أذكر أنني في زيارة للمرة الأولى لأصدقاء لي، دخلت بيتاً ومررت في فسحة دار ضيقة، حيث يجلس أهل البيت يتناولون فطارهم يوم الجمعة، فاعتذرت والتففت للخروج معتقدة أنني أخطأت الطريق، لكن حقيقة لم أخطئ الدرب بل كان علي أن أمرّ في منزل آخر غير الذي مررت فيه لأصل حيث يسكن أصدقائي.
من يصعد إلى المزة 86 سيرى أهل الريف وقد حملوا معهم الكثير من عاداته، سيرى المصاطب أمام البيوت، تُرش بالماء عصر كل يوم للحصول على البرودة، والأهم لتخفيف الغبار وهذا بالتأكيد سيزيد الشوارع وحولةً واتساخاً. يجلس الأهالي على تلك المصاطب نساء ورجال وأطفال- والأغلب أن الأطفال يلعبون في الشارع أمام نظر أهلهم- يشربون المتة والشاي ويدخنون الأراكيل وأمامهم صحون فاكهة الموسم :مشمش أو أكيدنيا أو ربما توت من الضيعة أو عنب من كرمة الضيعة أو الكرمة التي زرعوها لتمتد على سطح البيت هنا في دمشق أو سقفوا الدار بها. سنرى أصص (علب سمنة معدنية صدئة، أو علب دواء غسيل بلاستيكية) زرع فيها الحبق وفم السمكة. سنرى مناشر الغسيل على طريقة أهالي الريف: أسلاك معدنية نصبت بين نافذتين في الدار أو على البلكون المطل على الشارع، والأشهر مناشر الأسطحة، وفي حالات قليلة مناشر الشارع، وتعود للبيوت الضيقة الصغيرة كالحشوات بين البيوت، دون أن نتمكن من اللحاق بسطح ذلك البيت إذ يختفي في الزحام. سنرى الدكاكين الصغيرة المتواضعة تبيع موادها بالتقسيط حتى لو بلغت القيمة 5ليرة.
أما سماء الحي فهو عبارة عن شبكة من الأسلاك الكهربائية المدهشة في توصيلها وتشابكها وتعقيدها، وأسهل ما يمكن حدوثه هو انقطاعها لدى مرور شاحنة أو هبوب الرياح، والأسوأ هو الماس الكهربائي الذي يكفي لتحريضه هطول القليل من المطر أو الرياح، وأساساً ليست بحاجة إلى كل ذلك فبسبب الضغط في الاستهلاك لعدم قدرة الشبكة على الاستيعاب، تحترق الأسلاك ويحدث الماس ولكم أن تتصورا النتائج المترتبة عن ذلك.
ورغم كثافة الأسلاك الكهربائية فإن الشوارع بالكاد مضاءة باستثناء الشوارع الرئيسية.
الجورة بدل الصرف الصحي
أما الصرف الصحي فهو من أسوأ الخدمات في المزة 86، إذ أن تمديداته في الأساس سيئة تسرّب المياه المالحة تحت البيوت والأبنية الطابقية، وعلى سبيل المثال يهرّب مجرور الصرف الصحي في شارع حسني السبح، محتوياته منذ 8 سنوات دون أن يعالَج الأمر بشكل جذري، بل تأتي ورشة الصيانة في كل مرة تحدث فيها شكوى وتحذير من خطورة الوضع، وتعالج المشكلة بالتسليك و"التسكيج" المؤقت. وعلمت من المختار أنه تم تصدع بعض الأبنية السكنية واضطر ساكنوها إلى إخلائها بسبب خطورة المشكلة. ويقول المختار "أما في الشتاء حيث الأمطار، فيزداد الأمر سوءا إذ تتوقف شبكات الصرف الصحي عن التصريف وتدخل المياه المالحة إلى البيوت" ويضيف " كثير من الشوارع غير مخدّمة بالصرف الصحي وما زال الأهالي يستخدمون الجور الصحية كما في الأرياف النائية"." كل الخدمات هنا باستثناء المياه، لا تستوعب الحي، وأية مشكلة لا تحل جذرياً فكل جهة تنفيذية تستغل ثغرات في القانون لتبرر سوء التنفيذ، فمثلاً يضعون 100 خط في علبة الهاتف لحي يحتاج 500 بحجة عدم توفر الخطوط، مما يدفع الناس إلى الرشاوى والأساليب غير النظامية للحصول على الهواتف، ويحصلون!
الدولة لا تلبي مطالب واحتياجات أهل الحي بحجة المخطط التنظيمي الذي قد لا ينفذ بعشرين سنة".
هكذا يتعلم أبناؤهم ويعالجون
في الحي مدرسة واحدة، علماً أنه يحتاج إلى 5 على الأقل، وبطبيعة الأحوال باحتها غير مبلطة بل هي نسخة من شوارع الحي فيها الحفر والمطبات، وسجلت لجنة الحي أكثر من شكوى أذية أطفال المدرسة أثناء اللعب في الباحة.
يتحدث المختار عن المستوصف الوحيد في ال86 "رغم فخامته فقد كلف الدولة ملايين الليرات، إلا أنه يعاني من نقص في كادر الأطباء والتمريض، والأدوية. تصوري أن توزع الأدوية بالكميات ذاتها على مستوصف الـ86 ومستوصف مزة فيلات علماً أنه يخدم حوالي 50000 نسمة بينما هنا يخدم أكثر من 200000 نسمة".
لكن المشكلة الأسوأ في نظر المختار هي الازدحام الشديد في الشوارع بسبب ضيقها كون الحي له مدخلان فقط مدخل الحاجز العسكري والمدخل بجانب فلافل على كيفك، علماً أنه كان هنالك 3 مداخل لكن رئيس البلدية السابق أمر بإغلاق المدخل الموجود عند معهد اللغات منذ 5سنوات.
تلك الصورة القاتمة عن الـ86 هي الغالبة لكنها ليست الوحيدة إذ ثمة مشاهد تقع على النقيض تماماً، هنالك بنايات الرخام الأبيض والوردي، والسيارات السوداء الفخمة، والمحلات التجارية الضخمة"السوبر ماركت" إنها في بداية الحي أي الأقرب إلى المزة وهنا بطبيعة الحال الخدمات أفضل بكثير من فوق.. إنها الفئات الأقوى نفوذاً و الأكثر غنى.
في انتظار الحلول اللاورقية
هكذا هم الفقراء في أي مكان من العالم ، يضطرون لتدبير أمورهم بنفسهم، حينئذ يصبح من الطبيعي أن يخالفوا ليعيشوا ومن الطبيعي أن يشوهوا المكان، حين تكون خطط الدولة وبرامجها تتعلق بالفئات العليا من المجتمع، أما باقي الفئات فإن الخطط تجاهها غير جادة، ويصطدم تنفيذها بالبيروقراطية والفساد. كم فرصة سنحت للدولة خلال 4 عقود من الزمن لحل هذه المشكلة التي تتفاقم يومياً؟! في الحقيقة كل حلولها كانت شكلية: قوانين على الورق. ويمكننا أن نتصور مقدار ما صُرف في هذا المكان للبناء والضرائب والترقيعات والخدمات وصيانة الخدمات وأسعار مضاعفة ورشاوى... كل ذلك يجعلنا نفكر كم كان ممكناً بناء حي بل مدينة في هذا المكان، مدينة جميلة منظمة ومزودة بالكثير من الخدمات. نعم هذا ممكن وهو رابح، وكثير من الدول تمكنت من وضع حلول لمشاكل السكن العشوائي.
فهل تنتظر الدولة لدينا أن تتصدع كل المباني وتتهاوى فوق سكانها لتبدأ الحل؟ ألا نعرف جميعنا أن مزة 86 ومناطق حزام الفقر في دمشق تقع فوق أرض غضارية كهفية متخلخلة خطرة، غير صالحة للبناء! فهل تنتظر حدوث زلزال ليصبح الحل الجدي ضرورة إسعافية؟ نرجو غير ذلك.
الحرية لسوريا من الإحتلال الأسدي
|