مجلة الإيكونومست 2 سبتمبر
The Economist
يبدو أن أرواح الكتاب العظماء تظل حاضرة بعد الموت في المدن التي عاشوا بها.. فطيفا جويس وكافكا مازالا يخيمان علي شوارع دبلن وبراغ. وحضور بورجيسي الساحر مازال يومض في مقاهي بيونيس أيريس من خلال دخان السجائر وعرق التانجو. أما في القاهرة القديمة فإن روح نجيب محفوظ هي التي تحلق في المكان.
ليس فقط لكونه أحد الوجوه الأدبية الشامخة أو لأنه الرجل الذي أرخ لقرن صاخب عاشته مصر بأسلوب يدعو للابتسام. وليس لأنه أسكن في أعماله 53 رواية، وأكثر من عشرين سيناريو واثنتي عشرة مجموعة قصصية ومقالات وأحلام ـ شخصيات قوية لا تنسي عاشت كلها بالمدينة. فمحفوظ نفسه كان يجسد الروح التي تجعل من كل ما هو جارح للمشاعر وخشن وصاخب في هذا التكدس البشري الموجود بالقاهرة أمرًا محتملاً.
لقد كان نموذجًا مثاليًا للرجل النبيل (الجنتلمان): يفضل البقاء في الظل ويتجنب المديح والاهتمام، متسامحا ومستمعا جيدا للآخرين. في السبعينيات من عمره كان يجول عبر المدينة وحيدًا في نزهات صباحية مبكرة تنتهي في واحد من المقاهي العديدة التي كان يقابل فيها بالترحاب كأنه الابن العائد إلي الحي.. في التسعينيات من العمر كان نادرًا ما يتغيب عن اللقاء الأسبوعي مع مجموعة من المقربين إليه في أحد الأماكن العامة التي تطل علي النيل هناك كانت تدور أحاديث لا تنتهي عن الهموم إلي جانب الأحاديث السياسية والنكات التي تزود الحياة المصرية بالبهارات.
أحيانًا كان يبدو صريحًا وأحيانًا كان يعارض بشدة الاتجاهات الثقافية السائدة في بلده. فكان يدين القمع الذي تمارسه حكومة جمال عبدالناصر الشعبية الثورية. ويمتدح خلفه أنور السادات الذي سعي للسلام مع إسرائيل، ومرارًا كان يتحدي المعتقدات الموروثة بما في ذلك المتعلقة بالإسلام.
سخريته كانت أحيانًا حادة وتهكمه ونقده الاجتماعي لاذعًا: سي السيد الأب المتسلط في «الثلاثية» الشهيرة تحول نموذجًا عربيًا يضرب به المثل علي الشعور الفظ بالتفوق الذكوري.
عالم الحارات
محفوظ كان علي معرفة كبيرة بموضوعاته وكأنه ابن بلد حقيقي، ابن التراب القاهري. كان الأصغر بين سبعة إخوة وقد ولد عام 1191 بحي الجمالية، وهو حي يعود تاريخه إلي ألف عام مضت، يتكون من أزقة ملتوية ومتراصة ومكتظة تطل عليها شرفات تحجب عنها ضوء النهار. مع مرور الوقت، حين بلغ السادسة سارت أعمال والده، وكان تاجرًا، نحو الأفضل فتمكن من اللحاق بأبناء الطبقة المتوسطة الذين فروا إلي المناطق الأكثر حداثة والأكثر تعرضًا للتأثيرات الخارجية ولكن محفوظ لم يفقد قط حبه للمدينة القديمة. العديد من أعماله الروائية القوية تدور أحداثها هناك وتستقي أسماءها من أحيائها مثل زقاق المدق والسكرية في أعمال عدة أيضًا أصبحت الحارة المتواضعة بالمدينة القديمة حيث كانت تدور الصراعات بين الفتوات وحيث كان يتولد الشعور بالانتماء، أصبحت تعبر مجازًا عن مصر أو عن العالم نفسه.
كان والده يأمل في أن يقوم ابنه بدراسة الطب إلا أن محفوظ اختار بدلاً من ذلك دراسة الفلسفة. وقد انجذب محفوظ إلي الأدب الأوروبي كما انجذب إلي علم المصريات الذي تحول وقتها إلي «موضة» بعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون سليمة تمامًا عام 2291 فبدأ بالكتابة ولكن بصورة متقطعة.. في منتصف الأربعينيات قام بنشر ثلاث روايات تاريخية تدور في مصر القديمة. وكان في مخططه أن يكتب سلسلة طويلة من تلك الروايات.
ولكن الأحداث السياسية والأحداث الجارية غيرت هذا المخطط فالحرب العالمية الثانية ونتائجها أحدثت مجادلات ومناظرات عاصفة بين الطبقات الاجتماعية التي كانت تشهد تحولاً في مصر. في نفس الوقت، كانت قد نمت صداقة وثيقة بين محفوظ وصلاح أبوسيف وكان أحد المخرجين المصريين اللامعين.. هذان الأمران حولا اهتمام محفوظ وموهبته إلي دراما الحياة الواقعية في شوارع القاهرة.
ما بين منتصف الأربعينيات ومنتصف الستينيات كان إنتاجه قد بلغ اثنتي عشرة رواية واقعية تشكل قوامة أعماله. في هذه الأعمال كان نادرًا ما يتناول مباشرة الأحداث الكبري في هذا الوقت ولكن مثله مثل الروائيين الأوروبيين الذين كان يستمتع بقراءتهم كان يتناول الاتجاهات التاريخية من خلال تجارب المواطن العادي.
من خلال هؤلاء الأشخاص قام بتصوير الصدام بين التقليد والحداثة وعزلة الفرد والصراع من أجل الكرامة الشخصية ما بين الفقر العام وقمع الدولة.
والنتيجة كانت مجموعة من الأعمال التي يمكن مقارنتها بأعمال بلزاك وديكنز.. ولكن محفوظ زاد عليهما أنه قام بتعريف قرائه علي طريقة جديدة للنظر إلي الأمور. لقد قام بإثراء الأدب العربي الذي إن كان غنيًا ربما بإنتاجه الشعري الذي لا مثيل له إلا أنه كان لايزال يجهل تقريبًا عالم الخيال الروائي المتكامل.
كانت الكتابة مبعث سرور له.. الكتابة كل صباح ودائمًا بخط اليد وليس بواسطة الآلة الكاتبة وهذا ما جعل من أسوأ دراما تعرض لها في حياته الخاصة أمرًا شديد القسوة بالنسبة إليه. ففي الثالثة والثمانين من عمره قام رجل متطرف دينيًا بطعنه بسكين في رقبته. ويبدو أن الرجل قد قام بهذا العمل متأثرًا باعتراض ديني علي إحدي الشخصيات الرمزية التي قدمها محفوظ في إحدي رواياته. ولكنه أخفق في مهمته، إلا أن تلفًا في العصب دفع محفوظ للتوقف عن الكتابة لمدة خمسة أعوام.
ربما كان بإمكانه هو نفسه أن يُصور في إحدي حبكاته الدرامية حدث عنف فجائي مماثل، ولكنه لم يكن ليجعل الدين سببًا له أبدًا. فعند قبوله لجائزة نوبل للأدب عام 8891 قدم نفسه علي أنه يشعر بالسعادة والامتنان لكونه كان متلقيًا للتقاليد الثقافية المصرية والإسلامية والغربية.
والأمر الذي جعل من الإسلام مثالاً به كما قال هو ذلك القرار الذي اتخذه أحد الحكام المسلمين الأوائل ويقضي بافتداء سجناء مسيحيين بأعمال خاصة بالفلسفة والطب والرياضيات اليونانية.
لقد كان هذا الفضول العلمي وهذا الكرم النفسي والروحي هو ما حلم محفوظ بأن يسود في مدينته.