رابعًًا: التجلي المتابع المستوعب للواقع الظاهري (روايات الأجيال أساسًًا)
لا يكاد يخلو عمل من أعمال محفوظ، حتي ما غاص منه وبه في خيال شاطح (مثل رأيت فيما يري النائم وليالي ألف ليلة، وحتي أحلام فترة النقاهة) من حضور الواقع الظاهر كما يعيشه أي منا بلغته الآنية وحضوره البسيط العميق الرائع. يتجلي ذلك بوجه خاص في روايات «الأجيال» خاصة بدءًًا من الثلاثية، وليس انتهاء بحديث الصباح والمساء (الذي شرح فيه تطور الطبقة الوسطي المصرية بشكل خاص خلال قرنين من الزمان، منذ نزول نابليون علي شاطئ الإسكندرية 1798 حتي أحداث سبتمبر السادات 1981)، ثم «يوم قتل الزعيم» و«باقي من الزمن ساعة».
خامسًًا: التجلي السياسي
أظهر التجلي السياسي في إبداع محفوظ مدي سعة المسافة بين موقف نجيب محفوظ المتحفظ (لا المحافظ) وهو يدلي بآرائه السياسية في الحياة اليومية، وبين نجيب محفوظ السياسي والثائر المغامر حتي القتل في إبداعه الروائي. يبدو أن إبداعه هذا هو بمثابة التعويض الذي يعادل موقفه المحافظ في الحياة العادية، هذا الإبداع عوضه عن التزامه المتحفظ أبدًًا. نقرأ ذلك التنبيه علي ضرورة التحفظ وهو يصدر من الوالد للابن في مقدمة العائش في الحقيقة: «ولكن احذر أن تستفز السلطان، أو تشمت بساقط في النسيان». ثم إنه ألحق ذلك بقوله مباشرة «كن كالتاريخ.. إلخ. ثم إنه أكمل بعد ذلك، وكأنه يصف نفسه ثانية، ويخاطبها..«أما أنت، فتريد الحقيقة، كل علي قدر همته». بدا البعد السياسي في إبداع محفوظ مكملاً لـ (وليس بالضرورة متناقضًًا مع) الرأي السياسي في تصريحاته وأحاديثه الرسمية المنشورة (دون أحاديثه الخاصة) ومع ذلك فإنه لا يكاد يخلو له عمل واحد من التجلي السياسي الناقد الثائر المقتحم للجاري علي السطح بما في ذلك التاريخ المسجل بالوثائق والشهادات، إلا أن بعض رواياته حظيت بقدر أكبر من غيرها في الاهتمام بهذا البعد مثل: الكرنك، وثرثرة فوق النيل، ويوم قتل الزعيم، وميرامار واللص والكلاب والشحاذ. إن أي مؤرخ أكاديمي لا يضع هذه الأعمال المتميزة الروائية السلسة كمصدر من أهم مصادره، يمكن أن يفوته الكثير.
ليس معني أن محفوظًًا استطاع أن يمتلك ناصية الأحداث ليمزجها في خياله المبدع ثم يخرج بها في هذه الصورة الروائية السلسة أنه ابتعد عن الأحداث لصالح إبداعه، بل لعله أضاف إلي الأحداث حقيقة أغوارها بفضل إبداعه، أتم محفوظ هذا التأريخ ليصبح في متناول كل الناس، وفي نفس الوقت هو ممتنع عن غيره من فرط سلاسته وعمقه معًًا، هكذا.
سادسًًا: التجلي الذاتي (السيرة الذاتية)
صرح محفوظ أكثر من مرة بأنه لن يكتب سيرته الذاتية، بل إنه ذهب أبعد من ذلك حين برر تحفظه هذا بأنه لا يري في سيرته الذاتية ما يستأهل الإشارة بوجه خاص، فهي ـ حسب قوله ـ لا تختلف عن سيرة أي مواطن مصري وجد في ظروفه وهو لم يكن في ذلك مدعيا التواضع، بل لعله ـ من فرط أمانته ـ أراد أن يبلغنا أنه (نجيب محفوظ) يمكن أن يتكرر بلا أدني تقديس.. ثم إنه في نفس الوقت لم يتردد (ولا يتردد) أن يجيب كل سائل عن خصوصياته إجابة صادقة ومباشرة، وإن لم تكن كاملة طبعًًا.
علي الرغم من هذا العزوف المبدئي، فإن سيرة نجيب محفوظ تجلت في كل أعماله (عدلت عن أي أقول أغلبها) هي لم تتجل ببعدها الظاهر، وإنما بمستوياتها الكيانية المتعددة. إن نجيب محفوظ هو من المبدعين القلائل (أو النادرين) الذين لم يعيشوا هذا التناقض الصعب بين ما هم، وما يكتبونه. وفي نفس الوقت إنه لا يوجد تماثل أبدًًا بين شخصه وبين ما يكتب. إنه يحضر ـ شخصيا ـ في كل ما يكتب، وهو يحضر مبدعًًا لشخوصه المتفردة ـ غير ما هو ـ أيضًًا في كل ما يكتب. كلا الحضورين سهل ممتنع، فعلاً، لكن لكل لغته، وتشكيله ليكمل بعضه بعضا. ومع كل هذا التحفظ، فإن محفوظ قد سمح في بعض أعماله بجرعة أكثر فأكثر من سيرته الذاتية بدءًًا بالثلاثية، ثم المرايا، فحكايات حارتنا، ثم أخيرًًا أسمعنا أصداءها أكثر اختراقًًا وتكثيفًًا في «أصداء السيرة الذاتية».
شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
|