غالب ابو مصلح
غاب الحكيم، غاب الرمز الذي ظلل حركة القوميين العرب، كما ظلل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد ذلك. لم يكن فيلسوفا ومعلما ومنظرا يقضي جل وقته بين الكتب ووراء المكاتب، بعيدا عن حركة الجماهير وهمومها، بل كان مناضلا صلبا وعنيدا يعيش بين جماهير شعبه، يفهم نبضها، يتحسس آلامها ويعبر عن أمانيها، ويقود نضالها.
كان «الحكيم»، كما يعرفه رفاقه في حركة القوميين العرب، وكما في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ما بعد، القائد غير المنازع في صفوف الحركة كما في صفوف الجبهة، حتى هزيمة حزيران، حيث حلت الحركة وانشقت الجبهة. وبقي حتى تخليه عن مسؤولياته في الجبهة، القائد والرمز، ليس بين أعضاء الجبهة الشعبية فقط، بل بالنسبة لقطاعات واسعة من الجماهير الفلسطينية التي وجدت فيه القائد الصلب الخلوق العنيد المتشبث بثوابت النضال الفلسطيني وبكامل حقوق الشعب الفلسطيني، والمعارض والناقد الشرس للقيادات والتيارات الفلسطينية التي اشتقت طريق المناورة والمساومة بعد أن أتعبها النضال وجذبتها السلطة ولو في ظل الاحتلال.
تخرج من الجامعة الأميركية طبيبا في وقت قل فيه الأطباء. ولم يمارس مهنة الطب التي أحب وظل يحن اليها طيلة حياته، إلا لفترة قصيرة، هو ورفيقه الدكتور وديع حداد، في مخيمات اللاجئين في الأردن، وهما يعيشان حياة اللاجئين، لرفع بعض آلام هذه الجماهير المشردة والمتروكة لآلامها. ثم امتص العمل الحزبي الثوري كل وقته وطاقاته، فعاش حياة الجماهير الفلسطينية والعربية، حياة التقشف والنضال.
كان الهم الفلسطيني يستولي على فكره ويأخذ كامل نضاله. فقد بنى، هو ورفاقه، حركة القوميين العرب ردا على سقوط فلسطين بأيدي الصهاينة. فالحركة كانت بنت النكبة، وطريق العمل للرد عليها. كانت نشرة «الثأر» تعبر عن صدمة سقوط فلسطين. كان شعار الحركة ونداؤها: «وحدة، تحرر، ثأر». كان شعار الثأر الذي يحمل شحنة عاطفية، يلاقي آلام التهجير والنزوح، كما يلاقي غضب الشباب العربي الذي حمّل الأنظمة والقيادات العربية مسؤولية الهزيمة أمام العصابات الصهيونية مثل «الهاغاناه» والـ«شتيرن» والـ«الأرغون».
قال جورج حبش إن تحرير فلسطين يمر عبر جميع العواصم العربية المحيطة بها. وبالرغم من التخلي عن هذا الشعار، فما زال الشعار صحيحا على الصعيد الاستراتيجي، وخاصة بعد أن اتضح أن الكيان الصهيوني هو قاعدة امبريالية في خدمة التوسع والهيمنة، ليس بالنسبة للمشرق العربي فقط، بل على صعيد العالمين العربي والاسلامي.
ودفعت الأحداث العربية، وخاصة انفصال القطر السوري وانتصار ثورة الجزائر، الى ذبول آمال تحرير فلسطين عبر النضال الوحدوي التحريري، فاتجه جورج حبش ورفاقه الى تبني نظرية الكفاح الفلسطيني المسلح كطريق للتحرير كما فعل الجزائريون. وتم إنشاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بداية الستينيات، وبدأت العمليات العسكرية عبر الحدود اللبنانية خاصة في تلك الفترة.
وأعطت هزيمة 5 حزيران دفعا قويا للكفاح الفلسطيني المسلح، وكان للجبهة الشعبية، بقيادة الحكيم، دور أساسي في هذا الكفاح بين فلسطينيي الشتات والداخل، حتى غدا اسم جورج حبش في داخل الأرض المحتلة وخارجها رمزا للصلابة والالتزام الأخلاقي والوطني الذي لا يساوم ولا يلين.
لم تفت الهزائم والانتكاسات من صلابة وتصميم هذا المناضل العنيد. فبعد مجازر الأردن انتقل الى لبنان وقاتل في حصار بيروت، ورفض الاستسلام أو الخروج منها حتى أقنعه من يملك الإمكانات بأن ذخائر المناضلين قد نضبت، وكان ذلك غير صحيح.
ثم دعم من دمشق النضال المسلح في الجبل في وجه العدو الاسرائيلي اللبناني المركب بكل إمكاناته المادية والبشرية. وقيادات الجبل وغير الجبل تعرف ما قدمته الجبهة الشعبية وقائدها في معركة تحرير لبنان من الاحتلال وإسقاط اتفاق 17 أيار.
لم يقعد المرض جورج حبش عن النضال. بل ان هذا المناضل الطاهر العنيد استطاع أن يتغلب الى حد بعيد على المرض الذي كاد أن يقعده، ليواصل مسيرته النضالية الى حين. وتنحى عن قيادة الجبهة في سنة .2000 ولكنه بقي المرشد الفكري والأخلاقي والروحي لمناضلي الجبهة بشكل خاص، وسيستمر تراثه في إرشاد رفاقه ومحبيه بعد غيابه.