اللوح الأول: التأريخ بالإبداع
أولاً:التجلي في أحداث الماضي مباشرة (قراءة في تاريخ مصر القديمة) بدأ نجيب محفوظ الكتابة المنشورة سنة 1932 بترجمة «مصر القديمة»، ثم تلاها مباشرة تقريبًًا (بعد مجموعة قصص قصيرة: همس الجنون 193 بثلاثية عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة (1939، 1943، 1944 علي التوالي). وهو لم يعد إلي مثل هذا التناول، بعد نضج فائق، إلا ليكتب «العائش في الحقيقة» (1985) بمستوي آخر في عمق آخر (هذا، فضلاً عن لمحات عابرة في قصص قصيرة هنا وهناك). هذه الرحلة في التاريخ لا تمثل تمامًًا ما أعنيه بـ: التأريخ بالإبداع، (أو الواقع الإبداعي) علي الرغم من أنها سميت المرحلة التاريخية (محمود العالم). إن تقييم هذه المرحلة من وجهة نظر المداخلة الحالية هو أنها تعتبر إعادة بمثابة صياغة لتاريخ قديم معروف. إن هذا لا يعدو أن يكون بمثابة تحديث خيالي لقراءة في التاريخ، فهو ليس تمثلاً إبداعيا لواقع معيش. هذا المستوي هو «قراءة» أكثر منه «معايشة»، فانصهارًًا، فإعادة تشكيل، هي قراءة توصل إلينا ما هو نحن سهلاً مسلسلا، دون أن تفرض علينا حقائق جامدة نخضع لها قسرا حتي لو لم تكن هي، هذه الترجمة من وقائع تاريخية جامدة إلي إبداع سلس لا يقدر عليها إلا من ملك أداة موضوعها ليصنعها منسابة بهذه السهولة التي تمتنع علي غيره.
ثانيا: التجلي الرمزي
لم يفصل إبداع محفوظ بين تاريخنا (تاريخه) وتاريخ البشرية (بل تاريخ الحياة أحيانًًا). هو لم يقصد ذلك ابتداء، لكن انتماءه إلي الحياة، ودوام سعيه لاكتشاف الحقيقة، ألهماه أن يقرأ تاريخنا علي أرضية أوسع بامتداد أبعد. إن حضور شعب، ثم فرد علي هذه الأرض أو تلك في زمن محدد، ليس إلا تجسيدًًا لمسيرة الحياة برمتها حيث يستحيل فصل الوجود البشري، حتي في حضوره الفردي، عن ملحمة الوجود الحيوي (التطور). من هنا راح محفوظ يبحث بإلحاح لم يهمد عن «الطريق» إلي الله، و بقدر ما راح يحفر حول جذور الحياة لعله يسبر غورها في هذه المحاولة تداخل الموقف الفلسفي بالموقف الصوفي بالموقف التأريخي. هكذا اضطر محفوظ ـ ربما تحت إلحاح إبلاغ الرسالة ـ أن يبالغ في اللجوء للرمز وهو يعيد كتابة التاريخ حتي خيل إلي أن ما يميز هذا التجلي الرمزي لم يكن استيعاب الواقع إبداعًًا بقدر ما كان إظهار القدرة علي إعادة تشكيل التاريخ حالاً بلغة آنية لا أكثر. اعتبرت أنه قد غلبته إغراءات الأداة القادرة علي تطويع أي شيء حتي تاريخ البشرية حتي بدا لي مدرسا يلخص لنا درس الحياة بطريقة سهلة قريبة وهو يقوم بإعادة صياغة التاريخ كتابة موازية للرسالات الهادية دون إضافة معينة. تجلي هذا البعد الرمزي في أكثر من عمل كان أهمها، وأخطرها، «أولاد حارتنا» حيث بلغ الرمز من الوضوح ما عري المرموز له حتي رجحت كفة سلبيات المحاولة علي إيجابياتها، وترتب علي ذلك ما ترتب. لكن الرمز تخفي أكثر في أعمال أقل طموحًًا مثل «حكاية بلا بداية ولا نهاية» وهو يقدم الكتب الثلاثة التي هزت البيت الكبير والطريقة. لم يتردد محفوظ في تقديم كوبرنيكس في ثوب الشيخ أبو كبير هو يعلن «أن بيتنا ما هو إلا فرع من فروع لا حصر لها من بيوت الطريقة»، كما ألبس سيجموند فرويد ثوب الشيخ أبو العلا «ذاك الوحش الذي يتلذذ بالأعراض..» هذا كله أوصل معني «التسهيل بالتعميق»، وليس بالإيجاز أو الحذق والترجمة إلي اللغة المعاصرة، وهو أمر بالغ التعقيد إذا ما اقتربت منه، أو حاولت مثله.
ثالثًًا: التجلي الأعمق لدورات الحياة
تتكرر محاولات محفوظ لصياغة التساولات الأساسية لمسار ومصير الإنسان في توجهه نحو المطلق بدءًًا بزعبلاوي، حتي تنضج التجربة لتؤتي أكمل ثمارها حين يمتلك محفوظ ناصية الرقص مع دورات الحياة مباشرة دون حاجة إلي رمز يستعيد به أحداث التاريخ. راح محفوظ يتناغم وهو يدور مع المطلق، وهو يعري ضلال الخلود ويساويه بالموت الآسن، كما استطاع أن ينبهنا كيف أن «الوعي بالموت» هو أعظم حافز للحياة. نجح محفوظ في الحرافيش أن يرسم دورات الحياة وكأنه يلف معها في سيمفونية الإيقاع الحيوي دون حواجز، «تعالوا نأخذ عينة محدودة من الحرافيش:
=لو أن شيئًًا يدوم، فلم تتعاقب الفصول؟
(هل تصدق أن هذه فقرة كاملة في الرواية؟ فقرة رقم 45).
ثم نقرأ بعد ذلك بخمس صفحات فقط:
«الشمس تشرق، الشمس تغرب، النور يسفر الظلام يخيم».
هل يوجد ما هو أبسط من ذلك، لو أن هذه الجمل وضعت في كتاب للقراءة الرشيدة لأطفال في المرحلة الابتدائية لكانت مناسبة من فرط سهولتها، أما موقعها في سياق ملحمة الحرافيش التي بدأت دوراتها بعاشور الناجي لتنتهي بعاشور الناجي أيضًًا فهذا هو ما يمتنع علي غير محفوظ حتمًًا.
بدت لي ملحمة الحرافيش خاتمة هذه المحاولات لفرط ما اتسق تناغمها، إلا أنه عاد من جديد إلي دورات الحياة وهو يبحث بنفس أهدأ في رحلة ابن فطومة، وأيضًًا ظهرت دورات أخري مؤخرًًا في أصداء السيرة الذاتية. هذا تاريخ دوار يحضره محفوظ في «هنا والآن» ثم يحركه في دورات الحياة الحالية وكأنها تتكرر، وهي لا تتكرر بل تتجدد حيويتها.
شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
|