ثمتأمل في جميع أصناف الحيوان، كيف "بسم الله الرحمن الرحيم" أعطى كل شيء خلقه، ثم هداه صدق الله العظيم لاستعماله، فلولا أنه هداه لاستعمال تلك الأعضاء التي خلقت له في وجوه المنافع المقصود بها، لما انتفع بها الحيوان، وكانت كلاً عليه، فعلم بذلك أنه أكرم الكرماء، وارحم الرحماء. من فيض ذلك الفاعل المختار - جل جلاله - ومن وجوده، ومن فعله، فعلم أن الذي هو في ذاته أعظم منها، وأكمل، واتمم وأحسن، وأبهى وأجمل وأدوم، وأنه لا نسبة لهذه إلى تلك. فما زال يتتبع صفات الكمال كلها، فيراها له وصادرة عنه، ويرى أنه أحق بها من كل ما يوصف بها دونه. وتتبع صفات النقص كلها فرآه بريئاً منها، ومنزهاً عنها؛ وكيف لا يكون بريئاً منها وليس معنى النقص إلا العدم المحض، أو ما يتعلق بالعدم؟ وكيف يكون العدم تعلق أو تلبس، بمن هو الموجود المحض، الواجب الوجود بذاته، المعطي لكل ذي وجود وجوده، فلا وجود إلا هو: فهو الوجود، وهو الكمال، وهو التمام، وهو الحسن، وهو البهاء، وهو القدرة، وهو العلم، وهو هو، و "بسم الله الرحمن الرحيم" كل شيء هالك إلا وجهه صدق الله العظيم. فانتهت به المعرفة إلى هذا الحد، على رأس خمسة أسابيع من منشئه، وذلك خمسة وثلاثون عاماً، وقد رسخ في قلبه من هذا الفاعل، ما شغله عن الفكرة في كل شيء إلا فيه، وذهل عما كان فيه تصفح الموجودات والبحث عنها، حتى صار بحيث لا يقع بصره على شيء من الأشياء، إلا ويرى فيه أثر الصنعة، ومن حينه، فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع، حتى اشتد شوقه إليه، وانزعج قلبه بالكلية عن العالم الأدنى المحسوس، وتعلق بالعالم الأرفع المعقول. فلما حصل له العلم بهذا الموجود الرفيع الثابت الوجود الذي لا سبب لوجود جميع الأشياء، أراد أن يعلم بأي شيء حصل له هذا العالم، وبأي قوة أدرك هذا الموجود: فتصفح حواسه كلها وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، فرأى أنها لا تدرك شيئاً إلا جسماً، أو ما هو في الجسم، وذلك أن السمع لا يدرك المسموعات، وهي ما يحدث من تموج الهواء عند تصادم الأجسام، والبصر إنما يدرك الألوان، والشم يدرك الروائح، والذوق يدرك الطعوم، واللمس يدرك الأمزجة والصلابة واللين، والخشونة والملاسة، وكذلك القوة الخيالية لا تدرك شيئاً إلا أن يكون له طول وعرض وعمق؛ وهذه المدركات كلها من صفات الأجسام، وليس لهذه الحواس أدراك شيء سواها، وذلك لأنها قوى شائعة في الأجسام، ومنقسمة بانقسامها، فهي لذلك لا تدرك إلا جسماً منقسماً، لان هذه القوة إذا كانت شائعة في شيء منقسم، فلا محالة أنها إذا أدركت شيئاً من الأشياء، فانه ينقسم بانقسامها؛ فإذن كل قوة في جسم، فانها لا محالة لا تدرك إلا جسماً أو ما هو جسم.
وقد تبين إن هذا الموجود الواجب الوجود، بريء من صفات الأجسام من جميع الاتجاهات، فإذن لا سبيل إلى إدراكه إلا بشيء ليس بجسم، ولا هو قوة في جسم، ولا تعلق له وجه من الوجوه بالأجسام، ولا هو داخل فيها ولا خارج عنها، ولا متصل بها ولا منفصل عنها. وقد كان تبين له أن أدركه بذاته، ورسخت المعرفة به عنده، فتبين له بذلك أن ذاته التي أدركه بها أمر غير جسماني، ولا يجوز عليه شيء من صفات الأجسام، وان كل ما يدركه من ظاهر ذاته من الجسمانية فانها ليست حقيقة ذاته، وانما حقيقة ذاته ذلك الشيء الذي أدرك به الموجود المطلق الواجب الوجود. فلما علم أن ذاته ليست هذه المتجسمة التي يدركها بحواسه، ويحيط بها أديمه، هان عنده بالجملة جسمه، وجعل يتفكر في تلك الذات الشريفة، التي أدرك بها ذلك الموجود الشريف الواجب الوجود، ونظر في ذاته تلك الشريفة، هل يمكن أن تبيد أو تفسد وتضمحل، أو هي دائمة البقاء؟ فرأى إن الفساد والاضمحلال إنما هو من صفات الأجسام بأن تخلع صورة وتلبس صورة أخرى، مثل الماء إذا صار هواء، والهواء إذا صار ماء، والنبات إذا صار تراباً، والتراب إذا صار نباتاً، هذا هو معنى الفساد.
وأما الشيء الذي ليس بجسم، ولا يحتاج في قوامه إلى جسم، وهو منزه بالجملة عن الجسمانية، فلا يتصور فساده البتة. فلما ثبت له أن ذاته الحقيقة لا يمكن فسادها، أراد إن يعلم كيف يكون حالها إذا اطرح البدن وتخلت عنه، وقد كان تبين له أنها لا تطرحه إلا إذا لم يصلح آلة لها، فتصفح جميع القوى المدركة، فرأى أن كل واحدة منها تارةً تكون مدركة بالقوة، وتارةً تكون مدرة بالفعل: مثل العين في حال تغميضها أو أعراضها عن البصر، فانها تكون مدركة بالقوة - ومعنى مدركه بالقوة أنها لا تدرك الآن وتدرك في المستقبل - وفي حال فتحها واستقبالها للمبصر، تكون مدركه بالفعل - ومعنى مدركة بالفعل أنها الآن تدرك - وكذلك كل واحدة من هذه القوى تكون مدركة بالقوة وتكون مدركة بالفعل، وكل واحدة من هذه القوى إن كانت لم تدرك قط بالفعل، فهي ما دامت بالقوة لا تتشوق إلى إدراك الشيء المخصوص بها لأنها لم تتعرف به بعد، مثل من خلق مكفوف البصر؛ وان كانت قد أدركت بالفعل تارةً، ثم صارت بالقوة، فانها ما دامت بالقوة تشتاق إلى الإدراك بالفعل لأنها قد تعرفت إلى المدرك، وتعلقت به، وحنت إليه، مثل من كان يصيراً ثم عمي فانه لا يزال يشتاق إلى المبصرات. وبحسب ما يكون الشيء المدرك أتم وأبهى وأحسن، يكون الشوق أكثر؛ والتألم لفقده اعظم، ولذلك كان تألم من يفقد بصره بعد الرؤية أعظم من تألم من يفقد شمه، إذ الأشياء التي يدركها البصر أتم وأحسن من التي يدركها الشم، فان كان في الأشياء شيء لا نهاية لكماله، ولا غاية لحسنه وجماله وبهائه، وهو فوق الكمال والبهاء والجمال، وليس في الوجود كمال، ولا حسن، ولا بهاء، ولا جمال إلا صادر من جهته، وفائض من قبله، فمن فقد إدراك ذلك الشيء بعد إن تعرف به، فلا محالة أنهما ما دام فاقد له، يكون في ألام لا نهاية لها، كما أن من كان مدركاً له على الدوام، فانه يكون في لذة لا انفصام لها، وغبطة لا غاية لها ورائها، وبهجة وسرور لا نهاية لهما. وقد تبين له أن الموجود الواجب الوجود.
متصف بأوصاف الكمال كلها، ومنزه عن الصفات النقص وبريء منها. وتبين له أن الشيء الذي به يتوصل إلى أدركه أمر لا يشبه الأجسام، ولا يفسد لفسادها؛ فظهر له بذلك أن من كانت له مثل هذه الذات، المعدة لمثل هذا الإدراك؛ فانه إذا أطرح البدن بالموت؛ فإما أن يكون قبل ذلك - في مدة تصريفه للبدن - لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود؛ ولا اتصل به؛ ولا سمع عنه؛ فهذا إذا فارق البدن لا يشتاق إلى ذلك الموجود ولا يتألم لفقده. واما جميع القوى الجسمانية، فانها تبطل ببطلان الجسم؛ فلا تشتاق أيضاً إلى مقتضيات تلك القوى، ولا تحن إليها، ولا تتألم لفقدها. وهذه حال البهائم غير الناطقة كلها: سواء كانت من صورة الإنسان أو لم تكن. واما إن يكون قبل ذلك - في مدة تصريفه للبدن - قد تعرف بهذا الموجود، وعلم ما هو عليه من الكمال والعظمة والسلطان والحسن إلا انه أعرض عنه واتبع هواه، حتى وافته منيته وهو على تلك الحال، فيحرم المشاهدة، وعنده الشوق إليها فيبقى في عذاب طويل، وألام لا نهاية لها. فأما من يتخلص من تلك الآلام بعد جهد طويل، ويشاهد ما تشوق إليه قبل ذلك، واما أن يبقى في آلامه بقاءً سرمدياً، بحسب استعداده لكل واحد من الوجهين لحياته الجسمانية.
واما من تعرف بهذا الموجود الواجب الوجود، قبل أن يفارق البدن، واقبل بكليته عليه والتزم الفكرة في جلاله وحسن بهائه، ولم يعرض عنه حتى وافته منيته، وهذا على حال من الإقبال والمشاهدة بالفعل. فهذا إذا فارق البدن بقي في لذة لا نهاية لها، وغبطة وسرور وفرح دائم، لاتصال مشاهدته لذلك الموجود الواجب الوجود، وسلامة تلك المشاهدة من الكدر والشوائب؛ ويزول عنه ما تقتضيه هذه القوى الجسمانية من الأمور الحسية التي هي - بالإضافة إلى تلك الحال - ألام وشرور وعوائق. فلما تبين له أن كمال ذاته ولذتها إنما هو بمشاهدة ذلك الموجود الواجب الوجود على الدوام، مشاهدة بالفعل أبداً، حتى لا يعرض عنه طرفة عين لكي توافيه منيته، وهو في حال المشاهدة بالفعل، فتتصل لذته دون أن يتخللها ألم. ثم جعل يتفكر كيف يتأتى له دوام هذه المشاهدة بالفعل، حتى لا يقع منه أعراض فكان يلازم الفكرة في ذلك الموجود كل ساعة، فما هو إلا يسنح لبصره محسوس ما من المحسوسات، أو يخرق سمعه صوت بعض الحيوان، أو يتعرضه خيال من الخيالات، أو يناله ألم في أحد اعضائه، أو يصيبه الجوع أو العطش أو البرد أو الحر، أو يحتاج القيام لدفع فضوله؛ فتختل فكرته، ويزول عما كان فيه، ويتعذر عليه الرجوع إلى ما كان عليه من حال المشاهدة، إلا بعد جهد. وكان يخاف أن تفاجأه منيته وهو في حال الأعراض، فيفضي إلى الشقاء الدائم، وألم الحجاب.
فساءه حاله ذلك، وأعياء الدواء. فجعل يتصفح أنواع الحيوانات كلها، وينظر أفعالها وما تسعى فيه، لعله يتفطن في بعضها أنها شعرت بهذا الموجود، وجعلت تسعى نحوه، فيتعلم منها ما يكون في سبب نجاته. فرآها كلها إنما تسعى في تحصيل غذائها، ومقتضى شهواتها من المطعوم والمشروب والمنكوح، والاستظلال والاستدفاء، وتجد في ذلك ليلها ونهارها إلى حين مماتها وانقضاء مدتها. ولم ير شيئاً منها ينحرف عن هذا الرأي، ولا يسعى لغيره في وقت من الأوقات، فبان له بذلك أنها لم تشعر بذلك الموجود ولا اشتاقت إليه، ولا تعرفت إليه بوجه من الوجوه، وأنها كلها صائرة إلى العدم، أو إلى حال شبيه بالعدم. فلما حكم على ذلك بالحيوان، علم أن الحكم على النبات أولى، إذ ليس للنبات من الادراكات إلا بعض ما للحيوان. وإذا كان الأكمل إدراكاً لم يصل إلى هذه المعرفة، فالأنقص إدراكاً أحرى أن لا يصل، مع انه رأى أيضاً أن أفعال النبات كلها لا تتعدى الغذاء والتوليد. ثم انه بعد ذلك نظر إلى الكواكب والأفلاك فرآها كلها منتظمة الحركات، جارية على نسق؛ ورآها شفافة ومضيئة بعيدة عن قبول التغيير والفساد، فحدس حدساً قوياً أن لها ذوات سوى أجسامها، تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود، وأن تلك الذوات العارفة ليست بأجسام، ولا منطبعة في أجسام مثل ذاته، هو، العارفة، وكيف لا يكون لها مثل تلك الذوات البريئة عن الجسمانية، ويكون لمثله على ما به من الضعف وشدة الاحتياج إلى الأمور المحسوسة، وأنه من جملة الأجسام الفاسدة؟ ومع ما به من النقص، فلم يعقه ذلك عن أن تكون ذاته بريئة عن الأجسام لا تفسد، فتبين له بذلك أن الأجسام السماوية أولى بذلك، وعلم أنها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود وتشاهد على الدوام بالفعل، لأن العوائق التي قطعت به هو عن الدوام المشاهدة من العوارض المحسوسة، لا يوجد مثلها للأجسام السماوية.
{ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }
|