> حديثك عن الفلسفة يحيلني لإجاباتك على أسئلة الحضور، حيث عرجت على أبي العلاء المعري وحداثيته. وبالرجوع لمقدمتك للمجلد الثاني لديوان الشعر العربي، نجدك تؤكد على أن أبا العلاء هو أول شاعر ميتافيزيقي في تراثنا الشعري، وليس شاعراً فيلسوفاً، ما هو مقياسك للشاعر الفيلسوف، وهل يرى أدونيس نفسه شاعراً فيلسوفاً؟
ـ حينما تصفين شاعراً أو مفكراً بأنه فيلسوف تعنين بالضرورة المصطلح العلمي والفلسفي، الذي يتحقق عبر إبداء الشاعر والمفكر رأيه في الوجود والأخلاق والمصير؛ أي أصل الإنسان، والأخلاق التي يجب أن يعيشها، والمصير الذي يؤول إليه، ومن هذا المنطلق ستجدين عدد الفلاسفة قلة في العالم، فهناك أمثلة كأرسطو وأفلاطون قديماً، وهيجل حديثاً. أما البقية ممن يسمون بالفلاسفة من باب التوسع والتيمن فهم أشخاص عالجوا قضايا فلسفية، ولم يجيبوا على الأسئلة الكبرى التي ذكرتها. ومن هنا أقول إن دريدا لا يصح أن يسمى فيلسوفاً بهذا المعنى، بل ولا حتى سارتر نفسه، وإنما هم مفكرون بحثوا في قضايا فلسفية. وكذلك الشاعر الميتافيزيقي غير ملزم بالإجابة على المشكلات الثلاث، وإنما يستشف ماوراء الفيزيقا، أي ما وراء الطبيعة، فيتكلم في الفناء والخلود وعبث العالم، وبهذا المعنى أردت أن أنقذ أبا العلاء من التحديد المغلق لكلمة فيلسوف الذي لا ينطبق عليه، فأسميته ميتافيزيقاً. وكل شاعر عظيم هو شاعر ميتافيزيقي، لا يكتفي برؤية العين والتعبير عنها، وإنما يتخطى ذلك برؤية العين الداخلية، أي رؤية القلب. ومن هنا فأنا أتمنى فقط أن أكون شاعراً ميتافيزيقياً كأبي العلاء، لأنه من الصعب في الحقيقة أن يكون هناك شاعر فيلسوف، فأنا لا أجده في تاريخ الشعر.
> وصفت في إجاباتك أيضاً كلاً من أبي نواس وأبي العلاء والنفري بالشعراء الحداثيين، في حين صمتّ تماماً عن المتنبي، أليس هذا غريباً على أدونيس صاحب «الكتاب»؟
ـ كل شاعر حديث في لغة ما يجب أن يعيد النظر في القيم السائدة، وأن يكون سلسلة من التساؤلات حول انتسابه اللغوي، وكذلك حول تحدره من أصول لغوية وقيمية واجتماعية معينة. وأول من تساءل حول القيم السائدة وأفصح عنها بطريقة جديدة هو أبو نواس؛ تساءل عن القيم الدينية وقيم البداوة، وانتقدها، وأقام قيم الحياة المدنية وأكد على الحرية الفردية. أما المعري فأعاد النظر كلياً في القيم السائدة لعصره على جميع المستويات، وشكك في تلك القيم، وأراد أن يؤسس لعالم جديد، والنفري كتب بطريقة مختلفة كلياً. ما أود أن أقوله إنهم بهذا المعني حديثين نسبياً داخل تراثهم وأوضاعهم التاريخية، أما المتنبي فكان طاغية شعرية احتضن التراث بأكمله والتهمه وسار به كأنه عاصفة تغير وتدمر كل شيء، لكن ضمن المعايير والمقاييس والمفاهيم القائمة لعصره، ومن هنا فالمتنبي ليس بشاعر حداثي.
> تطرقت في مجمل محاضرتك أيضاً إلى قضية الناسخ والمنسوخ عموماً، لا في النص الديني فحسب، وهذا يذكرنا بحادثة تمت منذ عشر سنوات تقريباً، حين خرجت بديوانك في ثلاثة مجلدات، تخليت فيها عن التتابع الزمني للقصائد وفاء لما أسميته «تتابع البنية والإيقاع» مؤكداً أن هذه الطبعة تقطع كلياً مع الطبعات السابقة لهذه الأعمال إضافة إلى أنها تنسخها»، فهل نتوقع أن ينسخ أدونيس أعماله مجدداً؟
ـ سؤالك فرصة جيدة لتوضيح الفارق بين النسخ والتغيير، رداً على ما تم تداوله قبلاً، ممن لم يقرأوا كتبي وأطلقوا شائعات تؤكد أنني أغير في قصائدي، وهذا ما لم يحدث. فأنا أحذف فقط ولاأبدل أو ألعب بالجمل الشعرية. فهناك قصائد طويلة، أو تعبيرها ضعيف، ولم تعد تعبر عني، فأقوم بحذفها بعد إعادة النظر بها، وهذا من حقي، فهذه القصائد ملكي، وهذا ما حدث في قصيدة «قالت الأرض» على سبيل المثال. وجميع الشعراء العالميين يفعلون ذلك، بل منهم من يفعل ما لم أفعله أنا وهو إعادة كتابة قصائدهم، وتسمية ذلك بالتنويع على النص، فما يكتبونه ليس منزلاً، والإنسان أهم مما يكتبه، وسيظل النص ملك شاعره حتى بعد موته. أما ما تطرحينه من مسألة النسخ فهذا ما حدث بالفعل، لا التغيير، وقد اقتضته ضرورة تجارية أضمن بها حقوقي، حيث دأبت إحدى دور النشر على طبع ديواني عدة مرات من دون وجه حق، والزعم أن كل طبعاتهم هي طبعة واحدة، فأعدت ترتيب كتبي بشكل آخر لألغي إمكانية تجديد هذه الطبعة، فالنسخ هو الإلغاء، أي لأمنع قرصنة ديواني. أما اليوم فأفكر بإعادة طبع دواويني كما كانت في الماضي بشكل تاريخي تسلسلي.
|