إلي الحياة والنجاة من الموت إلا بعد أيام أخري.. فلما كرت ذهبت عنه حمي الخوف وعد نفسه مرة أخري من الأحياء، وتأمل حياته ساعة فلم يتمالك أن يهتف من أعماق قلبه: يا عجبًا.. لقد بعثت بعثًا جديدًا.
لأنه مات ـ إذا جاز لنا أن نقول ذلك ـ ذليلاً جبانًا سارقًا نذلاً أعزب، ورد إلي الحياة كريمًا شجاعًا أمينًا شهمًا متزوجًا ـ فياللعجب! هل يستطيع الموت أن يخلق جميع هذه المعجزات؟ لقد غابت عنه قديمًا لذة الفضيلة فكبر عليه فعل الخير وهالته الشجاعة وخال الإقدام عليها هلاكًا ذريعًا.. فأثبت له الموت بالتجربة الواقعة أن الفضيلة سامية، وأن فعل الخير سعادة لا تعجز طالبه، وأن الشجاعة حياة كريمة لا هلاكًا محتومًا.
ولا نحب أن نقدر محمدًا بفوق ما يستحق فالحق أنه كانت تأتي عليه ساعات يخلو فيها إلي نفسه فيهمس حيران متأسفًا: قد تزوجت وانتهيت.. وهجرت حياة الليل اللذيذ.. ولن أكون آمنًا بعد اليوم في وظيفتي.. ولكنها كانت أصواتًا خافتة سرعان ما تغيب في جلبة الحياة الجديدة..
ولبث يعجب لما صنع الموت منه.. ويحسبه من الخوارق والمعجزات.. ولما امتلأ صدره بالتعجب والتأمل رأي أن يشرك في أفكاره صديقه الطبيب الذي لا يؤمن بغير العلم والمادة فقص عليه قصته وروي له ما فعلته فكرة الموت بحياته، وأصغي إليه الطبيب بانتباه، فلما انتهي قال له بسخرية: «ويحك أتتوب عن نعيم الدنيا لدنو الموت منك؟ انظر إلي.. ألست تراني أواصل الليل بالنهار عملاً واجتهادًا وراء المجد والشهرة والنجاح؟ أتعلم ما الذي أصنع لو اطلعت علي الغيب وعلمت أن الموت مني قريب؟.. لا شيء.. أخلد إلي الراحة والدعة وأقضي ما بقي من حياتي بين الكاس والخدود!»
وضحك ضحكًا عاليًا متواصلاً، ثم قال بنفس اللهجة الساخرة:
«ولكن أتعلم متي أتوب حقًا عن المهالك وأهب نفسي للعلم والفضيلة؟ إذا وجدت الخلود ممكنًا في هذه الدنيا».. وأصغي إليه محمد في صمت وجمود... وازداد عجبًا وتأملاً...
شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
|