عن وجهه الوسيم. ـ لم يكن هناك أية par depit، بل بالأحرى خوف محض إذا ما أردت أن توجهي الموضوع هذه الوجهة. فقد حكم على أخيها دميتري بالأشغال الشاقة، ومكان وجوده غير معروف الآن، وتوفيت أمها من فرط حزنها. رفع فولوديا ياقته مجدداً واستأنف بلا مبالاة: تصرفت أولياً تصرفاً صائباً، تصوروا فقط أنها تعيش كلقيط وبالأحرى مع جوهرة مثل صوفيا لفوفنا! هذا ليس بالأمر السهل.‏
أدركت صوفيا لفوفنا نبرة الاحتقار في صوته، فأرادت أن ترد عليه بشيء ناب، ولكنها لزمت الصمت، ثم عاودتها الرغبة ذاتها بالمشاكسة، فهبّت واقفة على قدميها، وصرخت بصوت باكٍ: أريد الذهاب إلى صلاة الصباح، ارجع أيها الحوذي، أرغب برؤية أوليا!‏
نفذ الحوذي أمرها. كان طنين جرس الدير عميقاً للغاية، وبدا أن ثمة شيئاً فيه ذكّر صوفيا لفوفنا بأوليا وحياتها، وبدأت الأجراس تقرع في الأديرة الأخرى أيضاً.‏
عندما أوقف الحوذي الترويكا، وثبت صوفيا لفوفنا من العربة وحدها، وتوجهت نحو البوابة مسرعة لا يرافقها أحد.‏
ـ أسرعي، أرجوك! صرخ زوجها، فالوقت متأخر.‏
عبرت صوفيا لفوفنا البوابة المظلمة، ثم الممر المؤدي إلى الكنيسة. كان الثلج الخفيف يهسهس تحت قدميها، وقرع الجرس فوق رأسها حتى خيّل إليها أنه يخترق كيانها كله.‏
هاهو باب الكنيسة وهو يفضي بعد هبوط ثلاث درجات إلى رواق طويل تتدلى على جانبيه صور القديسين. كانت رائحة البخور والعرعر تعمّ هذا المكان الذي ينتهي إلى باب بدا أنه يُفتح ويظهر منه خيال عاتم لامرأة تنحني لها. لم تكن الصلاة في الكنيسة قد بدأت بعد. كانت هناك راهبة تتحرك أمام المحراب الكنسي وتشعل الشموع في شمعداناتها، بينما انشغلت أخرى بإضاءة الثريا. وقريباً من الأعمدة والمقاعد الجانبية تبدّت هيئات أشخاص يقفون في الظلمة ساكنين: هذا يعني أنهم سيقفون على هذه الحال، بلا حراك، حتى طلوع الصباح ـ فكرت صوفيا لفوفنا، وبدا لها المكان مظلماً، بارداً وموحشاً، بل وأكثر وحشة من المقبرة ذاتها. نظرت حولها بغمٍّ إلى الهيئات الجامدة الساكنة وانقبض صدرها فجأة إذ تمكنت بطريقة ما من تبيّن أوليا في راهبة ضئيلة الحجم، نحيلة الكتفين، تغطي رأسها بمنديل أسود، على أن أوليا كانت قبل دخولها إلى الدير ممتلئة الجسم، وتبدو أطول قامة.‏
اقتربت صوفيا لفوفنا من المبتدئة مترددة ومتوترة جداً دون أن تعرف السبب، نظرت إلى أوليا عبر كتفها فعرفتها.‏
ـ أوليا! ـ قالت وضربت كفاً بكف وهي تنطق الاسم بالكاد من شدّة تأثرها، ـ أوليا!‏
عرفتها الراهبة على الفور فرفعت حاجبيها دهشة، فيما بدا وجهها الشاحب النظيف الطاهر، وحتى غطاء الرأس الأبيض الصغير الظاهر من تحت منديلها، مشرقين من شدّة الفرح.‏
ـ يا لها من معجزة سماوية! قالت وهي تضرب يديها النحيلتين والشاحبتين بعضهما ببعض هي الأخرى. ثم عانقتها صوفيا لفوفنا بقوة وقبّلتها، إلا أنها كانت تخشى أن تفوح منها رائحة الخمرة.‏
كنا عابرين للتو فتذكرناك ـ قالت منقطعة الأنفاس كما لو أنها مشت مسرعة ـ يا إلهي، كم أنت شاحبة! إنني سعيدة لرؤيتك، ما أخبارك؟ كيف حالك؟ هل تشعرين بالملل؟‏

يتبع..

  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06095 seconds with 11 queries