دار الأوبرا أيضا وأيضا ـ أحمد عمر
شهادة 'المثقف' المعولم المتعالم: ذيل الحصان أو ليّة الخروف
سألت حارس مبنى الأوبرا بلطف يقترب من التوسل (خشية أن يكون سؤالي الهامس “خطا أحمر”) عن سبب التفتيش في حقائب الزائرين،الذين كانوا يتذمرون منه، ويتحول التذمر إلى
ملاسنة أحيانا، ولما آنست منه رشدا، طلبت لهم العذر، مبررا غضبهم بأنه وطنهم الذي يريدون أن يرتعوا فيه، على كيفهم، بلا رقابة، وتشجعت وقلت: تعرف أنه مرت مرحلة "قاسية"، ويريدون أن يتجاوزوها، يعني من غير المعقول أن يفتش العربي في بلده كما في مطارات العالم وموانئه! فاشتكى الحارس الأوبرالي مدافعا عن كرامة دار الأوبرا التي لا تليق بممارسات المثقفين "الهمجية": يأتينا المثقف، طول شعره إلى قفاه ( نطقها وكأنها شهادة وأيزو) وقد أخفى في "خرجه" بذور التسلية والموالح والمشروبات والصندويشات! وصاح الحارس المهندم صيحة مكتومة: يا عالم هذه دار أوبرا وليست سينما أفلام متواصلة!
ألم تسمع بالصوت الأوبرالي؟ هاذ هو الشَعْر الأوبرالي
ولمّا آنس مني حسن الاستماع، الذي قارب الخشوع، أخذني وجرّني جر الشيخ للمريد إلى أجمة قريبة كي يكمل الموعظة المطبوخة على نار الشكوى والمملحة بالغيرة، وقال تفضل وأنظر إلى جثة الثقافة فتفضلت ونظرت: كان "الميدان" يحفل بآثار "معارك" و أشلاء بالونات اسطوانية ذابلة، منكمشة، تشبه المقانق الفارغة، مختلطة بورق الخريف، لا يزال يبرق في "ختان" أفواهها دماء "أطفال منتصف الليل" البيضاء، التي لم تحظ بالوصول إلى رحم "خط النهاية" الذي لا يرحم. هؤلاء "الأبطال" يساهمون في الحد من القنبلة السكانية المهددة للجنس العربي، غثاء لا ينفع كغثاء السيل، فليهدر بدلا من أن يتحول إلى أصوات انتخابية ايجابية بالمطلق! لقاح يشبه زواج سمك السلمون؟ لو وضعنا في الميدان آلة سماع أصوات ماضي الليلة السابقة لسمعنا أصوات الرفث والتنهدات، انه مشهد عاصف يعصر بالخيال عصرا، ويعيده مخذولا مدحورا.
تدخل الشيطان واتهمنا بأننا حاسدان متخلفان لأننا حرمنا من المساهمة في "شرف" هذه المعارك التي لا تكفي فيها الشهادة فلا بد من النصر معها.
في الحقبة اليسارية، التقدمية، كان المثقف السوري يميّز نفسه عن العامة بعلامات شهيرة: سكسوكة الذقن، أو السيجارة التي تظهر في صور الأدباء الصحفية غير الأوبرالية وكأنها متدلية من حبل دخانها الكثيف، وأحيانا نادرة ظهر المثقف "بعلامة" الغليون التي لازمت صورة الكاتب المعروف وليد إخلاصي. كان المثقف الشاب يقتدي بالآباء المسكسكين مثل الروائي هاني الراهب (السنوط والسناط في المخصص لابن سيده الأندلسي هو الذي لحيته في ذقنه ولا شيء في عارضيه)، أو المبدعين المؤسسين المدمنين على الدخان مثل الروائي حنا مينة ورائد القصيدة النثرية محمد الماغوط الذي يظهر في كل صوره وكأنه يحترق بلفافته. يبدو أن الماركة المسجلة للثقافة حاليا هي الشعر الطويل المضفور، الذي يلف أحيانا وراء القذالين كذيل حصان وأحيانا يطيّن بالجل كليّة الخروف، شعار محدث الثقافة الديكارتي، بفضل نعمة الانترنت ونقمتها: أنا أطيل شعري إذاً أنا مثقف.
الشعر نعمة، وزينة كبيرة، تدل إلى الشباب والقوة والفحولة التي جسدتها أسطورة شمشون التي يرويها الدميري في "حياة الحيوان الكبرى" وملخصها أن شمشون الرومي المؤمن، في زمن عيسى عليه السلام، كان يغزو الوثنيين وحده، فيقتل، ويسبي، ويصيب المال، فتآمر عليه أعداؤه وأغروا امرأته دليلة، التي عرفت سرّ قوته التي كانت في شعره، فقصت له شعره وهو نائم، فتمكنوا منه.
وقد تكون ضفائر الشعر مؤشرا على فتوة لاعب كرة القدم و جمال حركته؛ وتزيده جمالا مع حبيبته الكرة، وترفع حسن المشهد وهو يمخر عباب الملعب أو مع الهدف فيزداد الهدف روعة، وأشهر هؤلاء المضفرين الهولندي رود غوليت والبرازيلي رونالدينو لكن الإحصائيات ترفع في وجهنا البطاقة الحمراء عندما تقول: أن أكثر العباقرة من الصلعان.أما في رياضة السومو اليابانية فمن شروط الدخول في مسابقاتها وصراعاتها أن يكون للمصارع شعر يربط في أعلى الهامة، لا معنى للقوة بدون شعر شمشون. لا معنى للقوة بدون جمال في ملة اليابان.
لم يرد في أي قاموس أو معجم أو تعريف من تعريفات الثقافة العربية القديمة والحديثة أنها مرتبطة بالشعر (ثقف: فطن وحذق وأدرك وفهم بسرعة) ولا في التعريفات الأوربية التي جاءت من مفردة الزراعة، حتى إن قال العلم أنّ الشعر هو أكثر عناصر الجسم صمودا للزمن، وأبطأها فناء، فذلك لا يعني أن صاحبه مثقف، ويبيح له أن يغضب حرّاس الأوبرا.
في ندوة سينمائية صباحية، في المهرجان السينمائي الأخير، لمناقشة الفلم المصري ( فرحان ملازم آدم) والتي شارك فيها مخرج الفلم عمر عبد العزيز ولبلبلة والممثل محمود عبد الوهاب (وأنا)، جلس إلى جواري صحفي "مثقف" يصل شعره "المجلل" إلى ترقوته. كان في عينيه عمص أبيض، لعدم غسله وجهه صباحا على ما يبدو، وليس بكاء على "ماض تولى"، وسألني إذا ما كنت حضرت الفلم كي ألخص له فكرة الفلم حتى يشارك في النقاش! ولأني لم اقل في حياتي "لا" إلا في كلمة الشهادة ( ولولاها كانت لائي نعم، وهي كل بضع سنوات يقطر منها دم؟) فعلت ولخصت الفلم قائلا بأنها حكاية فلاح بسيط بريء يصطدم بغول المدينة ودهائها فينهزم ويعود. مقولة الفلم الأساس يا أستاذ (كانوا جميعا يخاطبون الغلام بالأستاذ ويبدو انه كان مواظبا على حضور الندوات ومناقشاتها والكتابة عنها لصحيفته الشبابية التي سمح الإعلام بصدورها كي يثبت ديمقراطيته): الصراع بين طهارة الريف وآثام المدينة: فكتب الصحفي في مفكرته وقلمه يتعثر بليّة الخروف وبعره: الفلم يتحدث عن نضال الشباب من أجل الالتزام بمبادئ الشرف والكرامة الوطنية للقضاء على الصهيونية والامبريالية!
ناقد آخر، طويل الشعر، خاطبه مدير الندوة بالأستاذ الشاعر أيضا، ساهم بمداخلة نقدية، لم يفهم أحد منها شيئا، لخلطه ستانسلافسكي بالميزانسين والكاست والكاراكتر كي يقنعنا أنه مثقف، وكان قد أفصح عن هدف مساهمته النقدية الفحلة للمقربين: سبي لبلبة نفسها! (السبي الحداثي: ساعة حمراء فقط لا غير)
وبشجاعة عنترة في القتال رفع الصحفي "السانتور" الأول الذي نصفه إنسان ونصفه الآخر ليّة خروف، يده للنقاش، وأثنى في مداخلة غنية بالشحوم الثلاثية على حسن أداء الممثلة "البابا" (يقصد لبلبة الذي لم يكن يعرف اسمها إلا سماعا). وبعد أن انتهت الندوة ناولني كاميرته الديزل التي تعمل بالطاقة العضلية، والتي بحجم صندوق مسح أحذية سوري، وطلب مني أن التقط له صورا تذكارية معها فبدأت بالقصف غيرة وحسدا، من ليته، ومن وسامته، ومن صوره التذكارية التي تكبّرت عليها: طاق، شف، بم. طاق، شف، بم. حتى " كلّ متني".
لم يرد في كتاب أرنست دومنيه (فن التفكير) أن الشعر الطويل يساعد على التفكير، ولا في كتاب البيان والتبيين أن علامة الفصاحة والبيان والعلم هي طول الشعر وسباطته وجمامته، لكن ورد في قصة قصيرة ساخرة للكاتب التركي يشار كمال حكمة تقول: الشعر الكثيف يحجب العقل! ولأنها أجمل جملة في القصة فقد نالت شرف العنوان ولحظة الختام.
من الصعب أن يجمع المثقف بين زينتي الرأس الداخلية والخارجية وما كل ما يتمناه المرء يدركه، أما أكبر القبائح فهي أن يكون "المثقف" أصلع من داخل رأسه، كما جاء في وصف جاك بريفير لملوك فرنسا الحمقى.
ـ ما فائدة الشعر المذكّر الطويل إلى الخصر للثقافة والفكر؟
ـ ينفع للغزو والسبي المعاصرين، كما ينفع لذبّ للذباب البشري المنافس على "سبايا الحداثة"، الجمال من الثقافة أيها الصديق؟
ـ شعرك يتساقط أيها الشمشون البائس، شعرك ذيل المعزة.
ـ إنه مقص "دليلة الخوف" لا "دليلة الأوبرا" أيها الصديق.. الأوبرالي.
عن موقع الأوان
We ask the Syrian government to stop banning Akhawia and all Syrian sites
القمر بيضوّي عالناس
والناس بيتقاتلوا .