عندما تغني جدتي..
* هل ترغب في النوم يا صغيري؟
- لا أريد أن أنام يا جدتي..
* الوقت متأخر يا صغيري.. هيا “نام نام وأذبح لك جوزين حمام”..
هل تحاول الجده بهذه العبارة أن تكرس الكرم الحاتمي في روح صغيرها، أم أنها تدربه عن العنف والذبح، لا أعلم ما هو الأصل التاريخي لهذه العبارة ولكن لماذا الذبح ولماذا الحمام، هل هو بالمعنى المصري له!..
أم أن الجده تعلم أنه سيأتي يوم تذبح فيه حمامة السلام!.. حمامة الصدق!.. حمامة الأخوة والإخاء!.. حمامة الترابط؟..
لم تذبح الحمامة يا جدتي بل نحرت على قارعة الطريق!.. وأصبح الكل يبصق على جثتها ويضحك فخور بأنه ينتهك حرة الميت قبل الحي!..
ما أعرفه أن هذه العبارة سمعتها في صغري ورددتها على مسامع أطفالي وهم صغار، وأشاهدها في التلفاز أيضاً، فهل نحن عنيفين بطبعنا؟، سؤال أتمنى أن أجد الإجابة عليه..
ضغوط الحياة الصعبة هذه الأيام!، وزيادة تكاليف المعيشة بشكل لا يطاق!، جعلت من البشر أناس عصبيون بشكل جنوني، فقط شاهدهم عند المحاسب في المحل التجاري، أو عن الإشارة بمجرد أن تخرج منك إشارة ربما عفوية، أو أن تضغط على بوق السيارة حتى يفور من حولك وكأنك قد صفعته على وجهه، لم يعد أحد يستطيع تمالك أعصابه!..
لم يعد أحداً يحترم أحد.. هل يتعمدون مضايقتك؟.. أم أنهم يمشون على غير هدى، لا يعرفون إلى أين المقر؟، لمن الشكوى؟، ماذا نقول؟، فقط أوامر من هنا وهناك.. ولا أحد يقدر أنك بشر..
مديرك في العمل.. يريدك آله لا تبالي بضغوط الحياة..
أطفالك.. لا يعرفون معنى أنك مرهق، هم لم يروك من الصباح.. يريدون اللعب معك.. الإرتماء في أحضانك..
وأنت هل تتذكر تيك الأيام التي أتعبت فيها الجده..
كيف تتأقلم مع من حولك؟، وأنت ترى من يحاول أن يرتقي للعلا على كتفك، تجده في كل مكان.. من الأخوة، من القبيلة، أو صديق عزيز..
ويبقى هؤلاء يطلقون الإشاعات ويصدقونها قبل أن يسمعها غيرهم، يكذبون.. يغتابون.. يتمادون.. ويعتقدون أنهم وصلوا للقلوب.. فلا يصدق اليوم إلا الكذاب الأشر..
وهم بذلك يحاولون دق المسمار الأخير في نعش ما بقي من ترابط.. ما بقي من صلة رحم.. من أجل مكاسب بسيطة لا تتعدى لقب أو نفوذ أو سلطة..
لم يحترموا هذا الأخ أو ابن العم أو حتى أخت..
وأنت تقف بعيداً لا تعرف من أين تأتيك الطعنة الأخيرة.. لا تعرف من يحاول النيل منك، ربما غريب.. وأحياناً كثيرة قريب.. من الممكن أن يكون صديق.. ولم تتخيل أنه شقيق..
لا أريد أن أسقط في وحل الكلمات، وتتقاذف مني العبارات.. هنا وهناك على وقع الآهات.. فقط أريد العيش بأمان.. بعيداً عن المنغصات..
آه جدتي ليتك علمتني العنف بدلاً من الرحمة..
جدتي كم اشتقت إلى صوتك.. لأني أشعر معه بالأمان.. أشعر بأنه لا يكذب.. يصدقني.. يطربني.. ولا يخدعني..
جدتي وهي تغني صوتها أرق من الأصوات التي بلينا بسماعها ليل نهار، ربما لأنه بدون مضخمات وبدون محسنات، صوت طبيعي ينبع من القلب، لا تريد مني أن أشتري شريطاً جديداً لها، هي تغني لأني جزء منها، بينما يغني آخرون لكي يسلبوا ما في جيبك..
الحياة صارت أقسى ولكن تبقى أغنية جدتي “نام نام وأذبح لك جوزين حمام” وإن نحرت حمامة السلام.. أفضل عندي من ما يحب أطفال هذا الزمان ترديده على لسان نانسي عجرم “كدي كدا ديد” عفواً “شخبط شخبيط”.
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النور:19]
|