الموضوع: محمود البدوى
عرض مشاركة واحدة
قديم 19/08/2008   #17
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي الاسرار


سافر الدكتور حمدي زميل الدراسة بعد تخرجه من كلية الطب إلى لندن وعمل هناك في مستشفياتها سنين طويلة .. ولما رجع إلى مصر كانت أزمة المساكن قد استحكمت في القاهرة .. فوقع في حيرة شديدة إذ لابد أن يفتح عيادة ويزاول عمله كطبيب أو يعود إلى الخارج كما كان ..
وبعد بحث طويل ومشقة وجد من دله على عيادة في شارع الفلكي لطبيب يهم بمغادرة القاهرة .
وانتقل إليها شاكرا الله على نعمه إذ وفقه إلى المكان القريب من ميدان الأزهار حيث توجد عيادات معظم الأطباء وحيث تحققت الرغبة الدفينة منذ الصبا بالعمل في هذا الموقع ..
واستقر الدكتور حمدي في مكانه وسارت أموره كطبيب على أحسن الوجوه .
وكان الدكتور حمدي مع تفرغه للطب .. يعشق التنويم والإيحاء .. ويقرأ كل الكتب القديمة والحديثة التى تصدر في هذا الباب .. ويزاوله كهواية متمكنة من النفس .
ولهذا خصص لجلسة التنويم غرفة خاصة في عيادته مجاورة لغرفة الكشف .. يزاول فيها عمله في يوم الجمعة فقط ولا يحضرها إلا أخص أصدقائه .
وكان عنده تمرجي أسمه خليل وهو في الوقت نفسه فراش وخادم يقوم له بكل الأعمال .
وكان هذا التمرجي .. ربعه في الرجال وثيق التركيب حاد النظرة سمين الوجه أحمره .. يرتدى مريلة التمرجي البيضاء .. ولا يخلعها في صيف ولا شتاء ..
وكان يعرف أصدقاء الطبيب جميعا من غير المرضى ويعرفهم بكل صفاتهم .
ومع كثرة ترددي على العيادة ، ولكنى كنت أخاف من جوها إذا لم أجد الدكتور إو المرضى .. ووجدت التمرجي وحده ..
كان يصنع لي القهوة ، ويستقبلني بحفاوة وأدب ، ولكن مشيته وصمته كانا يخيفاني .
وكنت أرى الغرفة التي يستعملها الدكتور في يوم الجمعة للتنويم مغلقة وعلى بابها ستارة كثيفة دكناء .. وكان في هذه الغرفة علم الدكتور وأسراره .
وذات مساء .. دخلت العيادة وكان بابها مفتوحا .. فلم أجد التمرجي جالسا في المدخل ، ولا في المطبخ كعادته عندما يكون الدكتور في الخارج .. فرجعت إلى الباب الخارجي وضغطت على الجرس لأنبهه .. ولكنى لم أسمع وقع خطواته الثقيلة استجابة للجرس ، فجلست على أول كرسي في المدخل وأنا أدير بصري في كل الأبواب المغلقة .. ومرت دقائق وأنا أحس بانقباض ضاغط وبرهبة شديدة .. وأن شيئا سيقع .. أو وقع بالفعل ..
وبعد دقائق رهيبة من الفزع والسكون ، دخل خليل في خطوه الثقيل وحيا ..
وقال يبرر غيابه :
ـ كنت عند الدكتور فاضل أصلح له جهاز الأشعة .. فأرجو المعذرة ..
وأضاف :
سأعمل لحضرتك قهوة سريعا .. والدكتور سيأتي حالا ..
وسريعا حمل قهوة تركية على صينية نظيفة .. وكان أحسن من يضع الفنجان وبجانبه كوب الماء المثلج .
وكنت إذا تطلعت إليه أرى رأسه دائما منحنيا .. كان يخصني بأدب جم .. ويعرف مقدار العلاقة الوثيقة التي بيني وبين الدكتور حمدي .. ويلمس ذلك كلما بعثه الدكتور في طلبي لأي عارض أو ألم نزل به فجأة ..
ولهذه العلاقة كان خليل يخصني بالجلوس في مكتب الدكتور حمدي عندما يكون هذا في عمل بالخارج .
وكان مكتبه عامرا بالكتب الطبية والعلمية ، ويعنى عناية خاصة بكتب التنويم .. وقد تمكنت منه هذه الهواية ، وكنت أسمع الكثير مما يقوم به ويعمله في الغرفة المخصصة لذلك .. كانت أعمالا محيرة للعقل وخارقة ..
ولم أكن أحضر هذه الجلسات بصفة منتظمة لظروف عملي .. ولأني كنت ألاقى الدكتور في نفس اليوم في المساء في مطعم كنا نتعشى فيه كل يوم جمعة .
ومع براعة الدكتور في التنويم ، ولكنى لم أكن أؤمن بهذه العملية إيمانا مطلقا .. وكنت أرتعش من مجرد تصور أن الوسيط قد لا يصحو .. من نومه .. وينام نومه الأبد وما ذنب الفتـاة المسكينة .. وكانت وديعـة ورقيقة المشاعر للغاية .
وكنت كلما رأيتها أشفق عليها وأقول لحمدي :
ـ يا أخي .. أختر أحدا غيرها .. إنها مسكينة وتعبت ..
ـ لا يصلح غيرها .. أتعتقد أن المسألة سهلة .. الوسيط له خصائص معينة .. وقد اجتمعت كلها فيها ..
ـ نوم خليل .
وضحك وقال :
ـ خليل .. ينومنا جميعا .. !
***
والواقع أن خليل يستطيع أن ينومنا جميعا كما قال عنه الدكتور حمدي .. لأنه يتمتع بإرادة قوية ونظرات نافذة فيها التسلط والجبروت .. وبهذه النظرات يستطيع أن ينوم من يشاء .. ولهذه النظرات النارية ولارتباطه الوثيق بغرفة التنويم ، كنت أخافه ، فهو يعرف كل أسرارها .
ولقد وجدته ذات ظهر في العيادة ، وكان في حديث حاد مع رجل يحمل حقيبة مكتظة بالأوراق .. وكان الرجل خارجا وأنا داخل .. و خليل لا تزال بيده الورقة التي تسلمها من الرجل الذي أدركت أنه المحضر .. لأني كنت أعرف أن هناك قضايا بين الدكتور وصاحب العمارة بسبب الشقة لأن حمدي أجرها من الباطن .. وصاحب البيت يسعى إلى طرده ..
وأعطاني خليل الورقة المكتوبة بالكوبيا الباهتة وبالخط الرديء الذي لا يقرأ وهو يقول ..
ـ أنظر سيادتك إلى تاريخ الجلسة 19 نوفمبر .. أو 29 الخط غير واضح ..
فتناولت منه الورقة وقلت له :
ـ أنها .. 29 نوفمبر .. على الأرجح .
ـ إن شاء الله لن يكون هناك 19 ولا 29 وسيستريح الدكتور من كل هذا العذاب نهائيا .
ـ لماذا لا تتفقون معه ..
ـ نتفق مع من يا أستاذ رأفت .. الدكتور المهذب الجنتلمان الذي عاش في بلاد الإنجليز يتفق مع وحش .. شيطان من شياطين الإنس .. له ثلاث سنوات يعذبنا .. مرة يعلن الدكتور في طنطا .. ومرة في الإسكندرية .. ومرة يدعى أننا لم ندفع الإيجار ، أساليب كلها شيطانية ملتوية .
ـ أعرف كل هذا .. ولقد حدثني الدكتور حمدي عن الكثير .. وكان مـن الواجـب أن يعمـل العقد في اليوم الأول من سكنه ..
ـ لم يقبل يا أستاذ .. وحاول الدكتور بكل الوسائل ولكنه رفض لأنه جشع يجمع المال بكل الوسائل .. اشترى هذه العمارة في أيام الرخص بتسعة آلاف جنيه .. وفيها الآن أربع شقق مفروشة تغل له أكثر من هذا المبلغ .. ومع هذا الاستـغلال البشـع لا يحمـد ربنا ويريد أم يؤجر شقتنا مفروشة ..
ـ كلهم أصبح هذا الرجل ..
ـ العالم انقلب إلى وحوش .. والإنسان المهذب الذي يعيش بالقيم .. يستضعفه الأنذال .. الدكتور حمدي لم يرفع أجر الكشف كغيره .. ولا يزال أجره جنيها وغيره يأخذ عشرة .. وليس لهم صفاته في العلم .. ولكنهم أصحاب دعاية .. ويأتي إليهم الفلاحون من الريف مساقون وعيونهم معصوبة لا يعرفون الجيد من الرديء ولا الطالح من الصالح .. ويتلذذون من الاستغلال ..
ـ ولكـن مـا ذنبهـم إذا لـم يكن هناك من يدلهم على الطريق ..
ـ إنهم لا يهتدون أبد مهما تحاول معهم .. الدكتور فاضل جارنا كشفه بجنيه وهو رجل صالح وعالم وعنده كل الأجهزة الحديثة .. للأشعة والتحاليل وغيرها ويكشف بأمانة وحرص ومع ذلك يتركونه ويذهبون إلى غيره ويدفعون خمسة جنيهات وعشرة .. جهالة عمياء ..
والدكتور فاضل هذا عندما يذهب إليه صاحب البيت الملعون كمريض ، مع جشعه وكل صفاته ، لا يأخذ منه مليما .. ويحاول إقناعه بأن يتصالح مع الدكتور حمدي ولا داعي للقضايا .. لأنها لا توصل لنتيجة .. ولكنه لا يسمع كلامه ..
شرير يا أستاذ مسلح بكل أنواع الشر ولا يفكر إلا في الفلوس .. كيف يتصالح مع رجل مهذب ضعيف مجرد من كل سلاح ..
يوميا في كل صباح يلقى علينا الزبالة متعمدا .. من شرفته .. انه يسكن فوقنا .. وأزيل كل شيء واصبر ..
ومرة .. كان في حالة موت .. عنده سكر شديد وربو وطلبه لإعطائه حقنة .. ولم يكن في العمارة من الأطباء سوانا .. فأعطيته الحقنة .. ومد لي يده بعشرة قروش .. فرددتها له .. وقلت له عيب يا معلم .. داحنا جيران ..

***

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.06726 seconds with 11 queries