(6)
لا نجاوز الصواب إذا قلنا إن أعمال محفوظ الإبداعية تمثل لوحة حية لمصر خلال القرن العشرين، وفي الوقت نفسه تمثل خريطة جغرافية وتاريخية لها، لكنها الخريطة التي لا تعرف التوقف أو التجمد، بل هي متنامية مع حركة التاريخ وامتداد الجغرافيا، ومن يقرأ ثلاثيته الخالدة يستوثق من هذه الحقيقة الفريدة، فقد رصدت تحولات أجيال ثلاثة في أسرة واحدة، بدءا من سنة 1919، ومن يتابع (زقاق المدق) يلحظ تحولات الأزمنة ومصائر الشخوص، ثم تأتي (الكرنك) سنة 1974 لترصد سلبيات المرحلة الناصرية، أما تاريخ السلطة، فقد سيطر في (الحرافيش) سنة 1977، وفي (يوم مقتل الزعيم) سنة 1985 تم رصد المرحلة الساداتية، و سجلت (أهل القمة) و(الحب فوق هضبة الأهرام) مرحلة الانفتاح بكل سلبياتها.
إن هذه اللوحة الحية التي يمتزج فيها التاريخ بالجغرافيا بالشخوص شكلت كما هائلا من التوافقات والتصادمات، امتدت خطوطها لتلتحم بالفلسفة والاجتماع وعلم النفس، من ثم كان من العسير حصر أعمال محفوظ في مجموعة من الأطر المحفوظة، بل يمكن القول إن كل عمل من أعماله كان يستدعي الإطار الذي يلائمه، ويحتكم إلي الإجراءات التي تفرضها خصوصيته، ومن ثم يمكن تلقيه بوصفه نصا (حمال أوجه) يقوم متلقيه بإعادة إنتاجه علي النحو الذي استقبله في أفقه، فـ(حكايات حارتنا) يمكن تلقيها بوصفها نصا روائيا واحدا، وبوصفها مجموعة قصصية متعددة الركائز والأركان، ويمكن تلقيها بوصفها نوعا من السيرة الذاتية نتيجة لسيطرة ضمير المتكلم عليها، و(الكرنك) يمكن تلقيها بوصفها نصا روائيا، ويمكن استقبالها في أفق مسرحي نتيجة سيطرة الحوار علي متنها، واستحواذه علي قطاع كبير منها إذ تبلغ سطور هذا النص ألفين وثمانية وستين سطرا، يستحوذ الحوار علي ألف وواحد وسبعين سطرا، وفي إطار التلقي يمكن استقبال النص في أفق السيرة ـ أيضا ـ حيث بلغت ضمائر الذات المتكلمة خمسائة وسبعة وسبعين ضميرا، بمعدل ضمير لكل سطرين تقريبا.
وهذا التلقي الاحتمالي يصلح لكثير من أعمال نجيب محفوظ لأنها ـ أحيانا ـ تعمد إلي المعاينة المباشرة، وأحيانا ـ تقود المعاينة إلي تجريدات فلسفية كما في (الطريق)، وكثير من الأعمال يمكن اعتبارها نوعا من (الكناية) حيث تقول شيئا علي السطح، وتشير إلي غير المقول في العمق مثل (الشحاذ) و(اللص والكلاب) و(حضرة المحترم)، أي أن قراءة محفوظ تحتاج إلي قدر من اليقظة والتنبه، فكل بناء صياغي ـ عنده ـ له أهدافه المحددة، وكل بناء نصي له فضاؤه الاحتمالي الفسيح، وهو فضاء يحوج المتلقي إلي استحضار المعادل الموضوعي حينا، والفلسفي حينا آخر.
إن هذه المسيرة الأسطورية لمحفوظ تفسح له مكانة عظيمة في مسيرة الإبداع الإنساني العالمي، وهذه المكانة قد احتوته سواء فاز بجائزة نوبل أو لم يفز بها، فمكانته تضعه في مصاف الرواد العظام في لغته، وتضعه في مصاف المبدعين العظام في اللغة العالمية، إذ إن بداية مشروعه الروائي في (التاريخية الرومانسية) يوازي المشروع الروائي لـ(والتر سكوت) رائد التاريخية الإنجليزية، وتوجهات محفوظ إلي أعماق المجتمع وتحولاته، تتصل بتوجهات (بلزاك)، وغوصه في النفس البشرية يقربه من (ديستويفسكي)، ورهافته الشاعرية تضعه في أفق (تشيكوف)، ومقاربته عالم الميتافيزيقا والموقف الوجودي يوازيه مع (ألبير كامو).
معني هذا أننا في مواجهة عبقرية إبداعية متعددة المداخل، متعددة الفضاءات، وقمة عبقرياتها في أنها لم تكن ترغم نصها علي تقبل إجراءات فنية معينة، بل إنها تسمح لكل نص أن يستدعي أسلوبه، ونسقه الفني، ومن يع قراءة أعماله ذات الطابع النفسي مثل (همس الجنون) و(السراب) يستوثق من هذه الحقيقة الفنية، وهي حقيقة لا يصلها إلا الأفذاذ الذين تتعدد مواهبهم، وتتكاثر قدراتهم، حيث تدخل نصوصهم في منطقة (تعدد الخواص).
عالميته
إن أسطورة محفوظ قادها الهم الخاص إلي الهم العام، وقادها الهم الوطني إلي الهم القومي، وقادها الهمان إلي الهم العالمي، فهو أديب كوني بكل ما تحمله الكلمة من معان، وبرغم هذه المكانة الكونية، فإن أهم سماته هي (التواضع)، وأولي سمات هذا التواضع هو الاعتراف بأصحاب الفضل عليه، فكثيرا ما كان يتحدث عن (طه حسين)، ثم يقول: إن مقالته عن رواية (بين القصرين) قد بعثت في نفسه سعادة وبهجة أكثر من سعادته بجائزة الدولة التقديرية، وكثيرا ما كان يردد أن العقاد هو أول من تنبأ له بجائزة نوبل.
وبرغم أن تأثير إبداعات محفوظ هي أكثر التأثيرات حضورا في إبداع الأجيال التالية له، برغم ذلك لم يحاول ـ يوما ـ أن يحجب غيره من المبدعين، وعندما يتردد عنده هذا الكلام، يبدي عجبه لأن هذا يعني أن الأجيال اللاحقة لا تملك قدرا مناسبا من الثقة في النفس، إذ لا يمكن لأديب مهما ارتفعت قامته أن يحجب سواه، أو أن يغلق الطريق أمام الآتين بعده.
ـ7ـ
ويبدو من متممات هذه الأسطورة الإبداعية، عروبته المتجذرة في ذاته، وسكناه في اللغة العربية سكني العاشق المتوحد بمعشوقه، وربما لهذا كان علي يقين ثابت من المقولة التراثية (الشعر ديوان العرب)، وهذا اليقين جعله يتحفظ علي بعض المقولات الطارئة: (الرواية ديوان العرب)، (المسلسل التليفزيوني ديوان العرب)، ولا شك ان إيثار المقولة الأولي مؤشر علي وعي محفوظ بالحقيقة الجوهرية للإبداع ـ علي وجه العموم، فالشعر فن اللغة بكل جمالياتها، واللغة فيه أداة وغاية معا، أما الرواية فإنها تستخدم اللغة بوصفها أداة، ثم تقدم إضافات وهوامش علي هذه الأداة.
ونعتقد أن عشقه للغة وسكناه في دروبها هو الذي باعد بينه وبين كتابة (الحوار) للسينما، لعدم قدرته علي التعامل بالعامية تعاملا فنيا، وذلك برغم أنه كتب ما يقرب من مائة (سيناريو) لأفلام سينمائية أولها: (عنتر وعبلة)، وأكثر من ثلاثين سهرة تليفزيونية، واثني عشر مسلسلا تليفزيونيا، لكنه كان حريصا علي أن يردد: (إن أدبي في كتبي، وليس في السينما أو التليفزيون).
وعظمة محفوظ الإبداعية تتمثل في تجدده وتناميه، حتي إننا ونحن نتابع مقولات الحداثة وإجراءاتها النقدية، سوف نجد كثيرا من وثائقها التطبيقية وفيرة في نصوصه، سوي مقولة واحدة هي مقولة: (موت المؤلف)، فهذه العظمة حاضرة في إبداعها حضورا مبهرا بذاكرتها اليقظة التي تحارب النسيان أو التناسي، ووعيها المتفتح الذي يحارب الانغلاق والتجمد، ولعل هذا بعض ما أسست عليه جائزة نوبل عندما قالت:
«نجيب محفوظ يكتب منذ 50 عاما، وهو الآن في السابعة والسبعين.. يواصل الإنتاج وأعظم إنجازاته في الرواية والقصة القصيرة، لقد أعطي إنتاجه دفعة كبري للقصة كمذهب يتخذ من الحياة اليومية مادة له، كما أنه أسهم في تطوير اللغة العربية كلغة أدبية، ولكن ما حققه نجيب محفوظ أعظم من ذلك، فأعماله تخاطب البشرية جمعاء».
شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
|