عرض مشاركة واحدة
قديم 10/01/2008   #5
صبيّة و ست الصبايا اسبيرانزا
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ اسبيرانزا
اسبيرانزا is offline
 
نورنا ب:
Jun 2007
المطرح:
مصر ام الدنيا
مشاركات:
2,585

إرسال خطاب MSN إلى اسبيرانزا
افتراضي


المحور الثاني: محفوظ يستوعب التاريخ ويفرزه
كيف يكون واحد من الناس، هو نفسه تاريخ ناسه؟ وكيف يقوم هذا الواحد وهو ليس مؤرخًًا ـ بتسجيل تاريخ ناسه في إبداعه؟ يفعل هذا وذاك دون تكلف ودون افتعال، وبأسلوب يصل إلي كل واحد، وفي نفس الوقت يعجز عن فعل مثله أي واحد.
لعل نجيب محفوظ كان يصف نفسه حين أعلنها علي لسان أب يخاطب ابنه في مقدمة روايته «العائش في الحقيقة» وهو يقول: «كن كالتاريخ، يفتح أذنيه لكل قائل، ولا ينحاز لأحد ثم يسلم الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين». التاريخ الذي يعنيه محفوظ هنا ليس هو التاريخ المكتوب في كتب التاريخ أو وثائقه، وإنما هو التاريخ الحي الماثل في وعي الإنسان وهو يعمر الأرض، وهو يتعثر، وهو ينتكس، وهو يبحث عن الحقيقة، وهو يصاب بالعمي عنها، ليقع ثم يقوم، ليعاود البحث. إن تعبير محفوظ «كن كالتاريخ».. لا يعني التشبيه، بقدر ما يحدد ما هو التاريخ، وكأنه يقول «أنت (أنا) التاريخ»، ذلك أنه أردف بعد هذه النصيحة من الأب استجابة الابن وهو يقول: «وسعدت جدا بالتوجه إلي تيار التاريخ الذي لا أعرف له بداية، ولن يتوقف عند نهاية، ويضيف كل ذي شأن إلي مجراه موجة مستمدة من حب الحقيقة الأبدية».

التاريخ الحقيقي، والتاريخ الوثائقي
لا أريد أن أدخل في مناقشة إشكالية مدي مصداقية «علم التاريخ» أكاديميا، إن مدخلي هنا يتجاوز ذلك وأنا أستمع لأصداء نجيب محفوظ وهي تتردد في وعيي، إنني أكتشف أن لوحين محفوظين يدقان لحنًًا تاريخيا رائعًًا مخترقًًا. لوح يمثل إبداعه، ولوح يتجلي في شخصه:
اللوح الأول: هو التأريخ بالإبداع، وقد رأيته أكثر دلالة وإحاطة من كتب تاريخ يكتبها مؤرخون محترفون وأكاديميون، هو أصدق أيضًًا من التسجيل الوثائقي، ومن الرص الشهاداتي. المبدع يحتوي الواقع ثم يفرزه، وهو يسجله بموضوعية فائقة لأنه يتجاوز الحكي المعلوماتي، والتصوير الساكن، والوثائق والشهادات المشبوهة. النص الأدبي ـ مثلا ـ يعري الواقع الخارجي والناس من خلال معاناة فإبداع كاتبه، ثم يأتي الإبداع النقدي بعد ذلك ليعيد قراءة النص فيصنف ويرتب الواقع البشري أعمق وأكثر دقة وإحاطة، إنه يخلق من الواقع واقعًًا أصدق، لا خيالاً بديلاً. من هذا المنطلق تعتبر إبداعات محفوظ من أهم المصادر التي يمكن أن تساعدنا للتعرف علي أنفسنا وعلي تاريخنا، وعلي امتدادنا إلي ما يمكن أن نكونه.
أما اللوح الثاني: فهو التاريخ المسجل بيولوجيا في خلايانا، هو اللوح المحفوظ المبرمج القادر المسمي «الدنا» DNA، حيث يقع في بؤرة محورية الوجود، ليتجلي في الذاكرة والوراثة والمناعة والطفرات التطورية. إن التاريخ الذي يسجل في نوايا خلايا الأحياء نوعًًا بعد نوع، حتي الإنسان جيلاً بعد جيل هو التاريخ الحقيقي، حيث لا يخضع للأهواء أو يقبل التزوير. لقد كدنا ننجح في فك رموز أبجدية اللوح البشري عامة (الجينوم)، ولنا أن نأمل في أن ننتقل لفك رموز الجماعات فالأفراد حتي يمكن أن نقرأنا دون تدخل مريب، وحتي ذلك الحين نحن لا نملك إلا أن نقرأ ما يصدر عنا، وما يصدر منا، سلوكًًا وإبداعًًا، رمزًًا ومباشرة.
إن الفرض هنا أصعب، وهو من قبيل التفاؤل كما ذكرت، أملاً في أن هذا الشيخ الرائع يمثل «ما هو نحن» أو «بما يمكن أن نكونه».
وفيما يلي عرض بعض عينات من إبداع محفوظ، ثم من تجليات حضوره الشخصي لتفسر لنا ما أعنيه بهذين اللوحين اللذين حفظهما لنا محفوظ بإبداعه وحضوره جميعًًا.

شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.03269 seconds with 10 queries