إننا لن نستطيع أن نغفل مع ذلك القول إن الملاحظات التي سوف يجدها القارئ حول الروايات الثماني التي اخترناها محورا للدراسة هنا(1)، سوف تظل إلي حد بعيد مجالا لإعادة النظرة الذاتية البحتة أو في إطار دراسة تاريخ الروايات الأخري لذلك الكاتب (2).
عند قراءة وإنتاج نجيب محفوظ لا يستطيع المرء أن يفلت من إحساس شعوري عارم بوجود وحدة تتخلل ثنايا المنظور التاريخي لتطور فن الرواية عند نجيب محفوظ طوال فترة نتاجه (3)، فحتي 1946 كان نجيب محفوظ يكتب المقالات والقصص (4) والروايات التاريخية(5) وكانت خان الخليلي هي بداية الإنتاج الكبير أعني بداية الإنتاج الذي سوف يجعل من نجيب محفوظ بدءا من هذه اللحظة روائيا كبيرا ربما يحمل بعض ملامح القصور الفني(6) ولكن كل الخواص التي سوف تبرز في الأعمال التالية له كانت قد قدمت هذا العمل وجاءت الرواية التالية «زقاق المدق» لكي تؤكد هذه الخواص بصفة قاطعة (7).
وإذا لاحظنا من جانب آخر أن نجيب محفوظ لم يطبع أية رواية خلال السنوات 1950 ـ 1955 و1968 ـ 1961، فإننا نري أن سنوات الخلق الأدبي لديه حتي 1963 هي نحو سبع سنوات، وهي بدورها مجزأة إلي ثلاث مجموعات: 1946 ـ 1949، 1956ـ1957 ،1962ـ1963، وتسجل السنتان الأخيرتان تصاعدا في كثافة الخلق الأدبي لديه ( .. إن هذا التجميع الزمني لإنتاج نجيب محفوظ هو دون شك أقوي دليل علي وحدته وسنوات الثلاثية تشكل في الواقع مشهد الفاصل بين عصرين روائيين منفصلين ومختلفي الأبعاد لديه، وقد يقال إنه فاصل وقاطع خاصة علي مستوي فكرة الزمن الروائي (9)، وربما إذا خرجنا عن إطار بحثنا علي مستوي اللغة والأسلوب (10)، ولكنني لست متفقا تماما مع ذلك، فالأمر في تقديري يتعلق بفارق يظل سطحيا، رغم كل شيء ومن ثم، فإن اختلاف نوع الروايات من حيث الطول لا ينبغي أن يوضع موضع التساؤل، عناصر الاستمرار العميقة التي تهيمن علي المعالجة الفنية في كل الإنتاج حتي في إطار فكرة الزمن الروائي كما سنري.
بقي أن نقول إن إنتاج نجيب محفوظ يكتسب قوة أصالته بالدرجة الأولي من «الإطار الروائي» ذلك الإطار الذي يمثله حي سيدنا الحسين أو علي وجه التحديد تلك المنطقة التي تقع في ظلال سيدنا الحسين داخل متاهات الأزقة مثل خان الخليلي وزقاق المدق، وما يتفجر منها أحيانا من شوارع الحي الرئيسية مثل السكة الجديدة والصنادقية ورحيل بعض الشخصيات إلي أحياء أخري مع أنها مجاورة، سرعان ما يأخذ من الناحية الجغرافية والشعورية طابع الاغتراب، الذي نادرا ما تقطعه فرص زيارة الحي.
إن القاهرة هذه المدينة الكبيرة، تبدو ـ عند نجيب محفوظ ـ من نظرة طائر مقسمة إلي عدد من المناطق يأخذ كل منها طابعا محليا دقيقا يتميز بمذاق خاص فإلي جانب سيدنا الحسين توجد أحياء أخري يتمتع كل منها أيضا بحياته الخاصة مثل شبرا في «بداية ونهاية» والدقي في «السمان والخريف»، وأحياء أخري غيرها تسهم كل منها بنصيب في صورة القاهرة المتعددة الأوجه (11).
إن وراء المشهد الثابت للضاحية تكمن طية تالية من طواياها بعيدا وراء محدوديتها النظرية، ويكتشف المرء داخل هذه الطية طوايا أخري تخبئ داخلها ألوانا من الحياة المكثفة ويظهر هذا اللون أو ذاك علي نحو خاص حول شخصية من الشخصيات التي تظل هي محوره، تلك الشخصيات التي تتسم بقدر كبير من الثبات لا تظهر داخل الإطار الروائي إلا هنا مثل شخصية «المعلم» في مقهاه، «التاجر» في محله، و«المتسول» في ركنه من الطريق.
وهكذا فإن مظاهر الحياة التي تتقارب من أرجاء القاهرة الشديدة الاتساع متجهة إلي ضاحية خاصة تتوزع في ظل لون من ألوان الحيوات، وما يتولد عنه من مجالات ثانوية، فالثلاثية تقدم نماذج متعددة علي المهارة الفنية الخالصة مثل المشربية التي ترقب الأعين الساخرة للفتيات الجالسات بالمنزل من خلالها المارة، أو ناصية الشارع حيث تنطلق أحلام الفتي، وهو عائد إلي منزله وحيث يلقي الجنود الإنجليز القبض علي الصبي الصغير في ذلك المكان رمزا لكون نهاية الشارع هي نهاية الهدوء والأمان اللذين تتمتع بهما الجنة المحوطة بالأسوار.
إن «الجنة» الوحيدة والحقيقية والمركز العصبي للرواية هو «المنزل» الذي يعطيه الوسط العائلي نوعا من الاستقرار بالقياس إلي كل شيء آخر، وبين كل الشخصيات التي تنجذب حولها أحداث الرواية فإن شخصية «الأم» هي أكثرها ثباتا (12) ومع ذلك فإنه هنا وحول الحجرة الرئيسية التي تلتقي فيها الأسرة في أوقات مختلفة من اليوم تتم الحركة المكملة للتوزيع، والانتشار حول حجرة الأب أولا في الثلاثية، حيث يتم حسم أخطر القرارات، ولكن هناك كذلك حركة حول «الردهة» أو حول السلم (13)، وفي النهاية فوق الأسطح، حيث تتبادل إلي جانب حظائر الدواجن كلمات الحب وإشاراته.
في الوقت الذي تتأكد فيه أمامنا هذه المحدودية لعالم الرواية المكاني، كنا نتوقع - من خلال اتباع التكنيك التعويضي الشائع - أن تكون هناك حيوية وغزارة في جانب الوصف (14)، ومع ذلك فنحن نفتقد أيضا هذه الغزارة، فالسمة البارزة «للوسط الروائي» عند نجيب محفوظ تكمن في اتزانه إن لم نقل في تواضعه، فالمؤلف لا ينتمي إلي نمط «بلزاك» وعينه لا تتريث طويلا أمام مبني أو معلم لكي تكتشف فيه بعض أسرار محتواه الباطن أو شكله الظاهر، ولكن يبدو عنده الأمر علي عكس ذلك، فالمدن والمنازل والأشياء يمكن أن تتلخص سماتها في بعض خصائص رئيسية، إنها تظهر في العمل دون شك، ولكنها مثارة أكثر منها موصوفة.
ولنأخذ علي سبيل المثال «ضجيج المدينة»، لقد عشت أربعة أشهر متواصلة في أحد أحياء القاهرة الشعبية بالقرب من سيدنا الحسين، في مكان يشد الأذن أكثر من العين، أنا أعلم الثراء الخارق المتنوع لأصوات لياليها وأيامها، ولكنك لا تجد عند نجيب محفوظ أي تصور مجسد لهذه الحياة ولا لرنينها البسيط، وقد يرد تصوير هذه الأشياء في مصادفة أحداث الرواية، ولكن لا يوجد هنا علي التأكيد مثل ما يوجد عند «بروست» من رسم سيمفونية «لضجيج باريس» (15).
ولسوف نري عندما ندقق النظر في مجمل الأمور وخاصة في مستوي المسكن المنزلي سببا يكمن وراء تلك الظاهرة ذلك أن كل الأشياء متواضعة شأنها شأن الناس في عالم الرواية، حيث تتردد الكلمات النمطية نفسها التي تصف بعض المقاعد والحصر أو الصناديق التي تكفي لكي تغطي الديكور النمطي لذلك اللون من الحياة المعوزة، لكن يوجد هنا ما هو أكثر من مجرد الإرادة البسيطة التي تشغلها الملاءمة مع الحقيقة. يوجد رفض ملح للتلاؤم الديكوري، ففي «اللص والكلاب» علي سبيل المثال نلتقي بالتتبع النسقي ولا تكاد الخصائص المحلية ترد إلا علي نحو شديد الاختصار وكأنها خصائص ترسم القصص الهيكلي للعمل، ويمكن أن تقارن هذه الخصائص في إطار العمل الروائي بالتوضيحات الطبوغرافية التي تحدد معالم الطريق منحدرة في شكل قوس من لافتات رخامية تحذر المشاهدين من الاصطدام بخطر الأشياء، ونلحط حتي دون الدخول في منهج العمل الفني في «اللص والكلاب» أن هنالك رفضا للاعتراف بوجود لون من الجمال في الملامح الديكورية القبيحة المتناسقة، وهو موقف مضاد بداهة لموقف الزائر الأجنبي الذي لديه الاستعداد والجاذبية في أرض غريبة عليه، أن يجد الروعة في كل الأشياء حتي في البؤس ذاته
شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
|