(5)
لا شك أن المحاور السابقة كانت تتلاحق لتبلغ هدفها الرئيسي عن (أسطورة نجيب محفوظ) الإبداعية، وهي أسطورية لا تنحصر في إنتاجه من حيث الكيف، فهذا ما يكاد يكون حقيقة وجود، وإنما الأسطورية المدهشة كانت ـ أيضا ـ من حيث الكم، فقد أبدع محفوظ ما يربو علي خمسين رواية، وثلاثمائة وخمسين قصة، وخمس مسرحيات من ذوات الفصل الواحد، فضلا عن مقالاته التي بلغت سبعة وأربعين مقالا.
أي أن هناك توازيا بين الإنتاج الكمي والكيفي، وكلاهما يتوازي مع الامتداد الزمني، ومن ثم كانت تأثيرات هذا الإنتاج ممتدة في الزمان والمكان والشخوص داخليا وخارجيا، وهذه التأثيرات تستمد فاعليتها من عظمة المادة الروائية وقدرتها علي الاقتحام الفني والجمالي للمناطق الممنوعة أو القابلة للتفجر، وقدرتها علي تحريك الراكد وهز الثوابت، وقدرتها علي إنطاق المسكوت عنه، وفتح النوافذ لانطلاق المكبوت والمقموع السياسي والاجتماعي والنفسي، وكل ذلك أتاح للمجتمع المصري أن يتأمل نفسه في حالة من الانكشاف والتعرية، حتي ولو جاء الانكشاف خلال الأقنعة والرموز، لأنها أقنعة شفافة تسمح لمن يواجهها باختراقها إلي ما وراءها، وهي رموز فصيحة، تكاد من الإفصاح تتكلم بما تهدف إليه علي المستوي الفردي أو الجماعي.
لقد كان إبداع محفوظ كتابا مفتوحا للواقع المصري بكل تحولاته في القرن العشرين، لكنه كتاب يستوعب قضايا الإنسان علي وجه الإطلاق، قضايا الظلم والعدل، القيود والحرية، والتخلف والتقدم، ويمكن القول علي نحو من الأنحاء إنه اخترق المحرمات الثلاث: الدين والجنس والسياسة، لكنه اختراق محسوب بدقة ومهارة فنية لا تجرح ولا تعتدي.
مشروعه الروائي
لقد كانت بداية الأسطورة المحفوظية متلبسة ببداية مشروعه الروائي الذي تمثلت بشائره في الحس التاريخي الذي لا يعرف إلا منطقا واحدا هو منطق التقدم للأمام، ومنطقه هذا يعني أن التغير ضرورة حتمية، وأن أي توقف، هو توقف مؤقت يواصل بعدها التاريخ حتميته الحاكمة، وخاصة إذا كان تاريخا ممتلئا بالعظمة والعراقة كالتاريخ المصري الذي استلهمه محفوظ في إطار من الرومانسية، حيث قدم رواياته: (عبث الأقدار) سنة 1939 و(رادوبيس) سنة 1939 و(كفاح طيبة) 1943.
وبرغم انتماء هذه الأعمال الإبداعية إلي التاريخ الفرعوني، فإنها تكاد تلتحم بالواقع المعاصر خلال هذا القناع التاريخي، وكأن محفوظا كان يستجير من الحاضر بالماضي، فمجموع شخوص هذه الأعمال هي نوع من الإسقاط الفني الذي يحميه من ظلم الاحتلال وفساد السلطة آنذاك، ومن الواضح أن المرحلة التاريخية برغم محاولات ربطها بالحاضر، وبرغم تحولها إلي نوع من الإسقاط، كانت ـ في حقيقتهاـ ابتعادا عن مباشرة الواقع المعيش، ومن ثم احتاج اكتمال المشروع الروائي تعديل المسار لمقاربة الواقع من ناحية، ووضعه تحت طائلة المساءلة من ناحية أخري.
مراحل مشروعه
والنظرة الكلية لمشروع نجيب محفوظ الروائي، تؤكد أن هذه المشروع قد مر بثلاث مراحل متشابكة تسلم فيه كل مرحلة لما يليها، أو تتداخل معها. وقد أشرنا إلي المرحلة الأولي، مرحلة السرد الرومانسي المشبع بعناصر التاريخ المصري القديم، والمغلف بخيوط من الحس الوطني، وخطوط من المغامرة العاطفية.
أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة الواقعية التي بدأت تجلياتها بروايته (القاهرة الجديدة) سنة 1945، وقد صدرت إحدي طبعاتها تحت اسم (فضيحة في القاهرة) وأخذت في السينما اسما ثالثا (القاهرة 30).
ولا شك أن دخول هذه المرحلة كان إشارة بالغة علي النضج الفني للمشروع وصاحبه، لأن محفوظا لم يكن ـ في هذه المرحلة ـ مجرد أداة لتسجيل الواقع، بل كان بمثابة (المشاهد) بالمعني الصوفي، لأن هذا المشاهد هو الذي يدرك ـ في مشاهداته ـ المادة الأولي (الخام) لمكونات هذا الواقع، كما يدرك تحولاتها الداخلية والخارجية، الظاهرة والخفية، ومن ثم كان صاحب حق شرعي في إبداء الرأي، وتحديد وجهة النظر خلال النص، سواء تم ذلك بوصفه شخصية مشاركة من الداخل، أو مطلة من الخارج، وسواء تم ذلك علي نحو مباشر، أو عن طريق الأقنعة والإسقاط، أي أن السرد لم يكن مجرد رصد وصفي، وإنما هو تعرية وكشف لمفارقات الواقع الطبقية والاجتماعية، وتناقضاته الاقتصادية والسياسية، وتصادماته الفكرية والثقافية.
المضمون
إن أعمال محفوظ ـ في هذه المرحلة ـ كانت فضاء واسعا لمجموعة الأيديولوجيات السائدة، وبؤرا عميقة لمجموعة التوترات بين الجمود والتطور، وبين ما هو كائن وما يجب أن يكون، كما كانت الأعمال عالما مزدحما بمفارقات الأجيال والأحداث والشخوص ومفارقات الثورية والانتهازية، والاستقرار والقلق والاستواء والشذوذ، والانتظام والفوضي.
وإذا كانت (القاهرة الجديدة) هي باكورة المرحلة الواقعية، فإن الأعمال التالية قد أدخلت الواقعية في تحول حاسم للمصارحة والمواجهة نلاحظه في (زقاق المدق) سنة 1946، و(بداية و نهاية) سنة 1948، ثم أخذت الواقعية صورتها الأكمل في الثلاثية: (بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية) من سنة 1949 إلي سنة 1957، ويقول عنها أحد حوارييه (يوسف القعيد) إنها كانت عملا واحدا يجاوز ألف صفحة، وقد طالبه الناشر بتقسيمها، فجعلها علي ثلاثة أجزاء كما هي بين أيدينا اليوم.
الرمزية
وتأتي المرحلة الثالثة ملتحمة بالثانية في (الواقعية الرمزية) والتي تلتحم بمرحلة التجريب الشكلي، ونقل السرد إلي نوع من الوعي التأملي والفلسفي، وهو ما نلمح صداه في روايات مثل (أولاد حارتنا) سنة 1962، و(اللص والكلاب) سنة 1963، و(الطريق) سنة 1965، و(الشحاذ) سنة 1967، و(حكاية بلا بداية ولا نهاية) سنة 1971، و(قلب الليل) سنة 1975، ثم (الحرافيش) سنة 1977، و(رحلة ابن فطومة) سنة 1983.
لكن التأمل الفلسفي يكاد يكون مسيطرا في (الطريق) و(الشحاذ) حيث اتسع التأمل لإدراك المطلق إدراكا عقليا.
أصداء السيرة
وبعد العدوان علي نجيب محفوظ سنة 1994، دخل في طور طارئ خلال كتابة (أصداء السيرة الذاتية) في نصوص قصيرة متعددة الملامح يصعب إدخالها في نطاق مفهومي محدد، وهي نوع من التوافق مع المرحلة السنية التي بلغها بكل ما تحمله من ضعف في الحواس والجسد لا يسمح بكتابة النصوص الطويلة. لكن من المؤكد أن دخول هذه المرحلة الطارئة يرسخ الاعتقاد بأن المبدع إذا بلغ مرحلة الأسطورية، فإن حياته تصبح قرينة الإبداع، وتوقفه نوعا من الموت التقديري.
الصوفية
وفي هذه المرحلة يمكن إدراك ملامح الإشارات الصوفية التي ظهرت بوادرها في أعمال سابقة، لكن الإشارات كانت أوضح في (أحلام فترة النقاهة)، ويبدو أن هذه الإشارات كانت موازية لإحساس الفقد، حيث غاب كثير من رفاق العمر، وغابت كثير من أحداث الماضي القريب والبعيد. ويقول محفوظ (إن الأديب عندما يتقدم به العمر، ينحصر تفكيره في الزمن والموت وقضايا الفلسفة، وتشعر في كتاباته بالشجن والرغبة في العودة إلي الماضي).
ثم ينضاف إلي ذلك أن الحاضر ملبد بالغيوم، وآفاق الآتي يغطيها الضباب، والقوة الجسدية لم تعد قادرة علي اختراق كل ذلك وتأمل المستجدات القادمة.
شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
|