وفي مرحلة مبكرة من العمر أخذت العبقرية الأسطورية لمحفوظ تمارس تجلياتها في الكتابة، حتي إنه ترجم (كتاب مصر القديمة) لجيمس بيكر عن الإنجليزية وهو طالب في المرحلة الثانوية، وقد نشره سلامة موسي بوصفه نوعًا من التشجيع لهذه الموهبة المبكرة التي بدأت أولي خطواتها في كتابة تاريخها الإبداعي العظيم.
لكن التجلي التنفيذي لهذه الأسطورة كان في كتابة (المقال) الذي بدأه سنة 1930 وعمره تسعة عشر عاما، واستمرت عملية الإنتاج حتي سنة 1952، حيث قدم في هذه الفترة مايقرب من سبعة وأربعين مقالاً، وقد تداخلت مرحلة المقال مع مرحلة (القصة)، حيث كانت بدايتها سنة 1932، ثم تداخلت المرحلتان مع زمن (الرواية) التي كانت بواكيرها سنة 1939.
(3)
ومن سمات الأسطورية الإبداعية أن تتوازي مسيرتها الحياتية ومسيرتها الثقافية، فمنذ الصغر دفع والد محفوظ بابنه إلي رحاب المعرفة الأولية في (الكتاب) لتكون منابعه الأولي في (القرآن)، وكانت قراءة القرآن وحفظه من مهيئاته لاستقبال الثقافة العربية من منابعها المركزية التي كان يزداد إقباله عليها في شهر رمضان، فقرأ كتب السيرة والتراجم، وقرأ الشعر الجاهلي، ثم أقبل علي أبي نواس وبشار بن برد والبحتري والمتنبي وأبي العلاء، ثم أقبل علي التصوف وقرأ ابن عربي والسهروردي والنفري، وطبيعة التداعي أن يقوده التصوف إلي الفلسفة التي أصبحت ركيزة معرفية حرة، ومعرفة أكاديمية منهجية بعد التحاقه بقسم الفلسفة.
لقد كانت قراءة الفلسفة ودراستها نوعًا من الإضاءة المبهرة، وأكسبته طبيعة منهجية في مسلكه الخاص والعام، وكان هذا كله ذا أثر بالغ في مسيرته الإبداعية، لأن المبدع الحق في حاجة أساسية للثقافة الشاملة، ومن أهمها الثقافة الفلسفية، لأنها تؤسس المنهج من ناحية، وتنظم الفكر من ناحية ثانية، وتوسع دائرة الرؤيا من ناحية ثالثة.
ونعتقد اعتقادا يقينيا أن الوعي الفلسفي كان الركيزة لمشروع نجيب محفوظ الروائي من حيث النسق المعرفي، والتنظيم المنهجي، والحرص علي القيم والأعراف والتقاليد، وإعطاء الرؤيا قدرًا وافرًا من الشمول والاتساع، وإكسابها كما وفيرا من الوعي التأملي الذي يلاحظ مفردات العالم في مصيرها المعقد، وسيرورتها الغامضة.
ولا يمكن الادعاء بأن الفلسفة بوصفها علما ظلت حاضرة ومسيطرة عند محفوظ في مسيرته الثقافية، لكن المؤكد انحسارها بوصفها علما بعد أن شكلت المنهج والرؤية، وحددت أطر الوعي، كما نلاحظ في ملامح الشك المنهجي الديكارتي، وكما نلاحظ في مضامين أعماله الإبداعية، وفي كيفية رسم الشخوص بنماذجها المتباينة، وتحديد مصائرها المرئية وغير المرئية.
وهذه الذخيرة الثقافية الكثيفة تم رفدها من منابع معاصرة، حيث أقبل محفوظ علي قراءة طه حسين والعقاد والمازني والحكيم وسلامة موسي، وقد أضافت قراءتهم أبعادا جديدة في التكوين الثقافي والتكوين الشخصي، فقد اكتسب من طه حسين الاحتكام إلي العقل الناقد، والنظر إلي الثقافة الغربية بوصفها ضرورة حتمية لضبط الوعي المعرفي علي وجه العموم، كما أفاد من العقاد قدرا كبيرا من تمرده واعتداده بنفسه، وقدم الحكيم له نماذجه الروائية التي شدت انتباه جيله بأكمله، فقد قرأ (عودة الروح) وهو في السنة النهائية بالجامعة، ثم اتبعها بـ(يومات نائب في الأرياف)، وتكفل سلامة موسي بتهيئته تهيئة فكرية واجتماعية تقدمية.
ومن الواضح أن هذه القراءات المبكرة لمحفوظ رسخت عنده يقينا بالدور التنويري العظيم الذي أداه هؤلاء الرواد الأفذاذ، وهو دور يجب أن يأخذ حقه من التقدير والاحترام، ورفض محاولات الانتقاص منه أو تشويهه، ومن ثم رفض محفوظ كثيرا من آراء الشيخ محمود شاكر التي نسب فيها الفساد لأيام طه حسين والعقاد، وأرجع آراء الشيخ إلي تشدده من ناحية وانغلاقه علي آراء ذاتية بعيدة عن الموضوعية من ناحية أخري.
وربما كانت هذه التأسيسات الثقافية التراثية والمعاصرة وراء تحفظه أمام ما تنتجه الأجيال الجديدة من إبداع، ولأنه يؤمن بحرية المبدع، ويرفض أي نوع من أنواع الحجر عليه، فقد برر تحفظه بأنه لا يكاد يستوعب هذا الإبداع الجديد، وكأنه يرجع القصور في عدم تقبل هذا الإبداع لنفسه لا لخصوصية ما في هذا الإبداع، وهو نوع مما كان يسميه البلاغيون القدامي (حسن التعليل).
وعظمة ثقافة محفوظ أنها خصبت نفسها بالانفتاح علي الثقافة الغربية في مستوياتها وأشكالها المختلفة، وقد بدأت مرحلة التخصيب مبكرا، حيث يقول محفوظ إنه في سنة 1930 اقتني كتابا أجنبيا هو (المعرفة الجديدة) وكان أشبه بدائرة للمعارف، وكان به شغوفا، لأنه يحيط بكافة الأنشطة الإنسانية التي كانت تلح عليه بالأسئلة، وقد نقله هذا الكتاب من حالة اللامعرفة إلي حالة المعرفة، وقد دفعه هذا الكتاب إلي قراءة سواه من كتب القمم الثقافية والفكرية، والعجيب أن يقول محفوظ: إنني كلما قرأت كتابا أشعر بأن الجهل يطاردني، فأتغلب عليه بالاستزادة من القراءة، وبخاصة في مجال القراءة الإبداعية، فقد قرأ (بيكيت)، وأحب (ديستويفسكي) و(بروست) و(كافكا) و(شكسبير) و(يوجين أونيل) و(باسترناك) و(توماس مان) و(طاغور) و(حافظ الشيرازي)، كما قرأ (جويس وتشيكوف وهمنجواي وفوكنر).
واللافت أن هذه الخبرة الثقافية النظرية قد تم تخصيبها بالخبرة الثقافية العملية التي امتاحها محفوظ من مجموع الوظائف التي تولاها، فقد كانت وظيفته في وزارة الأوقاف بمثابة مصدر معرفة أدبي واجتماعي علي صعيد واحد، وذلك أن الوظيفة قدمت له (المعمل الواقعي) بكل محتوياته من القيم والأعراف والعادات والتقاليد، وبكل محتوياته من النماذج البشرية المتباينة، وقد اتسع هذا (المعمل) بمجموعة الوظائف اللاحقة، فقد عمل مديرا للرقابة، ومديرا لمؤسسة دعم السينما، ورئيسا لمجلس إدارتها، ثم رئيسا لمؤسسة السينما ثم مستشارا لوزير الثقافة لشئون السينما، حتي أحيل للمعاش سنة 1971.
لقد أمده كل موقع وظيفي بمجموع المكونات البشرية التي تعامل معها او التقي بها، كما أمده بكثير من الأحداث والحكايا، وكشف له كثيرا من أبعاد الواقع المحيط به، أي أننا يمكن أن نعتبر هذه الوظائف نافذة أطل منها وعي محفوظ علي عالمه المباشر، خاصة إذا أدركنا أنه كان بعيدا عن العمل السياسي والحزبي، وربما كان انتماؤه الحزبي الوحيد هو حزب الوفد قبل الثورة.
شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
|