31/01/2008
|
#4
|
مشرف متقاعد
نورنا ب: |
May 2006 |
مشاركات: |
3,276 |
|
النهايــة
4. في حال إلغاء (الوعي) من شرطي الحقيقة (أي : الحقيقة = الوجود) تصبح هذه الحقيقة باطلة أيضاً فالظواهر رغم وجودها تكاد تكون عدماً في غياب الوعي ، لأن وجود الإنسان كان شرطا قطعيا لإدراك الوجود فالكون لا وجود له معرفيا لولا وجود الإنسان ،.. أي أنه في غياب الوعي الإنساني يظل في كينونته افتراضا غير محقق.
5. الوجود ليس مجموع الظواهر . فهو ليس كماً، بل كيفاً متنوعا قابلاً للتحول . والتنوع في هذا الكيف لا يلغي وحدة الظواهر من حيث كونها تنتسب إلى جذر وجودي واحد .
6. نظرا لأن الوعي مركب عقلي ـ وجداني . فتعامل المجتمعات الإنسانية مع الحقائق مرهون بدوافعها الوجدانية ومصالحها النفسية . ولذلك فارتسامات حقائق الوجود في وعي جماعة البشرية ، تختلف من حيث وظائفها ومدلولاتها بين جماعة بشرية وأخرى باختلاف الفوارق الوجدانية والنفسية التي تحكم شخصية كل "جماعة"
7. تتفاعل ظواهر الوجود في مستوى الوعي الإنساني بتلاحم مدرحي عميق، بحيث يفصح تفاعل الحقائق الحية باستمرار عن ظواهر جديدة تتبدى في آفاق الحياة الإنسانية .
فلسفة التاريخ
يرى سعاده أن المسار التاريخي لأي جماعة بشرية يظل مرهونا بما تؤول اليه عملية تفاعل هذه الجماعة بيئتها . وبالتالي فهو محكوم أيضا بخصوصية كل من قطبي هذا التفاعل . الأرض (البيئة) والإنسان (والوعي) .
ويرى أيضا أن مرحلة بشرية طويلة سبقت فجر الإنسانية أطلق عليها اسم مرحلة الاحتكاك التي اتصفت بطغيان سطوة الطبيعة على الجماعات البشرية التي كانت تجيب على هذا التحدي بما يملكه الإنسان من معارف أولية شديدة البدائية مدفوعة بدواعي سد الحاجة من طعام وكساء ومأوى ووسائل دفاع عن النفس . أما بداية مرحلة التفاعل فكانت ترتبط بقدرة الجماعة على إدراك خصائص وطبائع المواد والظواهر المحيطة بها . وكان ذلك شرطا للانتقال من مرحلة الإنسان جامع الغذاء إلى الإنسان صانع الغذاء .
ويقول سعاده أن :" استعمال النار هي الخطوة الفاصلة التي عينت للإنسان السابق اتجاهه "(14) . وهو يربط بقوة ووضوح بين إيجابية فعل الجماعة البشرية وبين بروز حاجات نفسية شكلت إلى جانب الحاجات المادية جملة الدوافع الرامية إلى الاستفادة مما تقدمه البيئة من إمكانيات للحياة . وبذلك يربط سعاده بين تطور الحاجات النفسية ـ المادية ـ لأي جماعة بشرية وبين تطور إدراكها لإمكانيات محيطها (بيئتها) . ومن جهة أخرى يشير إلى أهمية الاستقرار في صنع مسار التطور فيقول : " اللذة والاطمئنان وتوفير الجهد والتعب هي الضرورات التي يؤدي حدوثها إلى تولد الاحساسات النفسية الفردية والاجتماعية "(15). وكما أن النار قوّت الرابطة الاجتماعية في الجماعات البدائية ممهدة لها بقوة إظهار استعدادها للارتقاء . كذلك كان تحرير العقل مفصلاً أساسياً في نشوء الثقافات العقلية والنفسية ، قاد إلى وضع الجماعات البشرية في المنحى الصحيح للتطور .
وفي جميع الحالات لا يفصل سعاده سياق التفاعل بين الجماعة البشرية والبيئية عن الشروط الموضوعية التي تحكمه، ولا يحتم مسارات قسرية لحركة تطور الجماعة أو ارتقائها، بل يربط هذه الحركة قطعيا بنتائج التفاعل . حيث الأرض هي التي تقدم الإمكانيات والجماعة البشرية هي التي تحول هذه الإمكانيات إلى حتميات . ففي البيئات غير الصالحة للاستقرار (بوادي - غابات استوائية) تكيف الجماعة البشرية دورة حياتها سعيا وراء الكلأ او الصيد (حالة الغابات) مضطرة للانتقال في المحيط لتامين أسباب معاشها في حين تستقر الجماعة البشرية في مدنيات على ضفاف الأنهار وفي السهول الصالحة للزراعة مؤسسة لمجتمع العمران ، وهذا الاختلاف بين نمط الحياة هو سبب لاختلاف بين الحالتين في الوعي أي في العقل والوجدان .
ونظراً للتفاوت والاختلاف بين البيئات الطبيعية على الأرض فإن تفاعل الجماعات البشرية المستقرة على هذه البيئات قاد إلى إنتاج مركبات ثقافية وحضارية متمايزة حكمت خصوصية صيرورتها التاريخية مؤهلاتها الذاتية وإمكانيات البيئات التي تنشأت عليها وطورت حياتها على كامل البيئة ، متحدة في الحياة بقوة الفعل كأمم لكل منها آراؤها وشخصيتها ، ويرى سعاده أن " اكتساب الجماعة شخصيتها التي تكونها من مؤهلاتها وخصائص بيئتها .هاتان الظاهرتان الأساسيتان هما اللتات تميزان الاجتماع البشري تميزا شديداً"( 16) . بقوله أيضا :
"الأرض هي أحد الافتراضات التي لا بد منها لنشوء التاريخ. لكل العوامل الفاصلة في حياة البشر وتطورها هي العوامل النفسية"(17) . ويشير سعاده هنا إلى أهمية بروز الإرادة القومية وتمايز الشخصية القومية للجماعة . وهو بذلك يجزم بأن مصير المجتمعات الإنسانية على بيئاتها الطبيعية محكوم بواقع أنها أمم متمايزة بمكونات ثقافاتها وقيمها ومصالحها وإراداتها القومية .
وهنا يبدو بوضوح أن مبدأ الخصوصية الذي يحكم نشوء الأمم هو القانون الوحيد الذي يمكن على أساسه فهم التباينات الحاصلة في مسارات المجتمعات الإنسانية . إذ لا يمكن أن نتصور تحديدا للمجتمع بما هو ليس فيه أو عليه . فالإنسانية لم تؤلف في الماضي ولم تؤلف حاليا ولن تؤلف مستقبلاً كلاً متجانساً تنتفي فيه التمايزات الحضارية والقومية. ولا أحد يستطيع الإدعاء بأن الجنس الإنساني يشكل في مجموعه جماعة واحدة تتطور دائما وكليا في الاتجاه ذاته وفقا لمسار واحد واتجاه واحد . فالإنسانية (الملأ الإنساني) لا تزال مجرد فكرة عقلية ترمي إلى وضع مدلول صالح للتعبير عن مجموع الجماعات الإنسانية في تعريف مطلق وشديد العمومية .
لقد انطلق سعاده من فهمه لجوهر الاجتماع البشري من نظرة عميقة ، ترى أن الإنسان والمجتمع هما مظهران لجوهر واحد يتحقق بالتفاعل ويتمايز بالنوازع الثقافية والنفسية (روح المجتمع) التي لا تتوقف عن الإلتحام والتفاعل مع البيئة (ارض - أمة) ، محققة صيرورة مدرحية متفاعلة لا تنتهي إلا بانتهاء أحد شرطيها (الأرض) أو (الأمة). وهذا لا يكون إلا بزوالهما معا .
الهوامش
(1) د. يوسف مروة ـ صحيفة المستقبل الصادرة في مونتريال ـ كندا العدد 73 تاريخ 10-6-1993.
(2) المصدر ذاته، ويقول الدكتور مروة أن سعاده انتقد في رسالته الأولى مبدأ "الإثبات" الذي وضعه "كارناب"
وتبناه بعد ذلك الفلاسفة الإنكليز أمثال : "الفرد ايبر وجورج ادوار مور. وبرتراند راسل ، وشارلز برود وسواهم .
ويتابع مروة : "وتعبير النقد الذي وجهه سعاده عام 1993 لمبدأ الإثبات ولمفهوم الاختبار الحسي الذي تضمنه الهيكل
الفكري الرئيسي والإطار الفلسفي العالم لما عرف فيما بعد في أوائل الأربعينات باسم النظرة او الفلسفة المدرحية" .
(3) المصدر ذاته.
(4) الدكتور عادل ضاهر ـ "الإنسان المجتمع ـ وأيضا بحث د. أحمد برقاوي ( فلسفة التاريخ عند سعاده ) ألقي في ندوة "انطون سعاده مفكراً" في عمان أيلول 1997 ونشر في مجلة البناء عدد 894 تاريخ 10/97 .
(5) الدكتور موفق محادين "المدرحية في فكر انطون سعاده" ورقة مقدمة إلى ندوة "انطون سعاده مفكراً"، عمان أيلول 1997.
(6) الدكتور ناصيف نصار ، طريق الاستقلال الفلسفي.
(7) اوغيست كونت ( 1798 ـ 1957 ) هو المؤسس الحقيقي للفلسفة الوضعية ، من أهم كتبه "مذهب في السياسة الوضعية" الصادر عام 1854 ، اشتهر عنه قوله : "الوضعية هي علم اجتماع" .
( 8 ) انطون سعاده ـ المحاضرات العشر ص (107) .
(9) انطون سعاده ـ نشوء الأمم ـ إصدارات دار طلاس ـ دمشق طبعة 1986 ـ ص (25)
(10) المرجع السابق ص (25) (11) المرجع السابق ص ( 72) .
|
|
|