الموضوع: حي بن يقظان
عرض مشاركة واحدة
قديم 30/03/2008   #8
شب و شيخ الشباب حلبي
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ حلبي
حلبي is offline
 
نورنا ب:
Jan 2008
المطرح:
هوووون
مشاركات:
1,985

افتراضي


وانتهى إلى هذا النظر على رأس أربعة أسابيع من منشئه، وذلك ثمانية وعشرون عاماً. فعلم إن السماء وما فيها من كواكب الأجسام، لأنها ممتدة في الأقطار الثلاثة: الطول، والعرض، والعمق؛ لا ينفك شيء منها عن هذه الصفة، وكل ما لا ينفك عن هذه الصفة، فهو جسم؛ فهي إذن كلها أجسام. ثم تفكر هل هي ممتدة إلى ما لا نهاية، وذاهبة أبداً في الطول والعرض والعمق إلى ما لا نهاية، أو هي متناهية محدودة بحدود تنقطع عندها، ولا يمكن أن يكون وراءها شيء من الامتداد؟ فتحير بعد ذلك بعض الحيرة. ثم انه بقوة فطرته، وذكاء خاطره، راى أن جسماً لا نهاية له أمر باطل، وشيء لا يمكن، ومعنى لا يعقل، وتقوى هذا الحكم عنده بحجج كثيرة، سنحت له بينه وبين نفسه وذلك أنه قال: أما الجسم السماوي فهو متناه من الجهة التي تليني والناحية التي وقع عليها حسي، فهذا لا شك فيه لأنني أدركه ببصر، وأما الجهة التي تقابل هذه الجهة، وهي التي يداخلني فيها الشك، فاني أيضاً أعلم من المحال أن تمتد إلى غير نهاية، لأني إن تخيلت أن خطين اثنين، يبتدئان من هذه الجهة المتناهية، ويمران في سمك الجسم إلى غير نهاية حسب امتداد الجسم، ثم تخيلت أن أحد هذين الخطين، قطع منه جزء كبير من ناحية طرفه المتناهي، ثم أخذ ما بقي منه شيء واطبق الخط المقطوع منه على الخط الذي لم يقطع منه شيء، وذهب الذهن كذلك معهما إلى الجهة التي يقال إنها غير متناهية، فأما أن نجد خطين أبداً يمتدان إلى غير نهاية ولا ينقص أحدهما عن الأخر، فيكون الذي قطع منه جزء مساوياً للذي لم يقطع منه شيء وهو محال، كما أن الكل مثل الجزء المحال؛ واما أن لا يمتد الناقص معه ابداً، بل ينقطع دون مذهبه ويقف عن الامتدادمعه، فيكون متناهياً، فإذا رد عليه القدر الذي قطع منه أولاً، وقد كان متناهياً، صار كله أيضاً متناهياً، وحينئذ لا يقصر عن الخط الأخر الذي يقطع منه شيء، ولا يفضل عليه فيكون إذن مثله وهو متناه، فذلك أيضاً متناه، فالجسم الذي تفرض فيه هذه الخطوط متناه، وكل جسم يمكن أن تفرض فيه هذه الخطوط، فكل جسم متناه.
فإذا فرضنا أن جسماً غير متناه، فقد فرضنا باطلاً ومحالاً. فلما صح عنده بفطرته الفائقة التي لمثل هذه الجهة، أن جسم السماء متناه، أراد أن يعرف على أي شكل هو، وكيفية انقطاعه بالسطوح التي تحده. فنظر أولاً إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب، فرأها كلها تطلع من جهة المشرق، وتغرب من جهة المغرب، فما كان يمر على سمت رأسه، رأه يقطع دائرة عظمى، وما مال عن سمت رأسه إلى الشمال أو إلى الجنوب، رأه يقطع دائرة أصغر من تلك. وما كان أبعد عن سمت الرأس إلى أحد الجانبين، كانت دائرته أصغر من دائرة ما هو أقرب. حتى كانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب، دائرتين اثنتين: إحداهما حول القطب الجنوبي، وهي مدار سهيل، والاخرى حول القطب الشمالي، وهي المدار الفرقدين. ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه أولاً، كانت هذه الدوائر كلها على سطح آفة. ومتشابهة في الجنوب والشمال وكان القطبان معاً ظاهرين له، وكان يترقب إذا طلع كوكب من الكواكب على دائرة كبيرة، وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة، وكان طلوعهما معاً، فكان يرى غروبهما معاً. واطرد له في ذلك جميع الكواكب وفي جميع الأوقات، فتبين له بذلك أن الفلك على شكل الكرة، وقوى ذلك في اعتقاده، ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواكب إلى المشرق، بعد مغيبها بالمغرب، وما رآه أيضاً من أنها تظهر لبصره على قدر واحد من العظم في حال طلوعها وتوسطها وغروبها، وأنها لو كانت حركتها على غير شكل الكرة لكانت لا محالة في بعض الأوقات، أقرب إلى بصره منها في وقت آخر، ولو كانت كذلك، لكانت مقاديرها واعظامها تختلف عند بصره فيراها في حال القرب أعظم مما يراها في حال البعد، لاختلاف أبعادها عن مركزه حينئذ بخلافها على الأول.
فلما لم يكن شيء من ذلك؛ تحقق عنده كروية الشكل. وما زال يتصفح حركة القمر، فيراها آخذه من المغرب إلى المشرق وحركات الكواكب السيارة كذلك، حتى تبين له قدر كبير من علم الهيئة، وظهر له أن حركتها لا تكون إلا بأفلاك كثيرة، كلها مضمنة في فلك واحد، هو أعلاها. وهو الذي يحرك الكل من المشرق إلى المغرب في اليوم والليلة. وشرح كيفية انتقاله. ومعرفة ذلك يطول؛ وهو مثبت في الكتب، ولا يحتاج منه في غرضنا إلا للقدر الذي أردناه. فلما انتهى إلى هذه المعرفة، ووقف على أن الفلك بجملته وما يحتوي عليه، كشيء واحد متصل بعضه ببعض، وأن جميع الأجسام التي كان ينظر فيها أولاً: كالأرض والماء والهواء والنبات والحيوان وما شاكلها، هي كلها في ضمنه وغير خارجة عنه، وأنه كله أشبه شيء بشخص من أشخاص الحيوان؛ وما فيه من الكواكب المنيرة هي بمنزلة حواس الحيوان؛ وما فيه من ضروب الأفلاك، المتصل بعضها ببعض، هي بمنزلة أعضاء الحيوان؛ وما في داخله من الكون والفساد هي بمنزلة ما في جوف الحيوان من أصناف الفضول والرطوبات، التي كثيراً ما يتكون فيها أيضاً حيوان، كما يتكون في العالم الأكبر. فلما تبين له أنه كله كشخص واحد في الحقيقة، واتحدت عنده أجزاؤه الكثيرة بنوع من النظر الذي اتحدت به عنده الأجسام التي في عالم الكون والفساد، تفكر في العالم بجملته، هل هو شيء حدث بعد إن لم يكن، وخرج إلى الوجود بعد العدم؟ أو هو أمر كان موجوداً فيما سلف، ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه؟ فتشك في ذلك ولم يترجح عنده أحد الحكمين على الآخر. وذلك أنه كان إذا أزمع على اعتقاد القدم، اعترضه عوارض كثيرة، من استحالة وجود ما لا نهاية له، بمثل الذي استحال عنده به وجود جسم لا نهاية وكذلك أيضاً كان يرى أن هذا الوجود لا يخلو من الحوادث، فهو لا يمكن تقدمه عليها، وما لا يمكن أن يتقدم على الحوادث، فهو أيضاً محدث. وإذا أزمع على اعتقاد الحدوث، اعترضته عوارض أخرى، وذلك أنه كان يرى أن معنى حدوثه، بعد أن لم يكن لا يفهم إلا على أن الزمان تقدمه، والزمان من جملة العالم وغير منفك عنه، فإذن لا يفهم تأخر العالم عن الزمان. وكذلك أيضاً كان يقول: إذا كان حادثاً، فلا بد له من محدث؛ وهذا المحدث الذي أحدثه، لم أحدثه الآن ولم يحدثه قبل ذلك، الطارئ طرأ عليه ولا شيء هناك غيره، أم لتغير حدث في ذاته؟ فان كان فما الذي احدث ذلك التغيير؟ وما زال يتفكر في ذلك عدة سنين.

{ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03355 seconds with 10 queries