عرض مشاركة واحدة
قديم 10/01/2008   #19
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


بل إن نجيب محفوظ يلجأ إلي الحوار أو المونولوج الداخلي ويكشف هذا عن تحليلات نفسية عميقة وتأملات فلسفية بلا حدود، إن حديث الإنسان إلي نفسه يكشف له عن جوانب من الصعب أن يعثر عليها في زحمة الحياة ومشاغل الأيام العادية، وهذا إن دلنا علي شيء فإنما يدلنا علي لجوء أديبنا باستمرار إلي إبراز أوجه التقابل بين الظاهر والباطن، أوجه التعارض بل التناقض بين ما يبدو علي السطح وما يغوص في الأعماق أنه يقدم حشدًا من نماذج وشخصيات عديدة لا يكتفي بذلك، بل يحاول الغوص في أعماق كل شخصية من الشخصيات، وهل يمكن أن نتغافل عن البطل في رواية "الطريق، التكية، الحرافيش" إنها أشياء تدلنا تمام الدلالة علي أن أدب نجيب محفوظ لم يكن من نوع الأدب السطحي الذي يقوم علي مجرد الوصف والرصد والذي لا يخرج عن الوظيفة التي يقوم بها المحرر الصحفي حين يسرد وقائع حدث من الأحداث في جريدة يومية أو مجلة أسبوعية معتمدًا علي دقة الحوادث في أقسام الشرطة، لا لم يكن أدب نجيب محفوظ من هذا النوع السطحي الزائف بل قدم لنا أبعادًا غاية في العمل لأنه كان متسلحًا بالثقافة الفلسفية الرائعة. لقد وضع نجيب محفوظ بصماته البارزة علي مسار الرواية المعاصرة ومن يحاول أن يتخطي قصصه ورواياته فوقته ضائع عبثًا.
نقول ونؤكد القول بأن نجيب محفوظ نتيجة لتزوده بالثقافة الفلسفية الواسعة والشاملة والتي تظهر في العديد من قصصه ورواياته. لم يكن مجرد صدي للأحداث التي مرت بعصر قبل عام 1952 أو بعده، بل إنه يحاول بلورة العديد من الأفكار والمشاعر يحاول تحليل وتوضيح أفكار تبدو في الظاهر معروفة ولكنها في الحقيقة ليست بهذا المستوي من السهولة واليسر، إنه إذا كان قد تأثر بالعديد من الظروف الاجتماعية والأنظمة السياسية إلا أنه لم يكن مجرد مستقبل بل كان عن طريق قصصه ورواياته مؤثرًا وفعالا ً إذا ما أكثر القيم التي فينا من خلال أدبه وسواء اتفقنا معه حولها أو اختلفنا، وليرجع القارئ إلي رواياته سواء ما يمثل منها أو يغلب عليها الجانب الاجتماعي كخان الخليلي وزقاق المدق والثلاثية وبداية ونهاية، أو ما يمثل منها الجوانب التاريخية الفرعونية علي وجه الخصوص كفاح طيبة ورادوبيس وأولاد حارتنا والسمان والخريف والطريق والشحاذ وثرثرة علي النيل وميرامار واللص والكلاب. إن القارئ لهذه الأعمال التي نذكرها علي سبيل المثال لا الحصر يستطيع إلي حد كبير إدراك وحدة عضوية، وجانب تركيبي في أعمال أديبنا نجيب محفوظ وكم سعت إلي ذلك الآراء والاتجاهات الفلسفية من خلال تحقيق الوظيفة التركيبية للفلسفة فكم أعطانا نجيب محفوظ صورًا عديدة للإنسان الذي يمثل عالمًا صغيرًا بالقياس إلي الكون أو العالم الكبير. كم تحدث في رواياته عن الحياة وهل هناك هدف وراءها؟، وما معني تلك الحياة والتفاؤل والتشاؤم إلي أخر حديثه عن جوانب تدخل دخولًا مباشرًا في إطار الفلسفة والتفلسف وما زلنا حتي الآن كأدباء ومفكرين تطرحها علي أنفسنا ونحاول الإجابة عنها.
وقد كان نجيب محفوظ حين طرح هذه التساؤلات الفلسفية متجهًا إلي لغة الحوار وإثارة الشكوك، إنه لم يقدم إجابات جاهزة قطعية ولعمري أن ما فعله أديبنا نجيب محفوظ يضعه في مكانة كبري. وإذا كنا نعجب كل الإعجاب بأشعار المتنبي وأبي العلاء المعري وبحيث نفضل هذين الشاعرين علي البحتري نظرًا لما نجد لديهما ( المتنبي وأبي العلاء المعري ) من أشعار تطرح العديد من القضايا، فإنه لابد بالتالي من الإعجاب بالعديد من قصص وروايات نجيب محفوظ فلم يجد الإنسان فيها نفسه، كم يجد كما هائلًا من التحليلات النفسية والفلسفية والتي يرددها بينه وبين نفسه وبحيث تحدد علاقته بذاته وعلاقته بالمجتمع بل تحدد علاقته بالله تعالي خالق الأكوان، صحيح أننا لا نجد فيها العمق الذي نجده عند شكسبير أعظم الشعراء والأدباء علي وجه الأرض قاطبة ولكن هذا لا يقلل من مكانة نجيب محفوظ فمن من أدبائنا القدامي والمحدثين وصل إلي ما وصل إليه شكسبير؟ إن المتنبي وأبي العلاء المعري علي ما في أشعارهما من عمق ودلالات فلسفية، لا يرقي واحد منهما إلي ما وصل إليه شكسبير.
لقد كان نجيب محفوظ عن طريق تعمقه في دراسة الفلسفة وتأثره بها مكتشفًا لعوالم جديدة لا أكون مبالغًا إذا قلت إننا لا نجدها عند أديب من أدبائنا المعاصرين في زمانه، أي من الأدباء العرب الذين يعيشون حاليا داخل مصر وخارجها، لقد أدرك نجيب محفوظ أن للأدب وظيفته الاجتماعية أنه لم يقم بتأليف رواياته وقصصه لمجرد اللهو والعبث لقد كان طوال حياته ملتزمًا بخصائص الأدب كما ينبغي أن يكون الأدب، لم يكن من هؤلاء الذين يحشرون أنفسهم في زمرة الأدباء والأدب، والبعد بينها وبين الشعر أو الأدب أبعد من المسافة بين الإنس والجن.
نعم لقد كان نجيب محفوظ عملاقًا من عمالقة الأدب والرواية. لقد أجهد نفسه إجهادًا شديدًا وقدم لنا أدبًا رفيع المستوي واضح القسمات وما أجدرنا أن نحتفل به في كل زمان وكل مكان.
هذه رؤيتنا الفلسفية لأدبه وقصصه أي تحليلنا لأدبه من خلال منظور فلسفي ولا يخفي علينا أن هذا المنظور الفلسفي يعد غير مقطوع الصلة بالاتجاه العظيم، الاتجاه التنويري العقلاني المستقبلي.
أقول وأؤكد القول بأن الدراسة لأدب نجيب محفوظ، ومن خلال أكثر رواياته إن لم يكن كلها، لا يمكن أن تكون دقيقة وتحليلية وعميقة، إلا بأن نضع في اعتبارنا دوامًا الدلالات الفلسفية أو الأبعاد والأهداف التي لا تقف عند الظاهر، بل تتخطي الظاهر إلي ما وراء الظاهر، بحثًا عن الفلسفة والتفلسف.
وأعتقد أن روح نجيب محفوظ تحلق الآن في السماء في سعادة، وذلك حين تدرك أثر أدبه وأثر فكره في ملايين الدارسين. لقد ترك لنا إنتاجًا أدبيا ضخمًا سيبقي منارة أمام كل الأجيال. إنه سيظل حيا بأدبه. سيظل في ذاكرتنا دوامًا، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.10074 seconds with 11 queries