16/05/2008
|
#2
|
مشرف متقاعد
نورنا ب: |
May 2006 |
مشاركات: |
3,276 |
|
هبَّ أورو هادرًا، وصدرُه يموجُ كبحر، يدبُّ غائرًا في الوهاد، هائجًا كثور. لم يدعْ صرحًا أو بوابةً يعبرها إلهٌ من آلهة السماء إلى الأرض إلا وهزَّ أركانَها بزندِه الصلد كحجر صوَّان، غير آبهٍ لعصيِّ العابدين على ظهره، وإن اجتمعوا عليه كرجلٍ واحد. عرفوا أنه كان آدميًّا وقد توحَّش، يدرك بحدَّة النظرات إليهم ما تجيشُ به النفوسُ قبل أن تنطق الشفاه، حتى لو أسدل اللسانُ سِتْرَه على ما يمور بها من خوف.
لم تعد الأرضُ بعد غضبته كما كانت، ولم يدرك كنهَ ما يجوس في صدره إلا العاكفون في كهوفهم وبعضُ نساء. لكن الأمهاتُ الراجفاتُ من الفتنة أنذرنَ بناتَهن العذارى، فبتنَ يخشينه في أحلامهن الصغيرة دونَ نُهى، بعدما ألمَّ به الوجدُ وما ألمَّ – نُهى الذي لا تسلم من مداعباته عذراءُ، خرجت تسبحُ فجرًا في نهر، أو ناظرةً لطيفها بدرًا في عين بئر. لم تعد زفراتُه تسري وقتَ الهجير كنسمةِ هواءٍ عابرة، ولا النساء تهمسن بلطائفه حين يدببن الأديمَ ورجالُهن في جماعٍ حميم. كذا المنام قد خلا من عَذْبِ سيلِه خُلسةً عن أعين الغافلين.
ها هي الشمسُ باتت – بعد عشقِه تارا – شقاءً حارقًا، ينضح بالكدح فوق الجباه، وقد تسلَّطت بنارها على أديم الأرض سبع سنينٍ عجاف، فجفَّ الزرعُ، وهلك الضرعُ، وعلا الفجر بالعويل والبكاء. أمَّا الكواكب والنجوم فقد غاضت ليلاً في وَمَدِ الماء. وجه سالا بات شاحبًا، وشاح بنوره عن السماء. دخلت البلبلةُ القلوب، وماجَ الناسُ، تأكلهم الضغينة. فقد كانوا على ما ترك نُهى بينهم والأرباب، لكنهم لم يجدوا ما يؤمِّنهم من جوعٍ في المعابد، أو ما يأتمنون إليه في القرى من جوار. أمَّا هذا اللعين، أورو، فلم يخرج بين ظهرانيهم داعيًا لإلهٍ جديد، بل موقِعًا في قلوبهم الزلزلةَ من نقمة الأرباب. فلا طاقةَ لهم، إذا عادوا، بما قلبُه احتمل.
الكهَّان والجباة الأوفياء زعموا أن آلهتهم غادروا بمراكبهم، لاعنين الأرض، إلى السماء، ثم لاذوا إلى بيوتهم، لا يأمنون على أنفسهم من قحطٍ أو عطش، يخرجون في الليل وآناء النهار، يذبُّون الخطو بين الزرع خشيةَ غارةٍ من غارات أورو الخاطفة على خدور حرائرهم وعند مشارب الماء. لكن الضعفاء والمشردين في الأرض لم يروا في هذا الخطب إلا أن أورو قد ورث ديدنَ الربِّ نُهى من بعده مع النساء!
تناثرت حوله الخرافات، لكنه لم يُحِل نظرَه، ملتفتًا إلى لغوٍ عن برج السماء، يشعل الحرائقَ في حقول الآلهة وعلى رؤوس الجبال، ولم يترك إلا بوابةً واحدة تركن على ذروة الشاهق المدثَّر بالثلج، موطنِ الأرباب فوق الغيوم. هناكَ أوقدَ نارَه، يمضي ليله في الأزيز، ناظرًا وجهَ الربِّ، تؤنسُه بعضُ ذئاب.
صحا الربُّ على جرحه، وقد رأى ما جلبَ إليه النداءُ وما فعل. تارا، بعد لأيٍ في الغيب، بات قلبُها لا يعودُ الجسد. تلكَ المعشوقةُ بالطين، على نُسَغ الفؤادِ طلَّت، بريح أجاءَها البلل. تألَّمَ الإلهُ، فجاد في النَّجْدِ، وفي حمَّى المساس والطلل، لهجَ القلبُ: تارا عندَ المغيب لاحت، كسرب ضوءٍ يرعشُ في ثنايا العتمة، على الأنام عَرَف. ثم بعين اللهيب الذاهب بالوصل إلى العماء مَحَت، وإلى قلب سالا الفراغ، بالندهةِ لا بدَّ سَرَتْ. لها وجهُ الغيابِ خضَّبَه النُّهى، ودأب، مغمضَ السَّيل، لاعجَ الفؤاد بها الطريقَ عَرَج. ولأمرٍ جاء يُذريه ذرًّا، ربَّةُ الأسرار منه سالا إلى المغيضِ دَنَتْ، ثم في الرسم غابت، وعينُها للوصل ما قد حَنَتْ. هكذا أخبرَ السرُّ مَن ولَج التيهَ في الجسد، وفي بلِّ الطين خريرَه قد ذَرَح.
أجهش الربُّ العويلَ، ونَحَب، وعند جرف السؤال صوتُه سال في الثَّعَب، ثمَّ اللسانَ بحدِّ العليل منهُ جَرَح، وعلى نصلِ الذَّكاء الصاعد خار وقَرَح:
يا التي أنتَ قالت لكَ نجدُ البريق،
ما سرُّ غيم إلا شوق ذاكَ العتيق،
كلَّما نارَ سرٌّ عنكِ زادَ الحريق.
توجَّعَ بشَدِّ النحيبِ نُهى، أزاد على صدعه أورو العواء، رأى قلبَه الفقيدَ يضطرمُ بأحشائه موجًا لاهبًا، يجوحُ في فضائه كنيزكٍ مضطرب. تألَّم الربُّ ساهمًا، ينوءُ ظهرُه بما حمل. سار بين المجرات تاركًا عرشَه الغاربَ وهائمًا، له الشمسُ في الفؤاد مادت وشاحَ قمر. أطلَّ على وجه البسيطة، وكانت له الطَّلل. لاح بعين أورو عجوزًا هرمًا، أشعلت حمرةُ المغيب قلبَه الذبيح. أتى على عصاه متكئًا، راجفًا، لا يولي سؤالَ الطَّيرِ عن جرحه أمرًا أو مُجيب. على وَقْعِ ذرِّه بين التلال البعيدة صاحت، وأتى لها الخبر: مَن مسَّه الطينُ عاد! هكذا، سار الردُّ في الصدى حين سَقَب، ثقيلاً، وئيدًا، متهدلاً على جنبيه، وعلى يديه قامَ الربُّ ونهض. بخطى قدمين مرتجفتين وطئ التراب، شائحًا السيرَ نحو عصاه المغروزة في الطين، وإليه دأب، قابضًا عصاه، يشتِّمه، ذائقًا الطَّعمَ، بالغًا منه الأنينَ، وإذ به الروحَ، ماكثًا فيه، قد ثَقَب.
: ما عاد بكَ إلى الأديم، يا نُهى؟ سالا في قلبه أرعشت. قال: بأمري ذاهبٌ إلى أورو فملاقيه. نادت: حذارِ... مما إليه صبوت! قالَ: هو الموت! فإن قتلني، أراحني من فجيعة البعاد، وإن قتلتُه، فزتُ بنبضه لباسًا، وبه إلى تارا أعود.
كانَ القمرُ محاقًا عند صعوده أولَ الجبل. لم يأتِ من بوابة الملك، ولو أراد فعل. متقدًا بما إليه جاء، وعليه نوى، ينهدُ، بساعديه الطريقَ حَفَر، يطلبُ من نجمة الرعاة الدليلَ ونَظَر. علا السفحَ، نتوءاتِ الصخر، صدرُه يشقِّقه الصقيعُ، وعلى ظهره ينوء الفقدُ داميًا كحجر.
سالا للضوء أوشمتْ وشاحَ القلب برسم تارا، تُبدِّلُ الأعرافَ على وجهِ قمر. أورو تنادى على غريمِه بشوقٍ، من ريحِه يشتمُّ توجُّسَ الصور، بينما الربُّ يسنُّ عصاه بنصلٍ، أوقد النيرانَ في الحجر. يقدحُ الظلَّ بقرني ثورٍ، على جنبيه أشباح رمق. أورو على حدور الصخر تواثبَ كفهدٍ، ينأَمُ ناظرًا، كالذبيح ذأب. دخلَ البدرَ حين تارا منه لاحت، وعلى صهده الذئابُ بالوعيد عَوَتْ.
هذا الوحشُ الناظرُ إليه كان هو، حين طوى الطريقَ إلى تارا، يدركُ الروحَ التي للريح حَوَتْ. عذرًا، يدي، ما القلبُ جنى إلاَّ عشقَ هذا الليل للسحر: ألولاه، تارا، نُهى الطينَ قد جَبَل، أو كان أورو – أورو القرين – إليكِ سال عن ذاكَ الجبل! تألَّمَ الربُّ حين رأى وعدَ الفقيد على ذؤابة هذا الزَّلل. أجل، دخلَ الدبيبَ الذي ينبضُ في الطين منذُ الأزل. أهذا الشقيُّ، رَبَّاه، أنا... ومَن وجَد! في عين تارا الذهابَ إليه قد وَعَد. قال: أنتَ مَن دخل الوهمَ، وعَرَف... عنه أسالَ الطريقَ، وفي الهوى اللَّجِبِ السؤالَ ذَرَح.
بلغَ ذروةَ الشاهق داميًا، يخنُّ الأنفاسَ، لاهثًا في النَّصَب، بينما أورو ينأَمُ بصوته هادرًا، عند بوابة الغيب ينتظر. نادى الربُّ على أورو، فنظر. بثوب العشق واجفًا رآه، وعلى محيَّاه يلوح الخبر. أنُهى الذبيحُ إليَّ أتى بقرنيه وعصاه التي قد سَحَر؟! قال: لو أردتُ لجئتُ برقًا، ما أنقضُّ عليكَ، إلا وَذَر. لكنني إلى قلبكَ جئتُ أسعى، وإلى تارا أمثلُ فيه – أمرٌ بات هو منه لا مَفَر.
: فامكث على هيئتكَ حين عشقتَ، يا نُهى، إليكَ سيأتي الخطبُ منِّي، وقد نَذَر. صاح: لم يبقَ إلا التناهدُ في البطحاء بيننا، به عن قلب تارا تنجلي الصور. تحلَّقَ بالزئير مجلجلاً: ملعونٌ أنتَ، يا نُهى، ثمَّ نَهَر: وإنني قاتلك، ولو فزتَ عن مدارك الغيب أو السَّفَر. فردَّ الإله المتيَّمُ: آتِني بهذا الشَّهد، إذن... لأجلها جرحتُ الماءَ، يا أورو، وفي اللسانِ منِّي لَجَب. وإنني لا محالة قاتلك، حتَّى نهرُه يفيضُ في الثَّعب.
حينها تبدَّى وجهُ الإله عن فارس قديم، تألَّقَ على صدره مخلبُ نسرٍ جُرِح. عصاه بزنده سَرَتْ رمحًا، في الريح سَعَر، يحدِّق في عين الذئب، التي شذرُها بالضوء لَمَع. فأطلق له الوحشُ النابَ السخيَّ، كجلمودِ صخرٍ نحوه ذَرَع.
ترائيا في قلب سالا. إليهما بالنَّعيبِ تضرَّعت، وفي سوْرةِ القلبِ تارا، كغمامٍ يهمي، إلى غمدها أرجعت أنينَها الذي يصارعُ الريحَ، تمتشق العواءَ، وتسبق الصريعَ إذا صَدَع. أخفقتْ أفئدةُ النسور في عروشها بجلجلة الفراغ، وأنذرت من عمائها النجومَ إذا ربَّ الأوثانِ أنجدت. تسارع في الغابات دقُّ طبلٍ يرعى نُذُرَ القرين. إلى تارا الزفافُ، صاحَ لها الحرثُ، جاءَ والصَّبَب. ها ابن التراب ثبَّ في الهواء عاليًا، نحو الغريم كالشهاب جَنَح. عضَّ زنده، وبالرمح ألقى، يغرز في لحمه النابَ، وبالرِّضاب منه قد جرح.
تلقَّاه نُهى بقرنيه، فأدمى له الصدر! وفي العرق برح، لكنه راغ من بطشه، ملتويًا، الحلقَ منه قد لَمَح، وانكبَّ عليه كالريح عاتيًا، يمزِّق النحرَ، يجذُّه بالأنياب جذًّا، وبالنواجذِ قَطَع. جثا الإلهُ على الأرض خائرًا، فانشق البدرُ، وعن وجه تارا صَدَع، يصدُّ الطبلَ عن الدبيب، والريحُ بالخوارِ ذَرَع. نُهى، بالزفرات إليها، أنطقَ الروحَ، وشَرَع. منِّي سالَ الرحيقُ، وفي التراب لكِ الوجدَ زَرَع.
ندبنَه العجائزُ في مضاجعهن، حين صفيرُ النَّسرِ سَطَع. سالا من بئرها أدمعت ندفًا أزال الروحَ عن الجسد، ففاضَ الذبيحُ بنوره عشقًا، به الوحشُ الرابضُ إلى السماء سَرَب. أفضى جرحَه إلى تارا، وعلى رَهَج الفؤاد ذهب. سالا في البعيد نادت: أي نُهى... في جِنانِ البدر، سالَ منكَ الجرحُ، وإلى تارا قد صَرَع.
|
|
|