عرض مشاركة واحدة
قديم 16/07/2005   #16
شب و شيخ الشباب imad
عضو
-- أخ لهلوب --
 
الصورة الرمزية لـ imad
imad is offline
 
نورنا ب:
Jul 2005
مشاركات:
188

افتراضي


هذه هي مشاركتي
رحمة بعهد مقدس- مقدمة:

هذا عمل من الأعمال التي تناولتها حلقة الأبحاث : " العهد الجديد بالمسيح يسوع "، والتي كانت بقيادة الأب أيوب شهوان المحترم؛ تناولت هذه الأعمال موضوع العهد فجاءت مختلفة في عناوينها، متفقة في مضمونها، فإنها تصب في خانة واحدة هي تحقيق العهد بالمسيح يسوع.

في هذا العمل نرى موضوع العهد من خلال آية في إنجيل القديس لوقا وهي " أظهر رحمته لآبائنا وذكر عهده المقدس " (1/ 72)، التي تندرج في نشيد زكريا الذي أنشده عند ولادة يوحنا. فلكي نحصل على رؤية واضحة لموضوع العهد، سأعمل على إيضاح معاني كلمات الآية، فإن لها عميق الصلة في العهد القديم، وتعمل على إبلاغ بدء العهد الجديد المقدس بيسوع المسيح. والقديس لوقا يريد، من خلال ذكره لهذا النشيد، أن يوضح ويبرز عمل الله الخلاصي للبشر الذي يكون تمامه في مجيء المسيح الرب؛ حيث أن ذكر ما يقوم به يسوع من أعمال الرحمة في إنجيله هو دليل على تركيزه على هذه الصفة الالهية، صفة " المخلِّص ".

لقد تدخل الله في حياة شعبه، الذي يحبه، بغية انتشالهم من خطيئتهم والعودة إلى الشراكة معه، هذه التدخلات ذكرها العهد القديم بشكل واضح وصريح؛ ففي هذا العمل أنطلق من تدخل الله في العهد القديم لأصل إلى العهد الجديد، وهذه الانطلاقة ستكون من اختيار الله للآباء وإعلانه لهم عن قصده وأهدافه، فمن ابراهيم واختباره إلى موسى ومسيرة خروجه بالشعب، إلى اكتشاف رحمة الله، حيث أنها تظهر في نجدته للبائسين وخلاصه للخطأة ورحمته التي تشمل كل إنسان، ومن هنا أنطلق في الكلام عن العهد وما فيه من أمور كالقسم والتذكار والعبادة والأمانة والبركة، لأنتهي بالكلام عن العهد المقدس بالمسيح يسوع.

هذه المسيرة كلها، تعتمد، لا على نص الآية وحسب، بل على إطار النص وما يُحيط به من مشاهد وأقوال تدعمها، فالغاية من هذه المسيرة هو تأكيد مسيرة تحقيق الخلاص، الذي بلغ ذروته بيسوع المسيح .

- إطار النص:

بعد لوحتي بشارة زكريا ومريم العذراء (لو1/5-56) ، يضعنا القديس لوقا في الفصل الأول من إنجيله ، أمام لوحتين ترسمان ولادة من بُشر بهما (1/57-2/21). ففي اللوحة الأولى مولد يوحنا وخبر ختانته، ثم نشيد المباركة، وفي اللوحة الثانية خبر ميلاد يسوع مع نشيد التمجيد الذي يطلقه الملائكة ثم ذكر الختانة .

نحن في إطار الحديث عن مولد يوحنا المعمدان حيث حان وقت ولادة أليصابات فإن الرب "رحمها رحمة عظيمة " (لو1/ 58) ، ويحدِّث القديس لوقا عن مجريات هذا الحدث . ففي اليوم الثامن أتوا بالطفل لكي يُختن ويُسمّى ، فأرادوا تسميته زكريا على اسم ابيه. فقالت أمه فليسمى يوحنا وسألوا أبوه أيضاً فكتب على اللوح "يوحنا"، وللحال انفتح فمه وانطلق لسانه، فتكلم وبارك الله وغمرت الفرحة الجميع تحقيقاً لقول الملاك الذي سبق وأعلن له:" ستفرح أنت به، سيفرح بمولده كثير من الناس " (1/ 14)، فرحت أليصابات وفرح جيرانها معها: فقد ولد طفل في البيت، هذا الطفل هو ذكر، وهذه الولادة تمت لإمرأة انتظرت طويلاً قبل أن تلد فاعتبرت عاقراً. وجرّاء هذا الفرح يفيض فرح القلب في نشيد مديح لله يطلقه زكريا بعد امتلائه من الروح القدس.

نشيد المديح غالباً ما كان يتلى في صلوات العهد القديم للتعبير عن الشكر لله الذي أنعم بالخيرات، وفي الغالب هي صلاة مرفوعة لله تبدأ بالمباركة: " تبارك الرب إله إسرائيل…" (آ68) ، وهي شبيهة بالصلاة التي تتلى بالمجمع : " مبارك أنت أيها الرب إلهنا وإله آبائنا.. الذي تذكر أعمال آبائنا الحسنة فأقام فادياً لأبنائهم"[1]، وهذا قريب جداً من نشيد زكريا: " مبارك الرب (آ68)… ليرحم آباءنا ويذكر عهده المقدس (آ72) وأقام لنا قوة الخلاص" (آ29). إذاً نشيد المديح الذي أطلقه زكريا له أصول في العهد القديم وهو تعبير عن تدخل الله الخلاصي في حياة الشعب الإسرائيلي، فمثلاً عندما يشير إلى القَسَم الذي أقسمه الله لابراهيم (آ73) ، هي مفرادات استعملها الكاتب وربطها بالوعد المعطى لابراهيم بنسل وأرض.

تقسم صلاة زكريا إلى قسمين. قسم أول في صيغة الغائب ( تفقد هو، أقام هو)، يتحدث عن تدخل الله في الحياة (آ68-75). وقسم ثان في صيغة المخاطب (آ76-79) وفيها يتحدث زكريا إلى الصبي باسم الرب فيحدد له مهمته كسابق للمسيح: " وأنت أيها الطفل ....تسير قدام الرب ". لا يحافظ النص على الغائب والمخاطب ، رغم أن هاتين الصيغتين مسيطرتان. ففي القسم الأول نجد أفعالاً في صيغة الماضي: تفقدَ، عملَ فداء (افتدى) (آ68)، أقام(آ69)، قال (آ70)، أقسم (آ73) ، إنها تدل على تدخل الله. ونتيجة هذا التدخل نجدها في أفعال ترد في صيغة المصدر: رحمة منه، ذكراً لعهده (آ72)، لإعطائنا (بأن يعطينا) (آ73)، لخدمته (حتى نخدمه، نعبده) (آ74).

أما في القسم الثاني فنجد أفعالاً في صيغة المضارع وهي تدل عل المستقبل الذي يعرفه هذا الطفل. نحن أمام نظرة إلى الوراء. فقد كتب الانجيل بعد موت يوحنا بسنين عدة. فقُرئ حدثه على أنه السابق ليسوع المسيح: " ستدعى، ستسير قدام الرب" (تتقدم)(آ76). ثم في صيغة المصدر أيضاً : لتهيئة (آ76)، لإعطاء المعرفة (التعلم)(آ77) ، ليضيء ، ليهدي (آ79). نشير إلى أن لوقا أشار بنفسه إلى تقسيم هذا النشيد قسمين وذلك في(64و67). نقرأ في آ64: " تكلم وبارك الله". وهكذا حمل القسم الأول (آ68-75) "موضوع المباركة ". ونقرأ في آ67: " إمتلأ زكريا من الروح القدس وقال هذه الأقوال النبوية "، تكلم باسم الله الذي دعا يوحنا وهو في حشا أمّه. ولهذا جاء القسم الثاني يحدثنا عن" نبوءة زكريا".

إن التركيز على الغفران والخلاص والرحمة غير مستغرب عند لوقا، فالرحمة تشكل الصفة الرئيسية لله عنده: إحياء وحيد الأرملة في نائين (لو7/13) ، والسامري والابن الضال..الخ. فيسوع عند لوقا هو المسيح حقاً، هو حامل الخلاص، وهو المحرر من الظلمة وظلال الموت.

في هذا النشيد تظهر رحمة الله لزكريا وامرأته أليصابات حيث أنهما طعنا في السن ولم يرزقا ولداً، وهذا بالنسبة إلى اليهود عار. فمولد يوحنا هو كرامة استرجعت، وهو تعبير عن حنان الله. حدث مولد يوحنا يعبّر عن إظهار الرحمة، لا فقط لزكريا وأليصابات، بل للعالم أجمع، حيث يوجّه لوقا الأنظار، من خلال مولد يوحنا، إلى يسوع الذي هو المسيح المخلص. هذا النشيد هو تذكير بأعمال الله وبتدخلاته الخلاصية في حياة شعبه المختار؛ فالقديس لوقا يعرض، من خلال هذا النص، تاريخ اسرائيل، مما يعني أن كل حديث عن هذا النص لايكتمل إلا بالرجوع إلى الزمن الذي فيه ظهرت أعمال الله لشعبه، أي زمن الآباء الذين معهم صنع الرب الرحمة وأقام عهوده وأعطى مواعيده. الله هو نفسه الذي صنع الخلاص لآبائنا هو نفسه ينقذنا، هكذا أراد أن يقول زكريا في نشيده وهذا ما سيوضحه لوقا، لكي ينتقل من زمن اسرائيل إلى زمن يسوع المسيح، كمال العهد ومحققه، ثم ليصل إلى زمن الكنيسة، وهذا ما نراه في أعمال الرسل[2] .

فحوى هذا النشيد نجده في آية واحدة تتوسطه وتعبّر عنه بإسهاب وهي الآية 72 :

"أظهر رحمته لآبائنا وذكر عهده المقدس"،
لذلك سأتكلم عن هذه الآية، وسأحاول أن أوضح معاني الكلمات التي تحملها، من خلال التصميم التالي:

الفصل الأول: الله والآباء

1- اختيار الآباء واختبارهم
أ- الله يختار ابراهيم ويختبره
ب- دعوة موسى

ج- اختبار شعب الله

2- رحمة الله

一- نجدة البائسين

ب- خلاص الخطأة
ج- رحمة شاملة

الفصل الثاني: تذكر العهد

1- العهد في قصد الله

أ- الله يحب شعب اسرائيل

ب- تحقيق القسم

ج- إعطاء البركة

2- الله يتذكر عهده

أ- الله لا ينسى

ب-الإنسان لا يتذكر

ج-العبادة (إيقاظ ذكرى العهد)

الفصل الثالث: العهد المقدس بيسوع المسيح

1-الله القدوس
أ- الله يظهر قداسته
ب- قداسة الإنسان

2-يسوع المسيح محقق العهد المقدس

一- يسوع المسيح رحمة الله المتجسدة

二- الخلاص بيسوع المسيح

- خاتمة




الفصل الأول: الله والآباء
1- اختيار الآباء واختبارهم:

كلمة "أب" أطلقت في العهد القديم على من هو رأس العائلة وتعترف به الزوجة كسيد، "باعال" (تك20/ 3)، وهو رب "آدون" (18/12)، وعليه تقوم مهمة تربية الأولاد (سي30/1-13) ، وعقد الزيجات (تك24/2-3، 28/1-2)، والتحكم في مصير البنات (خر21/7)، بل نراه قديماً يتصرف في حياة الأبناء نفسها (تك38/24، 42/37). فهو يجسد العائلة بأجمعها محققاً وحدتها (تك32/11)، فنسمي حينئذ "بيت آب" أي البيت الأبوي (24/19). في نظام الملكية اعتبر الملك "أباً" للأمة (اش 9/5)، وكان يُطْلَقُ على الكهنة (قض 17/10؛ 18/19)، وعلى المستشارين الملكيين (تك 45/28؛ أس3/13؛ 8/12)، وعلى الأنبياء (2 مل 2/12)... ويتفرع عن الأب "سلالة"، فيُعتبر هو أصلها، فإنه بإنجاب البنين يخلد ذاته ويساهم في بقاء جنسه، مع ضمان حفظ التراث العائلي لورثة من صلبه (تك5/2-3). يحمل الآباء مسبقاً مستقبل الجنس البشري: فكما أن لعنة ابن حام تتضمن خضوع الكنعانيين لأولاد سام، كذلك يجد اسرائيل سر عظمته في اختيار الله له[3] .

أ- الله يختار ابراهيم ويختبره:
يحتل ابراهيم – كأب للشعب المختار- مركزاً ممتازاً في تاريخ الخلاص. فدعوته ليست مجرد نقطة البداية في تدبير الله. لكنها أيضاً تحدد الاتجاهات الأساسية لهذا التدبير. تسير حياة ابراهيم كلها في ظل مبادرة الله الحرة. يتدخل الله أولاً، فيختار ابراهيم من عائلة كانت" تعبد آلهة أخرى" (يش 24/2). و"يخرج به" من أور (الكلدانيين؛ تك11/31)، ويقوده بطرقه الخاصة إلى بلد مجهول (عب 11/8). وهذه المبادرة هي مبادرة محبة؛ فمنذ البداية يُظهر الله لابراهيم كَرَمَاً لا حدّ له، وتبشر دعوته بمستقبل زاهر. والعبارة التي تتردد مراراً هي : " إنني أعطي "؛ يعطي الله ابراهيم أرضاً (تك 12/7؛ 13/15-17؛ 15/18؛ 17/8) ويباركه، ويكثر نسله إلى أقصى حد (12/2؛ 16/10؛ 22/17). وفي الحقيقة تبدو الظروف معاكسة لهذه الآمال : فإبراهيم من أهل البادية، وسارة تخطت سنّ الإنجاب، ورغم هذا تتجلى مجانية وعود الله بشكل أفضل، أي أن الله صنع خلاصاً لابراهيم بابنه اسحق. فمستقبل ابراهيم كان يتوقف كله على قدرة الله وجودته، لأن ليس عنده نسل أو سلالة تنحدر منه لتخلد ذكره؛ وهكذا يوجز ابراهيم في شخصه حياة شعب الله المختار بدون أي استحقاق سابق؛ وكل ما كان مطلوباً منه قبل كل شيء إيمان يقظ وبطولي، وقبول تدبير الله بدون تحفظ.
هذا الإيمان كان بحاجة إلى تطهير وتقوية بالشدائد. لقد اختبر الله ابراهيم فطلب منه أن يقدم كذبيحة ابنه اسحق ، الذي كان عليه بالذات يتوقف الوعد ( تك22/1-2). "ولم يرفض ابراهيم تقدمة ابنه وحيده" (22/12 و16) ، لكن الله هو الذي حفظ اسحق، وعني بنفسه على تدبير حمل للمحرقة (22/8؛ 13-14) . وهكذا تتضح تقوى ابراهيم العميقة ومخافته لله (22/12) . الله يعطيه وعداً به تتبارك وفي نسله جميع أمم الأرض (22/18)، فالله "يحلف لابراهيم أن كل الأمم سيباركون في نسله" (سي44/22؛ تك22/18)؛ فكانت وعود الله لابراهيم موجهة إلى نسله ايضاً (تك 13/15؛ 17/7-8)، الذي يحدده الاختيار الالهي، لم يقطع الله عهداً مع اسماعيل ولا بعد ذلك مع عيسو، بل مع اسحق ويعقوب (17/15-22؛ 21/8-14) وقد حدد الله وعوده لهما (26/3-5؛ 28/13-14) وهما بدورهما نقلا هذه البركة كميراث لذريتهما (28/4؛ 48/15-16؛ 5/24)[4] .

ب- دعوة موسى:
يقبل موسى دعوة الله الذي أظهر له نفسه وأعلن اسمه وقصده للخلاص وعلمه رسالته ومنحه القوة اللازمة لإتمامها (خر3/1-15)، وأنه سيكون معه (3/12)، رغم ان موسى حاول أن يتنصل: "من أنا؟ " (3/11)؛ لكن الله أعلن له أنه الأكثر أمانة من بين جميع عبيده (12/2-8)، وعامله كصديق (33/11). ونال موسى نعمة فريدة، ألا وهي إعلان اسم الله إن لم يكن إعلان مجده (33/17-23). وبحديثه معه من وسط الغمام يعتمده الله قائداً لشعبه (19/9؛ 33/8-10).

يقوم دور موسى النبوي على المحافظة على العهد، وتهذيب الشعب المتمرد (هو12/14)، ويتشفع من أجل شعبه، ويتضامن معه وهو يستحق كل إعجاب بممارسة دوره كشفيع[5].



ج- اختبار شعب الله:

بدأ اسرائيل يعي اختيار الله له، وذلك بعهد يعقده معه. ففي مرحلة اولى يُدعى الإنسان إلى الالتزام تجاه الوعد فيحدث اختبار لإيمانه، كما حصل لابراهيم ويوسف وموسى ويشوع (عب11/1-40؛ سي44؛ 2،1مك2/52).. وتشكل ذبيحة اسحق دون شك الاختبار الأمثل (تك22)؛ فلكي يصل الله بالوعد إلى تمامه، يجب على الإنسان أن يعبر عن إيمانه بطاعة حرة تقوم بتطابق الارادتين[6]. ويمر اسرائيل، بعد خروجه من مصر، بتجربة عدم الإيمان : إنه شك في حضور الله الخلاصي أثناء محنته في البرية (خر17/7)، وهذا الرفض للإيمان يحاكم اسرائيل عليه، فلا يكتمل الفصح إلا للنسل المؤمن، وهو وحده الذي يرث أرض الميعاد.

يبت الله عهداً مع هذا الجمع الذي كوّن منه شعباً. تلك هي المرحلة الثانية التي تم فيها اختبار أمانة الشعب للعهد، ويمكن تسميتها: "اختبار المحبة". لقد اختار الشعب أن يخدم إلهه (يش24/18)، لكن لا يزال قلبه منقسماً. فللاختبار فوائده، إذ إنه يُلزم الشعب بإعلان محبته لله وإثباتها بالفعل، ويعمل على تنقية القلب من كل شوائبه. فترة الاختبار هذه لم تكن كلها تثير موضوع الإيمان بكلمة الله أو الأمانة نحو العهد، بقدر ما طرحت موضوع تنفيذ الوعد الالهي نفسه.

إن اختبار الشعب الاسرائيلي يعتمد بكليته على الاختيار الالهي له، حيث يهدف هذا الاختيارإلى تكوين شعب مقدس، مكرّس للرب، مرتفع "فوق جميع الأمم للتسبيح والذكر والمجد" (تث 26/19)، لينشر بين الشعوب عظمة الرب وسخاءَه؛ وهذا الاختيار يضع علاقة حميمة بين الله وشعبه: "أنتم بنو الرب" ( 14/1)، مما يجعل الشعب يقيس تصرفاته وحياته كلها على مقدار محبة الله له ومدى اهتمامه به [7].



2- رحمة الله:

تقع " الرحمة " في ملتقى تيارين من الفكر هما: الرأفة والأمانة . فيعبر اللفظ الأول "الرأفة" بالعبرية (رَاحامِيم) عن الارتباط الغريزي الكائن بكائن آخر، ويتمركز هذا الاحساس، بحسب العقلية السامية، في بطن الأم (ريحيم؛ 1 مل 3/26)، وأحشاء(راحاميم)، قد نقول قلب الأب (إر31/20؛ مز103/13) أو الاخ (تك43/30). وهو الحنان الذي يظهر تلقائياً في التصرف من ابداء الشفقة بمناسبة حادث أليم (مز106/45)، أو الصفح عن الاهانة (دانيال9/9). أما الكلمة العبرية الثانية " حِسِدْ " فتترجم في اليونانية eleos ، وتعني هي الأخرى الرحمة ولكنها تشير إلى "التقوى" أي العلاقة الروحية التي تربط كائنين معاً، وتتضمن الأمانة. وبذلك تتخذ الرحمة أساساً راسخاً فلا تعود بعد مجرد طيبة غريزية قد يخطئها التوفيق في شأن موضوعها أو مضمونها، بل تظل طيبة واعية ومقصودة، هي استجابة لالتزام داخلي، فهي إذاً أمانة نحو الذات. والترجمة لهذه الألفاظ العبرية واليونانية ، في اللغات الحديثة، تتراوح بين الرحمة والمحبة، مجتازة معان مختلفة: الحنان، الشفقة، الرأفة، الحلم، والطيبة ، بل حتى النعمة وإن كان هذا اللفظ يتضمن مفهوماً أوسع. بالرغم من هذا التنوع نستطيع أن نحيط بمفهوم الرحمة في الكتاب المقدس حيث أنه من البداية حتى النهاية تظهر رحمة الله وحنانه تجاه الشقاء البشري [8].



أ- نجدة البائسين:

نرى في الكتاب المقدس أمثالاً عديدة لرحمة الله وخاصة لنجدته للإنسان؛ فلا يتوقف مرنم المزامير عن إطلاق صراخ النجدة "ارحمني يا الله" (مز 4/2؛ 6/3؛ 9/14؛ 25/16)، ولا يصرخ طالباً النجدة إلا من يعلم أن من يصرخ له رحوم ويستطيع أن يرحمه. إنها تنطلق من العلاقة بين شخصين فيعتذر الواحد من الآخر طالباً رحمته، خاصة عندما يخطئ له. ولا يتوقف الله عن ابداء هذه الرحمة نحو الصارخين إليه في ضيقاتهم، كما أنه يبدي رحمته لسائر "بني آدم" أياً كانوا وهو يظهر نفسه، في الواقع، المدافع عن المسكين والأرملة واليتيم ... فهو يشملهم بعطف خاص .

إن الخروج من مصر هو بنظر رجال اسرائيل الأتقياء من أعمال الرحمة الالهية، مع أنه لاترد في سرد القصة كلمة "رحمة" . والروايات الأولى بشأن دعوة الله لموسى توحي بذلك بوضوح: "إني قد نظرت إلى مذلة شعبي... وسمعت صراخهم... وعلمت بكربهم... فنزلت لأنقذهم" (خر 3/7-8 و16-17). وفيما بعد، سوف يفسر التقليد الكهنوتي قرار الله بأمانته للعهد (آ6-5)، فالله في رحمته، لا يحتمل مذلة شعبه المختار، وكأنه إذ دخل في عهد مع اسرائيل، جعله كائناً من جنسه (أع 17/28-29)، إذ هو يرتبط به إلى الأبد بحنان فطري .



ب- خلاص الخطأة:

رغم أن الشعب ابتعد وانفصل عن الله بخطيئته، إلا أن الله، برحمته، سيخلصه. فهو يرغب في أن يخلص الخاطئ... هذا الإعلان نجده على جبل سيناء حيث سمع موسى الله يكشف عن عمق ذاته، بعد جحود الشعب المختار مباشرة، يؤكد الله، أنه حر في أن يرحم من يشاء (خر33/19). ويعلن بأنه، دون مساس بقداسته، يستطيع حنانه الالهي أن يتغلب على الخطيئة " الرب إله رحوم، حنون طويل الأناة، كثير المراحم والوفاء، يحفظ الرحمة لألوف، ويغفر الذنب والمعصية والخطيئة ولا يتزكى أمامه الخاطئ ويفتقد ذنوب الآباء حتى الجيل الثالث والرابع" (خر34/6-7)؛ سوف يلقي اختبار الأنبياء على هذا التاريخ، تاريخ شعب الله، نبرات ذات طابع إنساني رفيع، فيعلن هوشع أنه رغم أن الله قرر ألا يعود يرحم اسرائيل بعد (هو1/6)، وأن يعاقبهم، إلا أنه " يتغلب فيه فؤاده وتضطرم مراحمه "، فيعتزم ألا يدع غضبه يتفاقم (11/8-9). وعليه فإن هذه العروس الخائنة سوف تدعى من جديد "مرحومة "رُحَمَهْ "، أي أنها نالت الرحمة (2/23). ويقول الله: "أليس أفرائيم ابناً لي عزيزاً، ولداً يلذ لي؟. فإني منذ كلمته لم أزل أتذكره، فلذلك حنّت أحشائي إليه وإني سأرحمه رحمةً" (أر 31/20؛ اش 49/14-15؛ 54/7). الله يرحم الخاطئ لكي يتوب ويعود إليه.



ج- رحمة شاملة:

لا يحد الرحمة الالهية سوى قساوة قلب الخاطئ (اش9/16؛ ار16/5 و13).. الشعب الاسرائيلي كان يعتبر أن الرحمة هي وقف عليه وحده، ولكن الله ، بسخائه المذهل، بدد أخيراً هذه البقية من التفكير البشري الضيق (هو11/9) ، ويصرح كتاب يشوع بن سيراخ بوضوح : " رحمة الإنسان لقريبه، أما رحمة الله فلكل ذي جسد " (18/13)[9].


الفصل الثاني: تذكر العهد

1- العهد في قصد الله:

قبل أن يختص العهد "بريت" بعلاقات البشر مع الله، فهو يرجع إلى اختبارالبشر في علاقاتهم الاجتماعية والشرعية. يرتبط الناس بعضهم ببعض بوثائق وعقود تتضمن حقوقاً والتزامات عادة تكون متبادلة, فهناك اتفاقات بين جماعات أو بين أفراد على قدم المساواة يريدون مساعدة بعضهم بعضاً. وهناك معاهدات يعد فيها القوي بحماية الضعيف، بينما يتعهد الضعيف بخدمته؛ ويتم الاتفاق طبقاً لمراسيم مقررة في العرف الجاري، فيرتبط الطرفان بقَسَم: تُشطر الحيوانات إلى شطرين، يجتاز المتعاقدان بين الشطرين، مستنزلين اللعنات على كل من يخالف شروط المعاهدة (ار34/18)، وأخيراً يقيمون نصباً تذكارياً يكون شاهداً على إتمام الاتفاقية. ذلك هو الاختبار الأساسي والمنطلق الذي بموجبه يصوّر بنو اسرائيل علاقاتهم مع الله الذي يريد أن يقود كل البشر نحو حياة الشركة معه وهذه الفكرة الأساسية بالنسبة لعقيدة الخلاص هي المتضمنة في مفهوم العهد.



أ- الله يحب شعب اسرائيل:

منذ رؤية العليقة المشتعلة بالنار، أعلن يهوه لموسى، في نفس الوقت، اسمه ومقاصده بالنسبة لاسرائيل : إنه يريد تحرير اسرائيل من مصر، ليقيمهم في أرض كنعان (خر 3/7-10 و16-17). إن بني اسرائيل هم "شعبه" (3/10) وهو يريد أن يعطيهم الأرض التي وعد بها آباءهم (تك12/7، 13/15) وهذا يعني أن الله جعل من بني اسرائيل موضع اختياره، مؤتمناً إياه على وعده ويأتي "الخروج" بعد ذلك لتأييد وعد حوريب: فإن الله يحرر شعبه فعلاً، ويريدهم أن يمتثلوا لأوامره ويحفظون عهده، فإنهم يكونون له خاصة من جميع الشعوب، لأن جميع الأرض له ويكونون له مملكة أحبار وشعباً مقدساً (خر19/5-6). تؤكد هذه العبارات مجانية الله وبالتالي حبه لهذا الشعب "خاصته"، فهو فرزهم عن الأمم الوثنية ليحفظهم لنفسه دون سواه، سيكون بنو اسرائيل شعبه الخاص ويقومون بعبادته ويصيرون مملكة خاصة له.. مقابل ذلك يضمن لهم يهوه عونه وحمايته. ألم يكن قد سبق أثناء الخروج أن " حملهم على أجنحة النسور، وأتى بهم إليه؟ " (خر19/4). الله يعطي عهده ويبرمه مع اسرائيل لأنه يحبه وبالتالي يحب له الحياة، فالعهد يعني الحياة والبركة[10].

ب- تحقيق القَسَم:

ولأنه يحبهم يريد المحافظة على اليمين التي أقسم بها لآبائهم (تث7/6-8). فالقَسَم هو إثبات أو وعد يشهد به اسم الله على صدق مايقال أو على إنجازه إن كان القول وعداً.. وهناك اشارة إلى العقوبات الالهية التي يُقبل التعرض لها في حال الكذب، من هنا نرى أن الله أقسم لابراهيم بأن ينجيه من أيدي الأعداء.. وهذا القسم مرتبط بالوعد المعطى لابراهيم بنسل وأرض. ونرى الله يقول لاسحق: " أقِم في هذه الأرض فأنا أكون معك وأباركك وأعطي هذه الأرض لك ولنسلك، وأفي بالقَسَم الذي أقسمته لابراهيم أبيك". يرد فعل "أقَسَم" مراراً في سفر التثنية وهو مرتبط بالوعد بأرض تعطى للشعب، وهذا واضح بصورة خاصة في تث 6-7، حيث نجد أفكاراً ومفردات عند لوقا (1/72-75): القسم للآباء، الخلاص من الأعداء، " فالرب الهك تخاف وإياه تعبد.. تعمل ماهو حق وصالح أمام الرب الهك لتكون سعيداً وتملك الأرض التي أقسم الله لك بأن يطرد منها جميع أعداءك من أمام وجهك" (تث 6/13، 18-19). هذا القسم الذي يلقيه الله في مختلف المواقع والظروف في الكتاب المقدس يذكرنا بأنه أمين، فالقسم يجب أن يحمل معنى الأمانة[11].



ج- إعطاء البركة:

البركة هي عطية تتعلق بالحياة، ولا تحمل معنى الشر بل الخير لأن الخير الذي تأتي به ليس شيئاً محدداً وليس عطية معينة، فتنطوي هذه الكلمة في معنى "هدية" على نوع دقيق بالغ الوضوح من اللقاء بين إنسان وآخر.. فالهدايا المقدمة من ابيجائيل لداود (1 صم25/4-27)، ومن داود لرجال يهوذا (30/26-31)، ومن نعمان بعد شفائه إلى أليشاع (2 مل 5/15)، ومن يعقوب لعيسو (تك33/11)، تهدف جميعها إلى ترسيخ وحد أو مصالحة.إلا أن البركة أخذت تعبر عن عطية الله وسخائه (أم 10/6 و22؛ سي 33/17)، ودوماً تذكر بصورة عطف الله والبركة يكمن غناها في غنى الخصوبة والحياة. إن البركة تُزهر (سي11/22)، والأب هو مصدر الحياة، بعد الله، ولديه القدرة على أن يبارك وبركته فعالة أكثر من أية بركة أخرى، كما أن لعنته رهيبة (3/8).

إن تاريخ اسرائيل هو تاريخ البركة التي وُعد بها ابراهيم (تك 12/3) والممنوحة للعالم في يسوع "الثمرة المباركة"، "لبطن مريم المبارك" (لو1/42). على أن الاهتمام الموجه في كتابات العهد القديم إلى البركة، يشتمل على العديد من الفروقات البسيطة، بحيث تتضمن البركة معاني شتى، ولكن مايهمنا هنا هو ارتباط البركة بالعهد: ففي كل عهد هناك وصية وهذه الرابطة بين البركة والوصية هي أصل العهد ذاته، فالشريعة هي وسيلة لتوفير الحياة لشعب "مقدس لله" وبالتالي "مبارك من الله"، وهذا ما تعبر عنه رتب العهد، فالعبادة هي، طبقاً للعقلية الدينية وقتذاك، الوسيلة المفضلة لضمان توفر البركة الالهية، ولا تكون العبادة صحيحة إلا في إطار العهد والأمانة للشريعة[12] .



2- الله يتذكر عهده:

ما يهمنا في الكلام عن التذكر هو المعنى الدينى وعن دوره في العلاقة مع الله. يذكر الكتاب المقدس تذكر الله للإنسان وتذكر الإنسان لله، فكل تذكر متبادل يفترض بعض الأحداث الماضية التي كانت خلال علاقة الواحد بالآخر، وهو يرمي، باسترجاع تلك الأحداث، إلى تجديد تلك العلاقة.

إن الذاكرة في الكتاب المقدس ترجع إلى لقاءات قد حدثت في الماضي، أُقيم خلالها العهد. إنها باسترجاعها لتلك الأحداث الأولية، تُقوّي العهد، وتقودنا إلى أن نحيا " اليوم الحاضر" بكثافة الحضور النابع من العهد. فالتذكار هنا مناسب للغاية، بحيث إنه يتعلق بأحداث ذات طابع ممتاز، كانت تقرر للمستقبل وكانت تتضمنه مسبقاً. والتذكار الأمين للماضي هو وحده يستطيع أن يكفل توجيه المستقبل توجيهاً صحيحاً.



أ- الله لا ينسى:

إنطلاقاً مما سبق نتبين أن هناك علامات من خلالها يتذكر الله الإنسان. فحدث الخلق مثلاً يجعل من الإنسان تلك العلامة المميزة لدى الله، إنه صورته ولذا يستطيع أن يتذكره. إن عهود الله المتتابعة مع الإنسان، (نوح، ابراهيم، موسى، داود)، قد صدرت عن ذاكرة الله، عندئذ تذكر ووعد بأن يتذكر (تك8/1؛ 9/15-17؛ خر2/24؛ 2صم7)، لكي يخلص (تك19/29؛ خر6/5). لايتوقف صاحب المزامير عن الإشادة بتذكر الله لبنيه، فالله " ذكرهم ولم ينسى صراخ الوضعاء" (مز9/12)، "ذكر أنهم بشر، ريح"(مز78/39)، "ذكر رحمته وأمانته" (98/3)، "ذكر إلى الدهر عهده" (105/8)، والله لا ينسى عهداً أو ميثاقاً أبرمه مع شعبه: "إني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد... وتكون قوس الغمام حتى إذا رأيتُها ذكرتُ العهد الأبدي بين الله وكل نفس حية من كل ذي جسد على الأرض" (تك9/15-16). فالرب يذكر كلمة قدسه (مز105/42) ويعترف الإنسان أن الله ذكره في مذلته (مز136/23). الله لا يريد أن يتذكر خطايا الإنسان (عب8/12) [13].

إن بشارة زكريا بمولد يوحنا، النبي السابق المسيح، مرتبطة ارتباطاً صميمياً بافتقاد الله لشعبه، وهي علامة لتذكره وعدم نسيانه لشعبه؛ هذا الافتقاد يصبح هو نفسه افتقاد المسيح، بمعنى أن مسيرة الفداء المسيحاني قد بدأت تتحقق[14]. هذا التذكر مرتبط أيضاً بالقَسَم الذي أقسمه الله لابراهيم (آ73)، فالله لا ينسى عهده وبالتالي لا ينسى الإنسان المُقام لأجله هذا العهد[15] .



ب- الإنسان لا يتذكر:

بالرغم من تحذيرات كتاب التثنية (4/9؛ 8/11؛ 9/7): "احذر أن تنسى الرب إلهك.. تذكره.."، ينسى الشعب إلهه، وتلك هي خطيئته (قض 8/34؛ ار2/13؛ هو2/15)، هذه العروس لم تذكر عاقبتها ولم تعي في قلبها أنها تكون سيدة إلى الأبد (اش47/7)، ولم تذكر الرب ولم تبالي به (اش 57/11)، في حين أن الله يطلب من شعبه ألا يذكر اسم آلهة أخرى غيره (خر 23/13)، يعود الشعب وينسى الله (ار18/15). و" قد نسي اسرائيل صانعه" (هو8/14)، و" نسوا الرب إلههم " ( 1 صم12/9)، ونسوا أفعاله (مز78/11؛ 106/13).

الإنسان يطلب من الله ألا ينساه بل أن يتذكره دائماً.. عندما يكون بحاجة إلى معونة أو رحمة يطلب الإنسان تذكر الله له وعدم نسيانه، في حين أيضاً يطلب الرب من الإنسان ألا ينسى شريعته (أم 3/1). يحاول الإنسان أن يتذكر الله :" باركي يانفسي الرب ولا تنسي كل حسناته" (مز103/2)، "ولم أنسى شريعتك" (119/153). تبقى المفارقة متراوحة بين تذكر الله ونسيان الإنسان، ونسيان الله – من جراء خطيئة الإنسان وتأتي هنا بمعنى "ترك"- وتذكر الإنسان؛ تذكر الله فيه افتقاد لحال الإنسان وخلاص في نفس الوقت، وتكميل العهد والاستمرارية في تنفيذه لا تعتمد على تذكر الإنسان، بل على محبة الله المجانية له.



ج- العبادة (إيقاظ ذكرى العهد):

في جميع الديانات تقيم العبادة علاقة بين الإنسان والله وبحسب الكتاب المقدس ترجع بادرة هذه العلاقة إلى الله الحي الذي يعلن ذاته. وكجواب لهذا الإعلان يسجد الإنسان لله في عبادة طقسية تتخذ صيغة جماعية، ولا تقتصر هذه العبادة على التعبير عن حاجة الإنسان للخالق بمقدار ما هي فعل إيمان وتأكيد على الإيمان؛ فإن الله قد اختار شعباً ينبغي أن يخدمه، وبهذا يصير شاهداً له وبالتالي ينبغي لهذا الشعب أن يقوم بمهمته بتقديم عبادة لله .( وكلمة عبادة باللغة العبرية مشتقة من الأصل "عبد" الذي يعني "خدم").

إن عبادة اسرائيل تتدرج في الروحانية بقدر وعيه للطابع الباطني لمطالب العهد، تحت تأثير الأنبياء. فأمانة القلب هي الشرط للعبادة الأصيلة، والدليل على أن ليس لاسرائيل إله آخر غير الرب (خر 20/2 و3). وقد سبق صموئيل مؤكداً أن الله يرذل عبادة العاصين (1 صم15/22)، وعاموس واشعيا يكرران ذلك بشدة ( عا 5/21-26؛ اش 1/11-20؛ 29/13)، ويعلن ارميا النبي في وسط الهيكل بطلان العبادة التي تقام فيه، مندداً بفساد القلوب (7/4-15 و21-23) ويتنبأ حزقيال النبي/الكاهن عن خراب الهيكل الذي دنسته عبادة الأصنام (37/26-27) .

إن العبادة تشمل أيضاً وجهاً تذكارياً بإيقاظ "ذكرى العهد"، فهذه العبارة المحببة في التقليد الكهنوتي، توضح بجلاء أن الله يتذكر شعبه وأن الشعب يتذكر إلهه في طقوس العبادة الدورية (الأعياد والسبوت)، وحسب المكان والزمان. فبالصلاة، التي تأسست على أحداث خلاصية، تصبح العبادة أمراً أو حدثاً يُذكّر الإنسان بالله ويذكر الله بالإنسان. فيها يذكر الإنسان كل أعمال الله في الماضي ويطلب منه صنعها في الحاضر، والعبادة تقوم على بعض الشرائع والوصايا، والطاعة لهذه الشرائع هي التعبير الأصلي عن هذا التذكر الذي يقوم على "حفظ طرق الرب" (مز119؛ حك 6/18؛ اش20/8). زكريا يوقظ ذكرى العهد هذه بعبادته وفي وقت خدمته، فيصرخ لله والله يسمع صراخه ويستجيبه، أمانة منه لعهده، وجاعلاً من تدخله في حياة زكريا، تدخلاً خلاصياً يشمل العالم كله، إنه زمن التهيئة لمجيء المسيح الرب، والذي يُعد لهذا المجيء هو يوحنا المعمدان، فبولادته انبعث الفرح والابتهاج في الخلاص، إنه يضع حداً لزمن الوعد ويعلن الزمن الجديد، زمن الخلاص ويبدأ بتجديد العهد، إذ أنه يصالح الآباء مع البنين والبنين مع الآباء، وبهذا يهيء الطريق أمام الرب، لئلا يأتي ويلقي اللعنة على الأرض (ملا 3/ 1؛ 24)، سيجتمع الناس في شعب واحد، وهذا الشعب الواحد سيتحد بالله [16].


الفصل الثالث: العهد المقدس بيسوع المسيح

1- الله القدوس:

لا يوجد في الكتاب المقدس بحث خاص عن الله، لأن الله يدعونا إلى الإصغاء إليه وهو الذي يتكلم إلينا. ويُظهر نفسه وقد أظهرها وكشف عن ذاته. وتبرز بوضوح شخصيته وانفعالاته ومقاصده لنا حسب ما أظهرها هو.. ففي العهد القديم عرف الشعب الله من خلال أعماله وما صنع له: هو الذي خلقه وخلصه وأعطاه وعوده وميراثه وأقام معه عهوده، وهو الذي يضمن لهم الحياة والحماية فهو الأب الحنون (هو 11/1)، وهو الأم (اش49/15)[17] .


أ- الله يُظهر قداسته:

يظهر الله قدوساً بإعلان ذاته وبإعلان مجده. وإنه يكشف عن قداسته في عمل الخلق وفي مختلف ظهوراته: في الكوارث والتجارب التي يسمح بها، وفي التأديبات التي ينزلها بشعبه (عد 20/1-13؛ حز38/21-23)، كما أن قداسته تظهر أيضاً في الحماية العجيبة لشعبه وإنفاذه في الظروف الميئوس منها (حز28/25-26). أعلنت قداسة يهوه أولاً خلال الجليات العظيمة في طور سيناء (خر19/3-20)، وقد ظهرت كقوة مريعة وخفية في آن معاً، فهي تستطيع أن تُهلك كل من يقترب منها (1 صم 6/19-20). ولكنها أيضاً قادرة أن تبارك من يقبلون إلى التابوت حيث يقيم (2صم 6/7-11)، فهي إذاً لا تتوحد مع التسامي أو الغضب الالهي مادامت تظهر على السواء في المحبة وفي المغفرة :" لا أنفذ وغر غضبي.. لأني أنا الله، لا إنسان، وفيك قديس[18] " (هو11/9). وفي الهيكل يتجلى يهوه لاشعيا كملك ذي جلال لا نهائي وبصفته الخالق الذي يملأ الأرض كلها بمجده، فهو موضع عبادة لا يستطيع أداءها إلا السرافون، غير أنهم هم أيضاً، لايحوزون على القداسة الكافية التي تمكنهم من مشاهدة وجهه ولا يستطيع الإنسان أن يراه ويعيش (اش 6/1-5؛ خر33/18-23). ومع ذلك فهذا الإله البعيد المنال يتجاوز المسافة التي تفصله عن مخلوقاته: هو "قدوس اسرائيل" ويغدوا لهذا الشعب الذي اتحد معه بالعهد (اش 10/20؛ 17/7؛ 41/14-20)، فرحاً وقوة وسنداً وخلاصاً وفداء. إذاً فليست القداسة الالهية عبارة عن انفصال وسمو فحسب بل هي تتضمن كل ما يملكه الله من غنى وحياة ومن قدرة وجودة، والقداسة هي الصفة الأساسية التي تميز الله نفسه ولذا فاسمه قدوس (مز33/21؛ عا 2/7؛ خر3/14) . والله يُظهر مقاصده في ساعة مقدسة مثلما فعل مع زكريا، فالمكان مقدس بوجود قدس الأقداس بداخله، الذي هو علامة حضور الله بين شعبه، وهذا الحضور يقدس الإنسان .



ب- قداسة الإنسان:

يرغب الله في أن يعترف الإنسان بقداسته وأن يعتبره الإله الواحد والحقيقي، لذا يحدد له شرائع ومراسيم خاصة بالذبائح (لا 1/7)، وشروط الطهارة الواجبة للعبادة (12/2-8)، كما أنه يُحتِّم ألا يُمتَهن اسمه القدوس (22/32)، فذلك لأن الاحتفال اللائق بشعائر الطقس يبرز مجده ويعلن جلاله، ويجب أن تعبر هذه العبادة عن الطاعة والإيمان العميق والتسبيح الشخصي، ففي هذا تقوم مخافة الله وتقديسه (اشعيا 8/13).

إذ اختار الله اسرائيل وفرزه من بين الأمم أصبح هذا الشعب ميراثه الخاص، مملكة أحبار و"شعباً مقدساً" بحب فائق الوصف، يحيا الله ويسير وسط شعبه (خر33/12-17)؛ يظهر له عن طريق الغمام وتابوت العهد والهيكل، أو بوجه أبسط، عن طريق مجده الذي يصحبه خلال فترة السبي (حز1/1-28)، وحضور الله هذا الفعال يسبغ على الشعب لا قداسة طقسية فقط بل كرامة حقيقية تفرض عليه القداسة الأدبية ولكي يقدس الشعب يعلن يهوه الشريعة (لا 22/31-33). وهنا يجب على اسرائيل أن يقدس نفسه باستجابته لدعوة الله له، فيجب أن يُطهّر نفسه ويعيش القداسة فعلاً وفق الظروف العديدة العائلية والاجتماعية والاقتصادية، لأن الله قال : "كونوا قديسين لأني أنا يهوه قدوس" (لا 19/2، 20/26)؛ ونرى بشارة زكريا تظهر في جوٍّ من القداسة، فيوحنا يقف على عتبة زمن الخلاص، إنه " فجر" التقديس الآتي في شخص يسوع؛ والداه باران أمام الله، فالقداسة هي الخضوع لله ولطريقه في حياتنا[19] .



2- يسوع المسيح محقق العهد المقدس:

نستطيع أن نتكلم عن يسوع المسيح إلى ما لا نهاية لذلك أكتفي بتقديم القديس لوقا لسر يسوع، وهذا سيساعدنا على ولوج الهدف الذي نصبوا إليه من موضوعنا هذا.

يبدي القديس لوقا في كتاب أعمال الرسل اهتماماً خاصاً بالكنيسة، ومع ذلك، فهو يعطي ثباتاً وصلابةً لزمن يسوع الذي يقوم في فترة مابين عهد النبوات وزمن ميلاد الكنيسة (لو16/16؛ 22/35-38؛ أع 2/1). وتأخذ حياة يسوع قيمة خاصة في الزمن الكنسي، فهي المرحلة الأولى في تحقيق قصد الله في الكنيسة ولها قيمة المثال الذي سترتكز عليه الكنيسة باستمرار في تاريخها اللاحق: فهي حادث ماضٍ يبقى حاضراً إلى الأبد. ومن جهة أخرى فصورة المسيح عند لوقا هي بصيغة خاصة صورة "المخلص الرحيم" (لو3/6؛ 9/38 و42؛ أع 10/38)، الذي يبشر الفقراء ويهتم بالخطأة وبالمحرومين على الأرض.



أ- يسوع المسيح رحمة الله المتجسدة:

" تبارك الله رب اسرائيل، لأنه تفقد شعبه وافتداه" (لو1/68). إن الله وقد أراد بدافع من محبته (1/78)، أن يحقق وعوده، جاء في شخص يسوع المسيح، ويشير القديس لوقا إلى الطفل الذي ولد "اليوم" ليدل على تدشين الزمن الجديد الذي ستتم فيه مواعيد العهد القديم، وهكذا فإنه حقق، بمجيئه، هذه الوعود معطياً الخلاص لكل إنسان[20] .

إن وجود يسوع التاريخي وحياته وموته وقيامته مشهود له في الأناجيل والرسائل، وكلها تتكلم عن يسوع المسيح ابن الله المتجسد. فيسوع، رئيس الأحبار الرحيم (عب2/17): لما كان عليه أن يتمم القصد الالهي، أراد أن يشابه إخوته في كل شيء، لكي يختبر شقاء هؤلاء الذين جاء لينقذهم، لذا اتسمت كل تصرفاته بالرحمة الالهية، ولو إن الانجيليين لم يطلقوا عليها هذه التسمية. ولقد اهتم لوقا الانجيلي اهتماماً خاصاً بتوضيح هذا الجانب؛ فالمفضلون إلى قلب يسوع هم الفقراء (لو4/18؛ 7/22)، ويجد الخطأة فيه صديقاً لهم (7/34)، وهو من ناحيته لا يخشى معاشرتهم (5/27 و30؛ 15/1-2؛ 19/17)، وهذه الرحمة يبديها يسوع بصفة عامة نحو المجموع (مت9/36؛ 14/4؛ 15/32)، فنراه تارة يصنع رحمة نحو أرملة نائين الثكلى في "ابنها الوحيد" (لو7/13)، وتارة أخرى نحو هذا الأب المفجوع في ابنه (8/42؛ 9/38 و42) . وأخيراً يعامل يسوع المرأة والغريب معاملة تتميز بالرحمة، ويصل الطابع الشامل للرحمة إلى كماله : " فكل بشر يعاين خلاص الله " (3/6)، وإن كان يسوع قد أشفق هكذا على الجميع، فلا نعجبن إن كان اليائسون يقصدونه كأنهم يقصدون الله نفسه، صارخين إليه "رحماك سيدي Kyrie eleison " (مت15/22، 17/15، 20/30-31). تحقيق قصد الله الرحيم في الخلاص والسلام، الذي تغنت به الأناشيد في فجر الانجيل (لو 1/50 و54 و72 و78)، تم في يسوع المسيح .



ب- الخلاص بيسوع المسيح:

تشير لفظة اسم يسوع إلى الخلاص " الرب يخلص" (مت1/21)، وتدل على الخلاص الذي انتظره الشعب منذ أقدم النبؤات المسيحانية في التوراة[21]؛ ففي يسوع المسيح تحقق الخلاص، وظهرت محبة الله للبشر بأسمى ظهور؛ تحقق القَسَم والميراث بدأنا نحصل عليه؛ فاضت البركة بافتقاد الله وتذكره الدائم لشعبه.

يظهر يسوع المسيح مخلصاً بتلك الأعمال والشفاءات التي كان يصنعها مع المرضى (مت9/21؛ مر 3/4؛ 5/23؛ 6/56)، ومع بطرس عندما خلصه وهو يمشي على الماء، والتلاميذ وقد هبت عليهم العاصفة (مت8/25، 14/30)؛ ويذهب أبعد من الخلاص الجسدي إذ يغفر للمرأة الخاطئة خطاياها (لو7/48-50)، وزكا المعترف والتائب (لو19/9)؛ ولكي ينال المرء الخلاص ينبغي أن يقبل بالإيمان " انجيل الملكوت " (8/12). أما يسوع فهدف حياته هو الخلاص : لأنه جاء إلى الأرض يبحث عن الهالك فيخلصه (لو9/56؛ 19/10)، ليخلص العالم لا ليحكم عليه (يو 3/17؛ 12/47) ، وهو الباب من يدخل منه ينال الخلاص (10/9).

ففي يسوع المسيح بيئة النعمة ورحمة الله وطريق الخلاص، فقد أرسله الله كابن مخلص للعالم (1 يو4/14)، وبموته وقيامته صار لنا " علة خلاص أبدي " (عب5/9)، فصار يلقب "بالمخلِّص" (لو2/11). ويتبين أن زكريا يرحب ببزوغ فجر الخلاص الذي وعد به الأنبياء (لو1/69 و71 و77)، وإن سمعان يحيي ظهور ذلك الخلاص على الأرض في تطلع عالمي يشمل الكون كله (2/30). وأخيراً تمهد كرازة يوحنا المعمدان، بحسب الكتاب المقدس، لسُبل الرب، بحيث إن " كل بشر يرى الخلاص الآتي من لدن الله " (3/2-6؛ اش40/3-5؛ 52/10) . وهذا الخلاص تحقق وبلغ قمته بالصليب والقيامة من الأموات.

استعمل لوقا استعمالاً خاصاً مفرادات الخلاص، وهو تلميذ بولس، وإنجيله هو إنجيل الخلاص كما سمّاه الشراح. ويبرز لوقا بصورة خاصة الوجهة المسكونية لهذا الخلاص، فيورد معجزات صنعها يسوع لغير اليهود. وحين أورد كرازة السابق أنهاها بقول اش40/5 حتى النهاية: " يرى كل بشر (كل جسد) خلاص الله " (لو3/6)[22] .

- خاتمة:

لقد رأينا في هذا العمل تدخل الله الخلاصي في حياة الإنسان، منذ أن تخلّى هذا الأخير عن الله والله لم يتركه وحيداً، بل سارع وأظهر رحمته للبشر أجمعين متذكراً أنه هو خلقهم وهو وعدهم بميراث السماء والشركة معه في حياته الإلهية، وها هو الآن يبرهن على أمانته ويجعل من زمن مجيء ابنه زمن العهد النهائي، زمن تحقيق الخلاص، كما يوضح لوقا في إنجيله: لقد وجد الخطأة في يسوع صديقاًَ، وهو لا يخاف أن يعاشرهم، بل يرحب بهم. وقد أعلن يسوع أنه جاء لا للأصحاء بل لشفاء لمرضى. قال :" لم آت لأدعو الصديقين بل الخطأة "... تدخل الرحمة في كيان الله، وهذه الرحمة تجلت بيسوع المسيح؛ هكذا يُظهر لوقا يسوع.

كان الخلاص موضوع الرجاء لدى الشعب الاسرائيلي، فكلمة الله خلاصي هي جد متواترة في الصلوات والمزامير، وهي تعبر عن إيمان لا يتزعزع لأنه يرتبط بهذا الرجاء العظيم. الله يستطيع أن يخلصنا لأنه يحبنا ولأنه خلصنا في الماضي. والآن في الحاضر ينتقل هذا الخلاص كل يوم في الكنيسة بالكلمة والأسرار. ومن الضروري التنويه على أن لوقا الإنجيلي هو نفسه كاتب أعمال الرسل القديسين، وهذا يعني أنه رافق الكنيسة في مسيرتها الأولى، وبالتالي فإن كتابته للإنجيل كانت تأخذ معنىً تنفيذياً للخلاص الآتي بيسوع المسيح القائم من الأموات، ويأتي الكلام عن هذا حلول زمن الخلاص، اسكتالوجياً، يُعبّر عن المسيرة الواجب اتباعها في الكنيسة، للمضي بالعالم إلى الخلاص المحقق بيسوع المسيح.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] صلاة الثماني عشر اليهودية.

[2] الفغالي بولس(الخوري)، إنجيل لوقا ظهور الكلمة والرسالة في الجليل،سلسلة دراسات كتابية 3،الرابطة الكتابية،ط1،بيروت،1993،ص146-150.

[3] معجم اللاهوت الكتابي،ط3، المكتبة الشرقية، بيروت1991، كلمة"أب".

[4] راجع في هذا الموضوع كلمة "ابراهيم، اختبار، اختيار" في معجم اللاهوت الكتابي؛ وأيضاً كتاب "سفر التكوين" للخوري بولس الغفالي، المجموعة الكتابية2،أسفار الشريعة (1)،ط1،منشورات المكتبة البولسية،جونيه،1988، ص194 ومابعد.

[5] معجم اللاهوت الكتابي، كلمة "موسى، دعوة ،اختبار".

[6] إرادة الله وإرادة الإنسان (ترجع إلى الطاعة الحرة).

[7] معجم اللاهوت الكتابي، كلمة "اختبار".

[8] المرجع نفسه، كلمة "رحمة".

[9] المرجع نفسه.

[10] المرجع نفسه، كلمة "عهد".

[11] المرجع نفسه، كلمة "قسم".

[12] المرجع نفسه، كلمة "بركة".

[13] المرجع نفسه، كلمة " ذكرى".

[14] الفغالي بولس(الخوري)، إنجيل لوقا ظهور الكلمة والرسالة في الجليل ،ص453-454.

[15] المرجع نفسه، ص161.

[16] المرجع نفسه،ص 102-103.

[17] معجم اللاهوت الكتابي،كلمة "قدوس، الله".

[18] "وفيك قديس" تعني أنه هو القدوس مقيم في وسطهم.

[19] الفغالي بولس(الخوري)، إنجيل لوقا، دراسات كتابية3، ...ص98-99.

[20] المرجع نفسه،ص 176.

[21] المرجع نفسه، ص175.

[22] المرجع نفسه، ص194.

imad
 
 
Page generated in 0.03854 seconds with 9 queries