تباعًا، خفافًا وثقالاً، فلا يكاد يظفر فيها بما يجوز أن يعده من السعادة الصافية التي تطيب بها الدنيا وترجي لها الآخرة.. أما ما ينغص الطمأنينة وينتزع آهات الحسرة والأسف فكثير لا يحصي، وما يتبقي من الوقت ما يتيح الفرصة لإصلاح فاسده والتكفير عن سيئه..
ماذا صنعت بحياتي؟ قد يطرح هذا السؤال قوم فيأتيهم الجواب السعيد في آيات الفكر التي أورثوها الإنسانية كافة أو الأعمال المجيدة التي بذلوها لأوطانهم أو الكفاح النبيل الذي أدوه للأسرة والأبناء، أما هو فلم يك واحدًا من هؤلاء.. لم يضطلع بتبعة من تبعاتهم ولم يبذل تضحية من تضحياتهم ولم تكلل هامته بوسام من أوسمة مجدهم وجهادهم.. فلم يختلج في صدره قط معني من معاني الإنسانية ولم يعرف الوطنية إلا شقشقة لسان وجدل فراغ، ولم يقدم علي الزواج ولا قدر ما فيه من مغزي طبيعي خالد أو واجب اجتماعي نبيل. وبالجملة عاش لنفسه يرسف في أصفاد الأنانية وينزلق يومًا بعد يوم في مهاوي الحيوانية والجمود.
وقد يكون من المغالاة أن يقال إنه لم ينتبه من قبل إلي تفاهة حياته ولكنه لم ينتبه إليها الانتباه الحري بأن يبعث فيه روح الندم الصادق وأن يحثه علي التفكير والتجديد، فكان إذا ضايقه التفكير في تفاهته أغمض العين علي القذي وقال لنفسه معزيًا: «إن في العمر متسعًا للتغيير» ولكنه لا يستطيع أن يقول ذلك الآن والموت لا يمهله إلا شهورًا معدودة.. ولو أن حياته اقتصرت علي التفاهة لربما هان الأمر.. ولكنها تتلوث في صميمها بالإثم والشر والخنوع مما يندي له الجبين خجلاً ويندي له القلب ألمًا وحزنًا..
ذكر حياته الحكومية فذكر بها الذل والهوان والضعف والجبن.. هو ولا شك موظف مجتهد ودقيق في عمله ولكنه كان دائمًا أضعف من أن يقاوم الوسط الذي وجد فيه، فكان يجاري التيار ويتفادي التصادم ويخنع إشفاقًا من النقل والاضطهاد فأدي به خوفه من الاضطهاد إلي أحط أنواع الاضطهاد والذل، ووجد نفسه يخوض في الأعراض ويجامل في الحق ويتغاضي عن الذل ويسكت عن الإهانة.. فياللضمة! وذكر حادثة أهوت به إلي الحضيض وتقبلها في وقتها قبول الفاجرين، إذ كانت تختلف إلي بيته امرأة عجوز تحتال علي العيش ببيع البيض والفاكهة، وكانت أمه تشملها بالعطف فتطعمها وتكسوها مما جعل المرأة تطمئن إليها وتعهد لها بحفظ أرباحها الضئيلة حتي تجمع لديها خمسة جنيهات أوصت ـ إذا أصابها قضاء الموت ـ أن تردها إلي ابنتها البائسة وأبنائها اليتامي.. وماتت العجوز فعهدت أمه إليه برد المال إلي مستحقيه.. واأسفاه!.. لقد كان يعلم أن المتوفاة كانت تخفي أمر تركتها عن ابنتها، فما كان منه إلا أن دس الجنيهات في جيبه وبددها في المقامرة والشراب.. وهضم ضميره البليد فعلته الشنعاء وارتضي السرقة وحرمان اليتامي حقهم دون وخز أو ألم.. فأي دناءة وحقارة!
وذكر ليالي العربدة والفجور التي عرفته فيها الحانات مدمنًا لا يريم، وموائد القمار لاعبًا مدلسًا لا يشق له غبار، والمستهترات رفيقًا لا يشبع ولا يرعوي.. أواه.. إنه ينبغي له أولاً أن يستل الدين والإيمان من صدره قبل أن يعد تلك الليالي الحمراء من الحياة السعيدة التي لا يجوز أن يندم علي ما فعل فيها.
وذكر أيضًا غرامه.. فقد استطاع قلبه علي تفاهته وتلوثه ـ أن يحس ويخفق، ولكنه كان غرامًا عجيبًا، بل لو أن إنسانًا سماه كراهية ما جاوز الحقيقة.. كانت فتاته أخت طبيب كان في صباه صديقه الحميم، ثم أنأته
شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على لفظة واحدة
وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة
|