عرض مشاركة واحدة
قديم 10/01/2008   #25
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


أسطورة مصر
في القرن الـ 20


الدكتور محمد عبدالمطلب

عندما نقترب من شخصية عادية لنتعرف عليها، من الضروري أن نهيئ أنفسنا لهذا الاقتراب بتجميع قدر كاف من المعلومات التي تجعل من هذا الاقتراب أمرا مفيدا ومجديا، لكن عندما نقترب من إنسان يفارق المألوف ويخرج علي (العادي) فإن التهيئة لا تكتفي بمثل هذه المعلومات السريعة العجلة، وإنما تحتاج إلي نوع من الإعداد العقلي والنفسي علي صعيد واحد، فإذا انتقلنا بالاقتراب إلي منطقة الأسطورة، فإن التهيئة يجب أن تصعد إلي أفق التخيل بكل طاقته في إدراك ما وراء الواقع، أو ما فوق الواقع.
كان هذا كله في الوعي ونحن بصدد مقاربة (نجيب محفوظ) أسطورة مصر في القرن العشرين، وهو أسطورة مدت أبعادها وتأثيراتها إلي العالم العربي والعالم الإنساني. لقد تحققت أسطورية محفوظ من عمره الإبداعي الذي كاد يستغرق عمره الزمني، ذلك أن الأساطير لا تقاس بمساحتها الزمنية، وإنما تقاس بمساحتها التأثيرية، وبقدر اتساع هذه المساحة، تزداد قامتها شموخا يوازي شموخ الآثار الخالدة.
ومن طبيعة الأسطورة أن تبدأ تجلياتها في دائرة زمنية بعينها، لكنها تتغلب علي الزمن المحدود، لتفرض وجودها في الزمن المطلق، وخلال هذا التحول تمتص إضافات وركائز في الأسس واللواحق الإضافية إلي أن تأتي لحظة التوقف الموازية للحظة الاكتمال، حيث تستحيل إلي كائن يعيش في الذاكرة الإنسانية، ويخايلها في كل مراحلها الحضارية.
لكن علي مستوي (الأسطورة الشخصية) يكون الزمن طوع هذه الشخصية، فيقدم لها عناصر الحيوية، ويفتح أمامها نوافذ التجربة والخبرة، ويسمح لها بالاستمرار في مرحلة شبابها لا تغادرها إلا لتعود إليها، أو لنقل: إن الزمن يتوقف بها في مرحلة النضج، ويعمل علي تعميقها رأسيا، وتوسيع مداها أفقيا، ومن ثم تصير إلي حالة دائمة من التحفز للاقتحام والمغامرة المحسوبة التي لا تعرف النكوص أو النقص، وإنما تعتاد التنامي الصاعد مع الحفاظ علي البكارة والنقاء.
وهكذا نجيب محفوظ يعيش زمن الشباب المقتحم الذي يلتحم بحاضره دون أن يحول نظره بعيدا عن أفق الآتي بكل احتمالاته المتوقعة أو غير المتوقعة، وبرغم استقرار محفوظ ـ بعمره الإبداعي ـ في زمن الشباب، فإنه ـ في عمره الفعلي ـ قد بلغ مراحل الكهولة والشيخوخة والكبر والهرم. بل إن بلوغ هذه المراحل المتتالية كان فاعلا بالغ التأثير في تشكيل (البصمة المحفوظية) بكل خصوصيتها في إطار العمومية، وبكل فرديتها في خضم الجماعية، فنجيب محفوظ المصري في إطار عروبته، والمصري العربي في إطار إنسانيته، وكأن الزمن مع محفوظ قد خرج عن قانون وجوده، فهو يتحرك حركة مزدوجة، للأمام تارة، وللوراء تارة أخري، أو لنقل إن حركته أصبحت حركة واحدة لا نتبين فيها وراء أو أماما، لأنها خاضعة لحركة محفوظ الذهنية والنفسية، فماضيه هو مستقبله، ومستقبله هو ماضيه بكل شموخهما الباذخ.
إن هذه المسيرة الممتدة زمنيا وإبداعيا ـ بطبيعتها الجدلية بين الماضي والحاضر والآتي، قد أكسبت نجيب محفوظ قدرة غير محدودة علي العطاء، وعظمة هذه القدرة في أنها لا تنتظر مردودا لعطائها، صحيح أن المردود قد يكون ـ أحيانا ـ من دوافع الاستمرار في العطاء لكن ذلك لا يكون إلا مع الشخوص المألوفة التي تمر عليها الحياة، أو تمر هي علي الحياة مرورا مألوفًا يتشابه بمرورها علي الشخوص العادية، لكن يتغير الموقف تماما مع الشخوص الأسطورية التي تطول بقامتها عنان السماء، حيث تمارس الأسطورية فاعليتها بين الناس دون أن تنتظر جزاء ولا شكورا.
لقد أتاحت الخصوصية والتفرد لمحفوظ إمكانية الرؤية الشاملة العميقة التي تعايش واقعها المباشر، ثم ترصد تحولاته الداخلية والخارجية، الجزئية والكلية، دون أن تعوقها هذه المعايشة الحميمة عن معاينة الواقع الإنساني في نماذجه العليا والدنيا، وفي تحولاته السياسية والاجتماعية والثقافية، فمحفوظ مصري وطني، وعربي قومي، وإنساني كوني علي صعيد وعيه الذاتي، وعلي صعيد وعيه الإبداعي.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03972 seconds with 11 queries