استشفَّ محمد من ملامح وردود سامعيه أن أسقف نجران وأعضاء كنيسته لم يقبلوا وَحْيه ولا نُبوته. وربما كانوا قد قالوا لمحمد إنهم قد يوافقون على بضع مبادئ محددة من حديثه، ولكن أغلبية حديثه جاء مختلفاً عن نصوص الكتاب المقدس أو متعارضاً معها. فاستاء محمد وأعلن في الآية 58 أن كل ما كان يتلوه عليهم هو وحي الله الصحيح مباشرة ومن آياته السرمدية، ودعا عبارات القرآن آيات بمعنى معجزات وبيِّنات وزعم أن الملاك جبريل منحه بصيرة نافذة في الأحداث التاريخية الماضية أدقّ مما يجده النصارى مكتوباً في كتابهم. وأن المواضع التي اختلف فيها الملاك جبريل القرآني مع أخبار الكتاب المقدس قد حرّفها المضلّون عمداً أو سهواً. ثم قطع محمد كل مناقشة وأقحم خلاصة حاسمة لتلاوته في الآية 59:
«إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» سورة آل عمران 3: 59.
ماذا يعني هذا الادعاء القاطع الذي يُكثر المسلمون من ترديده؟ إنهم يخبرون المسيحيين به أن هناك ثلاثة أشخاص في تاريخ العالم أتوا للوجود دون أبٍ، هم آدم، الذي خُلِق من تراب، وحواء، التي صُنعِت من ضلع آدم سورة النساء 4: 1< الأعراف 7: 189< الروم 30: 21< الزمر 39: 6< الشورى 42: 11، والمسيح الذي وُلِد من روح الله. وبهذا حطَّ محمد من قيمة عيسى وأنزله إلى مستوى سائر المخلوقات، وزعم أن ظهوره في الوجود بلا أبٍ ليس حدثاً فريداً. فهؤلاء الثلاثة بحسب الإسلام خُلقوا ولم يولدوا من الله الطبري ج 3 و295. ولكن إذ نتعمق في هؤلاء الثلاثة، نجد بحسب القرآن أن آدم تكوَّن من عدة مواد مختلفة، بينما المسيح من روح الله. وتكوَّنت حواء من ضلع آدم، بينما المسيح هو كلمة الله المتجسد. أخطأ كلٌ من آدم وحواء، لكن المسيح ظل بلا خطية. مات كلٌ من آدم وحواء، وأما المسيح فحي. شتان هو الفرق بين آدم الأول وآدم الأخير، حتى بحسب القرآن. فالمسيح هو كلمة الله المتجسد، ولم يُخلق من الطين بل وُلد من روح الله.
حاول محمد ثانية إقناع النصارى بأن رسالته من الله وناشدهم أن يتوقفوا عن عصيانهم وينتهوا من تمردهم، وزعم أنه يعلن حق الله الصافي. غير أن الأسقف ووفده لم يقدروا أن يقبلوا الخلاصة المتصنّعة التي قدّمها محمد، ورفضوا رسالته بأدب جَمّ بعد ثلاثة أيام من حوارهم معه.
اشتاط محمد غضباً من محاولته الفاشلة، وأدرك أنه انهزم أمام أشرف وأفضل وفد 61/1 زار المسلمين بالمدينة. وبدافع من غيظه والكراهية طالبهم بأن يدخلوا معه تحت حكم الله المباشر. وألح عليهم أن يسرعوا إلى ديارهم بشمال اليمن ويحضروا أبناءهم وزوجاتهم إلى المدينة. ثم يحضر محمد وقومه المسلمون مع أبنائهم وزوجاتهم ويضعونهم قبالة خصومهم النصارى. ويجب عندئذ على الطرفين الابتهال إلى الله ومطالبته بلجاجة أن يقضي على الكاذبين المتمردين على الحق، تماماً كما فتحت الأرض فاها وابتلعت بني قورح الذين ناهضوا موسى رسول الله قبل ألفي سنة العدد 16: 1-35.
61/1 - ابن هشام السيرة النبوية تحقيق مصطفى السقا وزملاؤه، ج 2، ص 224 القاهرة 1935.
اعتبر محمد النصارى بهذه المواجهة كاذبين لأنهم لم يقبلوه نبياً، ولم يؤمنوا بأن القرآن أدقّ وأصح الحق وأعلاه تطوراً. وكان هذا الإنكار لمحمد أعمق ازدراء وأشد احتقار له، وحَسِب رفضهم له ولرسالته عاراً عليه< لأن رفضهم يعني أنه نبي كاذب ومخادع. ولكي ينجو بنفسه من هذا اللوم الذي لا يمكن تلافيه، اِدَّعى أنه على حق وأن النصارى على خطإ، وأصرَّ على أنه يُعلن الحق كلّه، وأن النصارى هم المخادعون الذين يناقضون آخر وحي من الله ويقاومونه على الدوام. وليثبت صحة كلامه، دعا الأسقف ووفده للدخول في محنة بُغية اختبار يقين إيمانهم، وليزعزع اعتقادهم الداخلي الراسخ. لذا يتعين على كل مسيحي يريد الدخول مع المسلمين في حوار أو نقاش أن يتأكد من إيمانه الشخصي ويعرف بنوده جيداً، وإلاّ سيؤدي تحدي المسلمين له إلى تجربته في عُمق كيانه الروحي.
يكشف لنا التحدي الذي واجه به محمد وفد وادي نجران سراً آخر عن الإسلام، فعند المسلمين صلوات مبيدة ومهلكة، وأنهم يحاولون تدمير أعدائهم باستنزال لعنات الله عليهم. وينبغي أن لا نقلِّل من قيمة هذه اللعنات الإسلامية لأنها من ممارسة السحر الأسود الذي يستعملونه في مواجهاتهم الخاصة والسياسية والدينية. رفض في عام 1992 رئيس كينيا حزباً إسلامياً كان قد طلب الاعتراف به رسمياً للانتخابات. ولما أصرَّ أعضاء ذلك الحزب على تسجيل أنفسهم ووضحوا أنهم حزب إسلامي سياسي، جاوبهم أنه لا يريد أن يُشرك تجار رقيق في حكم بلاده. ولمَّا رفض الرئيس الاعتذار عن توبيخه الشديد لهم، بدأوا سلسلة من الصلوات طوال اليوم كله طالبين من الله إماتة الرئيس والإطاحة بحكومته على الفور. ودام هذا الأمر عدة أشهر. ولكن الرئيس لا يزال حياً!
وفي عام 1987 تحدى أحد شيوخ الإسلام الأتراك في مدينة برلين مبشراً مسيحياً أمريكياً حقق نجاحاً في تبشير المسلمين، أن يُحضر كل مَن معه إلى الملعب الرياضي. عندئذ يأتي هو ومن معه من المسلمين أيضاً. فتجمَّع الفريقان لهذه المبارزة، ووقف كل فريق منهما عند أحد الأهداف. وتمّت هذه المبارزة بواسطة ابتهالات، وأخذ المسلمون يلعنون المسيحيين لمدة ساعة بأعلى صوتهم طالبين إلى الله أن يهلك هؤلاء الغشاشين في الحال. وبارك المسيحيون من جانبهم لاعنيهم المسلمين، وتضرعوا إلى المسيح أن يخلصهم من كراهيتهم العمياء. وبعد ساعة بُحَّ صوت كلا الفريقين، فعادوا إلى بيوتهم والحزن يملأ قلوبهم.
نعود إلى أسقف وادي نجران فنرى أنه لم يقع في هذا الفخ، بل عاد إلى دياره هو وجماعته بعد أن فهموا من هو محمد وما هو الإسلام. ويتعيَّن علينا ملاحظة أن محمداً لم يصلِّ ضد قادة المسيحيين فقط، بل قصد هلاك أبنائهم وزوجاتهم الأبناء الذكور أولاً ثم الزوجات. فكثيراً ما يفكر المسلمون في العائلات وليس في الأفراد باعتبار الأسرة هي البنية الرئيسية. ولذلك لا يصبّون كراهيتهم على المبشرين والرعاة والأساقفة فحسب، بل على كل أفراد أسرهم وأعضاء كنائسهم. فكل من يجد نفسه مدعوّاً من الله ليخدم بين المسلمين فليضع نفسه مع كل فرد من أهل بيته وأقاربه تحت قوة دم يسوع المسيح الحامية. فليس لنا ملجأ سوى المسيح نفسه، وما من قوة تنقذنا من هجمات الشيطان عدا دم المسيح. لا تخشَ سحر الإسلام الأسود، لأن بركة المسيح أقوى من لعنة محمد! وكل من لا يسلّم حياته وخطاياه وماله ومصالحه بالكامل للمسيح الحي المُخلِّص، أفضل له أن يُحجِم عن الدخول في خدمة رومانسية مليئة بالمغامرات بين المسلمين، لأن التعامل مع روح الإسلام ينطوي على خطر كبير. لكننا في مأمن مع المسيح الذي هو ملجأنا، وبه نغلب غلبة أكيدة 1يوحنا 4: 4 و5.-9خُطْبَةُ وَدَاع مُحَمَّد لِلْوَفْد
«62 إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 63 فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ 64 قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» سورة آل عمران 3: 62-64.
انتهى النقاش الحاسم بين أسقف وادي نجران ومحمد بالمدينة نهاية مُرَّة. ولما هَمَّ النصارى الأشراف بالرحيل عن المدينة بعد ثلاثة أيام من الحوار تحدَّاهم محمد مرة أخرى برسالة نهائية، وحاول فيها أن يحفر في نفوسهم أن حديثه كان يحوي الحق الإلهي الخالص. ومضمون هذه الرسالة التي تلاها ثانيةً على الوفد هو خلاصة الحق الإسلامي، وقانون الفكر الإسلامي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
هذه هي الشهادة الجوهرية في الحضارة والثقافة الإسلامية، والتي تُفسَّر على أنها ثيوقراطية، أي حكم الله المباشر. فكل نواحي ومجالات الحياة تتمحور حول الله القدير، العليم، الحكيم، الذي يرشد ويقرر كل شيء، وما من شيء يجري إلاَّ تحت سيطرته ومشيئته. لا يعرفه أحد ولا يفهمه أحد. هو الله المهيمن، العظيم، القهّار. وليس على البشر إلاّ السجود والركوع له كالعبيد.
لكن أسقف نجران وأصحابه كانوا قد أدركوا في كتابهم المقدس نوعاً آخر من إله يختلف عن الله في القرآن كل الاختلاف. فكانوا قد آمنوا بأبي ربنا يسوع المسيح، بالإله القريب الذي ارتبط بهم - وهم الخطاة المُبرَّرون - كأبٍ حنون صبور، تبنَّاهم وملأهم بروحه القدوس. يناقض مفهوم الإله الذي أعلنه المسيح الله الذي يعلنه محمد تماماً. يعلم المسيحيون من هو الله، فيدعونه: أبانا الذي في السموات ، بينما لا يعلم المسلمون من هو إلههم. إن إله المسيحيين هو محبة لانهائية، أما الله فبالرغم من رحمته، فهو قاضٍ صارم لا غير.
بدأ الأسقف أبو حارثة ابن علقمة والملك المسيحي العاقب عبد المسيح وكل الوفد في الرحيل بهدوء دون أن يوافقوا على أن محمداً هو النبي الصحيح لكل أبناء العرب ورفضوا إسلامه، فدعاهم محمد غشاشين، ومفسدين، وأثمة يلحقون الضرر بأنفسهم وبالعالم أجمع. لكنه تمكن من كبح جماح غضبه وخاطبهم مرة أخرى، مُنعماً عليهم بلقب أهل الكتاب. واعترف مرة ثانية بأن الله وهب النصارى هدىً إلهياً ونوراً سماوياً بما أوحاه في التوراة والإنجيل سورة المائدة 5: 46 فأقرَّ بل وقَبِل أنّ الستة وستين سفراً التي يتكوَّن منها الكتاب المقدس يمكن تلخيصها في عبارة واحدة وهو اسم يسوع المسيح. وألحَّ محمد على الوفد الراحل، بل وناشدهم ثانيةً أن يستديروا ويناقشوا معه هذا الشخص الفريد: كلمة الله المتجسد، الذي تتجمع فيه كل الكلمات الإلهية الأخرى.
إنما وضع محمد حداً لاعترافه على الفور، وكأنه يضرب بسيف ذي حدين. لا يستطيع المسلمون قبول المسيح على أنه شريك في المجد مع الله أو أنه ابن الله، كما أنهم لا ولن يقبلوه على أنه الله في ذاته. فليس بمقدورهم أن يقبلوا بشراً له جسد قابل للموت على أنه رب العالمين، فالله هو الواحد الأبدي الفريد. فَهِم محمد أن ثمة فروقاً بين المسلمين والمسيحيين غير ألوهية المسيح ومجيئه ليصالح العالم مع الله على الصليب، فانفصل محمد عن المسيح في آخر الأمر عمداً وعزماً. وبهذا يكون قد باعد بينه وبين الرب الحي الذي هو الطريق الوحيد، والحق الذي يخلّص، والحياة الأبدية. نبذ محمد ابن الآب السماوي، إلا أنه تابع مناداة الوفد الراحل بأن يعودوا للقائه مرة ثانية لمناقشة أسمى الأسماء: اسم عيسى.
لما رأى أن كل دهائه ومثابرته لم تفلح في تغيير رأي النصارى، طالبهم بقول أخير يؤكد فيه أن مسلمي المدينة هم المسلمون الحقيقيون الوحيدون الذين يتقون الله ويعبدونه مثل العبيد الخاضعين لسيدهم. لكنه لم يتلقَّ رداً من النصارى< فبعد ثلاثة أيام كانوا قد شرحوا كل شيء ولم يفهمهم أحد. وأغلب الظن أنهم حاولوا تبشير محمد، غير أنه لم يكن مستعداً لإنكار نبوَّته، فرفض أن يقبل المسيح كَرَبّه ومخلِّصه، وتمسَّك بإصرار أكثر بروحه المضادّة للمسيح.
تشير هذه الآية إلى النهاية المريرة لمناقشة طويلة أبدى فيها كلا الجانبين مثابرة عنيفة. إلاّ أن هناك اليوم ما يكفي من الحالمين والمثاليين بين صفوف المسيحيين المؤمنين والليبراليين على حدٍ سواء، الذين يظنون أن بمقدورهم حل جميع المشكلات بالمناقشة. ولكن هذه الأمنية الصالحة غير ممكنة مع المسلمين، فهُم مقتنعون بأنهم على حق وأن المسيحيين على باطل. ويرون إيمانهم مبنياً على وحي إلهي لا يناقش البتة، بل يُقبَل فوراً.
نقدّر نحن المسيحيين المسلمين حق قدرهم، ونقبلهم كما هم، حتى يفتح الرب قلوبهم وعقولهم. إنهم في احتياج ليعرفوا حقيقة الله الآب، وحينئذٍ يدركون حقيقة حياتهم النجسة تلقائياً، ويصبحون مستعدين لقبول حقيقة الخلاص المعدّ لهم أيضاً. نصلي أن يَرِفَّ الروح القدس على كل المسلمين فتنفتح عقولهم، وتنفكّ قلوبهم المقيدة بالسلاسل وقال الله: «لِيَكُنْ نُورٌ فَكَانَ نُورٌ» التكوين 1: 3 ، الأعمال 26: 15-18.-
الجزء الثانيالصدمة الكبرى-1حَقُّ المَسِيحِيِّين الشَّرْعِي لبقائهم فيِ بِلاَدٍ إِسْلاَمِيَّة
كان محمد تاجراً مخضرماً وباحثاً أصيلاً عن الديانة الحقة، وظن أنه تلقَّى وحياً سماوياً بواسطة الملاك جبريل، فاعتبر نفسه النبي المختار للعرب. وكافح بكلمات شعرية، وبوعظ مباشر، وبحيل ماهرة، وبأسلحة مُسنَّنة، ليكسب عبدة الأصنام واليهود الأذكياء والنصارى المستقيمين للإسلام. وليحقق هذا الغرض اجتهد ليتعلم ما يمكنه عن شريعة اليهود الذين استقروا في شبه جزيرة العرب. وقد سار على منوال اليهود فترةً وقلّد طقوسهم حتى طلب من المسلمين أن يتخذوا القدس الأقصى قبلةً لهم في بادئ الأمر ليكسب يهود المدينة للإسلام. ولكن لما سخروا منه واستهزأوا به وأخفوا عنه التفاصيل الكتابية شرع في اضطهادهم والقضاء عليهم قبيلة تلو الأخرى، حتى تلاشى اليهود من المدينة. وكردّ فعل لعنادهم أمر أن يتحوَّل جميع المسلمين عن بيت المقدس ويولّون وجوههم شطر الكعبة في مكة قِبلةً لصلاتهم. وبهذا التحول الجذري أسَّس للمسلمين الهوية الإسلامية الخاصة بهم.
وكان النصارى يتلقون من محمد معاملة مشابهة< فقد أكرمهم على لطفهم ورأفتهم في الحبشة بمن فرّ من المسلمين المضطهدين في مكة، وأقرّ أنهم صادقون غير مخادعين، متواضعون غير مستكبرين. غير أنه كان يُكِنّ لهم غيرة لأنه أحسّ بأنهم طبقة أعلى من سائر الناس سورة آل عمران 3: 55. فبذل جهده ليستميلهم وخاصة وفد وادي نجران النصراني إلى الإسلام. ووَعَى أنه سيفشل من الجهة الروحية لو لم ينجح في كسب هؤلاء القادة النصارى للإسلام بالحجج الماهرة والقصص الكتابية المقتبسة، وأدرك أن النصارى سيظلون مصدر تهديد على المسلمين بحججهم الأرقى وأسلوب معيشتهم المهذبة، الصادرة من محبتهم. وتمنى محمد أن يستغل هذه المواهب حتى حاول جذب النصارى إليه وعرض عليهم حقاً شرعياً كأقلية نصرانية في دولة إسلامية. وقد اعترف بهذا الامتياز أنهم تلقَّوا هداية إلهية ووحياً خاصاً من المسيح، الذي هو كلمة الله المتجسد. وحاول أن يرضيهم ويتسامح معهم ليقرّبهم من الإسلام عن طريق اللطف والإحسان، فقال:
«46 وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورُ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ 47 وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» سورة المائدة 5: 46-47.
لقد دخلت هذه الآية الفريدة المهمة لكل المسيحيين الساكنين في بلدان إسلامية إلى شريعة الإسلام رسمياً ومنحتهم حق البقاء وأمناً إلى حد ما.
وكان السبب الروحي لهذا الإعلان أن محمداً اعتبر الإنجيل وحياً مباشراً من الله للمسيح ابن مريم واعترف بأنه يحتوي على الهدى الإلهي. نقرأ مراراً في القرآن أن الله يهدي من يشاء ويضلمن يشاء سورة الرعد 13: 27< إبرهيم 14: 4< النحل 16: 93< فاطر 35: 8< المدثر 74: 31. فيما يقبل المسلمون أن يحتوي الإنجيل على هدى إلهي، يقدرون أن يدركوا أن الجنة من نصيب النصارى بناءً على إرادة الله الظاهرة في هداه المتضمن في الإنجيل.
يدعم هذا التصريح العجيب لفظ آخر هو كلمة «نور». فكان محمد يلاحظ أن النور الروحي يشع من الإنجيل وهو نور شافٍ صادر من عند الله. لم يُرِد محمد أن يعترف بأن المسيح ذاته هو نور العالم، أو أن أتباعه يعكسون نوره كأنوار باهرة في دنيانا، لكنه لم يقدر أن ينكر أن النور المقدس يشرق من الإنجيل. فلا يمشي أتباع المسيح في الظلمة بل يتقدمون في النور إلى أبيهم السماوي.
تمادى محمد فصرح بأن إنجيل المسيح يصدِّق على التوراة بوصفه وحياً من الله. وكان يوضح في بداية هذه الآية أن المسيح أتى ليصدّق على أسفار العهد القديم مظهراً مرتين تثبيتاً لعصمة التوراة في هذه الفقرة. وكرر محمد اللفظ الإسلامي الرئيسي «هدى»، واستعمله كأساس توافقٍ منسجم بين التوراة والإنجيل. فلماذا يدّعي بعض المسلمين أن الكتاب المقدس محرَّف بينما يؤكد القرآن سلامته؟
وسمع محمد أن الإنجيل يتضمن موعظة خاصة وتحذيراً للمؤمنين، ولا يفطن إليها إلا الأتقياء الذين يتجاوبون بها. كان محمد قد حاول دراسة التوراة والإنجيل وراقب من خلالها حياة اليهود وسيرة النصارى بحرص شديد، فتعرَّف على الثمار الروحية النابعة من الهدى الإلهي وتعجّب خاصة بالسلوك المسيحي، فأراد تقريبهم إلى الإسلام بتسامحه الكريم وشحن اعترافه الأريب بعبارات مسيحية، فأطلق على النصارى اسم أهل الإنجيل، وهو اسم محترم، كان معناه أنهم دائماً يتحدثون عن العهد الجديد، وتملأهم كلماته فيعيشون بحسبها. بل حذر محمد بعض المتحررين من النصارى أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل سورة المائدة 5: 68. وأقر محمد بهذا الاعتراف ولو بطريق غير مباشر بأن الإنجيل ملآنٌ قوة إلهية تستطيع أن تقدّس قراءه إلى التمام.
ولما استتبَّ الأمر لمحمد في المدينة كحاكم ومُشرِّع وقاضٍ، أعلن أن للنصارى امتياز اتخاذ القرارات والأحكام الخاصة بشؤون جاليتهم وفقاً للمبادئ المكتوبة في الإنجيل. ولأجل هذا الحق، أرغم زعماء المسلمين بعدئذ، البطاركة والأساقفة في مختلف كنائس الشرق الأوسط، ليس فقط أن يقوموا بوظيفة القادة الروحيين، بل أن يمارسوا أيضاً بعض السلطة السياسية في رعويتهم فأصبحوا الممثلين السياسيين والقضاة وجباة الضرائب. وكان على الأساقفة أن يحكموا كنبلاء وأمراء مستقلين، يتمتعون بحريّة محدودة طالما عاشوا بتواضع وطاعة للشريعة الإسلامية في بلادهم. وكانوا يشرعون تنظيم الطقوس الكنسية وشؤون عائلاتهم ومسائل الزواج والميراث بحسب المعايير المكتوبة في الإنجيل. حتى وإن كانت هذه المبادئ على خلاف نصوص القرآن.
وشجع محمد رجال الدين النصارى أن يتصرفوا بصرامة في الحكم، وأن يقاطعوا جميع النصارى الذين لا يتمسكون بأحكام الإنجيل معتبرينهم متمردين فاسقين كافرين، لأنهم لم يُوَفُّوا المتطلبات الشرعية للبر الإلهي. فكل من وُلد مسيحياً في أغلب البلاد الإسلامية، كان عليه أن يعيش في ظل الشريعة الدينية لمجتمعه المسيحي. فليس له حرية أن يفعل ما يريده، بل عليه أن يحيا ويتزوج ويتصرف كمسيحي. أما حركة التعديلات مثل الإصلاح حسب الإنجيل مع تكوين الطوائف والشِيَع المتنوعة مثل البروتستانتية، فلا يُعتَرف بها. وينبغي على الأسقف أن يحارب أي دخلاء مثل هؤلاء المبشرين المتجددين الذين يحاولون إصلاح قطيعه.
ولكن هذه الحرية المحدودة المُباحة للنصارى لا تعني أنه مسموح لهم أن يبشروا المسلمين، فهذه المحاولة محسوبة فتنة أشدّ من القتل سورة البقرة 2: 217!
لا يمكن للمسيحيين أن يمارسوا مسيحيتهم إلا في حدود كنائسهم وداخل جدران بيوتهم. وكل من يتخطى هذه الحدود الدينية يلحقه العقاب السريع، إذ فرض المسلمون على هذا المجتمع المسيحي ألاّ يبشر المسلمين. هذا الالتزام هو أحد الأسباب التي تجعل الأساقفة والكهنة يمنعون أي كرازة مسيحية بين المسلمين. بل إنهم يبلغون بعض المرات السلطات الإسلامية عن هذه الأنشطة لينقذوا جماعتهم الخاصة من بطش الحكومة وعقابها الصارم.
حاول محمد إرضاء المسيحيين ليشعروا بالأمن والرضى تحت نير الإسلام، وفكر أنهم يقبلونه أخيراً لأنه الدين الأفضل. قد ينخدع مَن لا يعرف الإسلام حق المعرفة ويتعجب بهذه السماحة الكريمة والحرية المحدودة. لكن محمداً تصرف كذئب في ثياب الحملان، سالكاً كل الطرق الممكنة لجذب المسيحيين، ولأنه كان مقتنعاً بأن الإسلام هو أفضل وآخر دين، ظن أن كل إنسان عاقل لا يقدر إلا أن يقبل الإسلام عن طيب خاطر.
وبعد أن جرب محمد أفضل ما عنده من كلام، وكرم، ومنحٍ لحقوق قضائية، واستقلال محدود، وبعد تقديمه التبجيل والاحترام للنصارى، استبدّ به الحزن والغضب العميق. فقد أدرك أن القادة المسيحيين الأمناء، على الرغم من حسن استماعهم، بقوا مسيحيين ولم يقتربوا من الإسلام. فترجم رفضهم للإسلام على أنه إهانة واحتقار موجه له شخصياً، لأنهم لم يقبلوه نبياً ورفضوا أن يعترفوا به رسولاً لله. بل لم يطيعوا أقواله ولم يقبلوا شريعته على أنها شريعة إلهية. كان رفضهم لمحمد هزيمةً له، ومحاولة لتقويض دعائم سلطته. فتزايد كراهيةً لهم وناصبهم العداء. غير أنه استمر في تسمية النصارى ألطف وأفضل أعداء الإسلام سورة المائدة 5: 82< لأنه وجدهم يعطفون حتى على خصومهم، بل أظهروا حباً حتى لأعدائهم بلا أثر للكبرياء. قد تعجّب محمد من أتباع المسيح حتى في كراهيته لهم! فعندما سمع نبأ موت النجاشي في الحبشة، صلى لأجله صلاة الدفن الإسلامية المعينة للمسلمين المخلصين فقط مسند، ج 3، 255.
لكن ليطمئن قومه ويؤكد لهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح، ابتدأ يهاجم جميع النصارى في شبه جزيرة العرب وأخضعهم لنير الإسلام. وربما كان الدافع لهذه الهجمات الانتقام الشخصي. فهو سبق وحذَّر النصارى من العقاب الشديد الذي سيحيق بالكافرين قاطبةً سورة آل عمران 56: 3، لكنهم لم يثقوا في كلامه. فما كان من محمد إلاّ أن استنتج أنه يتحتّم عليه سحقهم لينقذ الإسلام. فلا يقدر المسلمون أن يشعروا بأن الله مع المنتصرين إلاّ إذا انتصروا أيضاً على اليهود والنصارى كلهم.-2إِخْضَاعُ أَهْل وَادِي نجْرَانوَطَرْدُهُم نِهَائِيًّا مِن الجزِيرَة الْعَرَبِيًّة
بعد ثلاثة أيام من الحوار الديني في المسجد الجامع بالمدينة، غادر أسقفُ وادي نجران أبو الحارثة بن علقمة والملك العاقب عبد المسيح مع الوفد النصراني الذي بلغ عدده ستون رجلاً، غادروا محمداً والمسلمين بعد أن رفضوا الإسلام في نهاية المباحثة. وكان المسيحيون يشهدون أنهم قد أسلموا لله قبل ظهور محمد بوقت طويل. لكن لم يعتبر محمد إسلامهم إسلاماً حقاً، حيث أنهم لم يستسلموا له كخاتم الأنبياء. ولم ينتظر طويلاً إلى أن أرسل محمد فرسانه ليُدَاهِم هذه المملكة النصرانية ويقهرها، بعدما برَّر حقّه في إخضاع اهل النصارى المحترمين بوحي إلهي مزعوم ينطوي على أحد التصريحات الأكثر سلبية في القرآن تجاه النصارى واليهود:
«29 قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ 30 وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ الْنَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» سورة التوبة 9: 29-30.
أمر محمد شراذم جنوده بالانتشار في شبه جزيرة العرب ليقهر القبائل البدوية الواحدة تلو الأخرى. وكان اليهود والنصارى، الذين سمّاهم قبلاً «أهل الكتاب» هم الذين ينبغي مقاتلتهم بالأسلحة الفتاكة حتى يستسلموا لمحمد. وعادة تُعَدُّ الحرب في السياسة بين الشعوب آخر ملجإٍ يُستَعان به عند فشل الحوار المقنع المفيد. ولمَّا كان محمد قد أمر جيوشه بقتال اليهود والنصارى، فقد أقَّر بهذه الإرسالية أنه لم يجد فيما بعد حجة بناءة ليقنعهم بقبول الإسلام. ولا عجب في ذلك، لأن اليهود والنصارى كانوا أوفر حظاً من جهة العلم والمعرفة من المسلمين. لذلك لم يرَ محمد منفذاً إلا أن يقهر أهل الكتاب لكي لا يقع المسلم فريسة للإغراء، فيرتد عن الإسلام ويقبل إحدى هاتين الديانتين السماويتين.
عزَّز محمد قراره للهجوم على النصارى فقهياً وشرعياً بصورة دقيقة، لأن عامة المسلمين لم يُجمِعوا معه على مهاجمة أهل وادي نجران الشرفاء، المثقفين. لذلك أوضح محمد إلى المسلمين بأن:
1 اليهود والنصارى لا يؤمنون بنفس الإله الذي يؤمن به المسلمون، بل يؤمنون بيهوه الرب أو بأبي يسوع المسيح، وليس بإله العرب.
2 وهم لا يؤمنون بيوم الدينونة حسب مبدأ البر الذاتي المؤسس على الأعمال الصالحة. إنما يؤمنون عوض ذلك بامتياز النعمة المُعلَنة في العهدين القديم والجديد، والتمسك بدم المسيح المسفوك الذي يكفر عنهم.
3 هم لا يقبلون الشريعة الإسلامية باعتبارها من وحي الله ، بل على أنها من صياغة محمد، التي تنص على أحقية الرجل في التزوج من أربع نساء وتطليقهن وفقاً لهواه الشخصي.
4 هم لا يحكمون بنفس الطريقة التي حكم بها محمد. فلم ينفذوا عقوباته الصارمة من قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في حالة السرقة، أو الجلد بالسياط، بل وحتى الرجم بالحجارة في حالة الزنى البائن.
رفض اليهود أن يتبعوا ديانة محمد البدوية لأنهم كانوا يتبعون موسى كليم الله. أما النصارى فكانوا يتبعون المسيح ابن الله، الذي فتح أمامهم الطريق إلى الآب السماوي ومنحهم قوة روح المحبة وأعطاهم الحياة الأبدية.
أصرَّ محمد على أنه ينبغي مقاتلة اليهود بالأسلحة الفتاكة، رغم أنهم أولاد إبراهيم< وقرر الهجوم على النصارى، رغم أنهم يتبعون نسل آل عمران، حتى يؤول بهم الحال إلى الانكسار من جرَّاء الضغط المستمر والاستهزاء المرير. ويتم من خلال هذا الاضطهاد حثُّهم، بل وإجبارهم، على قبول الإسلام. فإذا لم يقبلوا هذا الدين طوعًا، فلسوف يُسلمون كَرهًا. إن كلمة «الإسلام» لا تعني القبول الروحي فحسب، بل بنفس الوقت استسلاماً غير مشروط لله مقرونا بخضوع للنظام السياسي المحمدي 29/1.
29/1 - الإسلام في اصطلاح العلماء «إظهار الخضوع والقبول لما أتى به سيدنا رسول الله ص وبه يحقن الدم» ابن منظور، لسان العرب ج 13، ص 27، بيروت 1990.
ليس الإسلام ديناً فحسب، بل هو دين الدولة، أو دولة مبنية على الدين. بكل شرائعها وتَعَنُّتها وتَعَسُّفها. وقد ألحق محمد بهذا التوضيح ثلاثة بنود جزائية خاصة بأهل الكتاب، يتعيّن تطبيقها عليهم بعد استسلامهم للمسلمين:
1 عليهم أن يدفعوا جزية باعتبارهم من الموالي أو الذميين أي أقلية غير مسلمة. ولم يحدد محمد مقدارها بل تركها خاضعة لأهواء الحاكم المسلم، الذي كان لمّا يحتاج إلى المزيد من المال، يُضيِّق الخناق على اليهود والنصارى، وكان على البالغين من العمر منهم أن يدفعوا الجزية عن أنفسهم وممتلكاتهم، بل وأحياناً عن بهائمهم أيضاً، وعن أشجارهم بين الحين والحين. وخُوِّلت بعض المرات مسؤولية جمع الضرائب للأساقفة الذين أدَّوا مهمتهم بأمانة.
2 على كل فرد أن يدفع هذه الجزية بنفسه. لم يستطع اليهود والنصارى إنابة عبد أو مندوب عنهم للقيام بدفع هذه الجزية المؤلمة، بل كان يتعين على كل واحد منهم أن يتقدم شخصياً إلى مندوبي الحاكم. وكان كثيراً ما يصيبهم الاستهزاء والشتم، بل والضرب أيضاً. كانت هذه الجزية في نظر الفقهاء المسلمين بمثابة إذلال وعقاب لعدم قبولهم الإسلام. فلم يعنِ دفع هذه الضريبة الخاصة مجرد تأدية ضريبة عادية، بل اقترنت بالاحتقار والخزي العلني. وقام المفسرون والمشرعون بوصف وتطوير عدة بنود جزائية مستهجنة لوضع هذه التفرقة في حيز التطبيق أثناء تأدية الجزية الطبري ، ج 10، ص 109 وما بعدها < ابن كثير ج 2، ص 34 وما بعدها.
3 كان على النصارى الإقرار بأنهم طبقة دنيا من الناس، وأنهم كالشمعة التي تضمحل بلا صوت، دون مستقبل خاص بهم وبأولادهم. كان ينبغي الحط من سُمُوِّهم والتقليل من شأنهم. لم يشأ محمد أن يقهرهم فحسب، بل أراد تشويه سمعتهم والانتقاص من كرامتهم وإزالة قوتهم. وثبَّت الشعار «إن الله مع المنتصرين» وأن إله اليهود والنصارى مستعد أن ينصرهم لأنه تخلى عن شعبه المتمرد الحقير.
لكن ما هي الخطية الشنيعة التي اقترفها أهل الكتاب؟ لماذا أثاروا حفيظة محمد إلى هذا الحد البعيد؟
يظهر أن الدافع الباطني لهذا الحكم هو أنهم لم يقبلوا محمداً كنبي من الله، ولم يعتبروا الإسلام ديناً سماوياً. وجعل رفضهم سلطة محمد الدينية والسياسية، بل والوجود الإسلامي ذاته محفوفاً بالخطر، فشعر محمد بأنه مضطر لإخضاع أهل الكتاب ومحوهم من شبه الجزيرة العربية.
لكن ما هو الاتهام الذي وجَّهه محمد ظاهراً أو رسمياً لليهود؟ كان يزعم أنهم قالوا إِنَّ عُزَيْرا عزرا النبي ابن الله. كان عزرا قائداً دينياً وسياسياً وقاد نخبة اليهود المسبيين إلى بابل وعاد بهم إلى القدس ليؤسس المملكة اليهودية عام 458 ق. م. قد ربط محمد حكمه على اليهود بالزعيم السياسي الذي أسس مملكة يهودية، وليس بأحد الأنبياء، ولا بآباء الإيمان. فرفض عزرا لأنه أعاد لليهود ثقتهم بنفسهم كأمة وشعب. لا يوجد دليل في تاريخ اليهود أنهم ألّهوا عزرا إلا أن البعض منهم أكرمه أكثر من موسى. ويعلن العهد القديم العبادة للرب الواحد بالصراحة: «اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ» مرقس 12: 29-30 نقلا عن التثنية 6: 4 و5 ولاويين 19: 18. فلم يكن ثمة إله آخر في اليهودية بجانب يهوه. وبنى محمد حكمه على اليهود على شكوك وظنون وهمية، لمجرد أن يجد علة مشروعة لمهاجمتهم.
أما النصارى فكان من اليسير على محمد إدانتهم، لأنهم اعترفوا له جهراً بأن المسيح هو ابن الله المتجسد، ذو الجوهر والقدرة الإلهية والمحبة والقداسة. لقد أعطى محمد المسيحَ مكانة سامية، وأفرد له في قرآنه زهاء المائة آية. غير أنه رفض ألوهيته وكتب في القرآن 17 مرة أن ليس لله ولد. وحسب محمد أنه لو كان المسيح إلهاً حقاً في جسد إنسان، لكان أعظم شأناً من محمد، حاكم المدينة. فقبل بعض الحجج اليهودية المعادية للمسيحية التي تنكر ألوهية المسيح وفداءه للبشر على الصليب. وكان محمد يكره فكرة النبي المصلوب، لأن هذه الفكرة تتضمن الإمكانية أن يعاقبه الله بذات العقوبة. لعن محمد النصارى لأنهم دأبوا على خرق قانون الإيمان الإسلامي القائل بأن: «لا إله إلاّ الله» في اعترافهم بابن العلي المصلوب وبألوهية الروح القدس. فشتم ولعن المسيحيين طالباً من الله أن يقتل كل النصارى فوراً لأنهم يعترفون بأن عيسى هو ابن الله.
ولكن لا يزال بين المسيحيين أشخاص مثاليون أو إنسانيون Humanistic يأملون أن يتفتَّق الحوار المخلص مع المسلمين عن قاسم مشترك بين هاتين الديانتين. إن الغشاوة تطمس أعين هؤلاء الأشخاص، فلا تدعهم يرون روح الإسلام على حقيقته. فطالما بقيت هذه اللعنة الصارمة ضد جميع أتباع المسيح مكتوبة في القرآن ومحفورة في عقول المسلمين، يكون تعضيدهم للنصارى أو إعجابهم بهم إما من الجهل أو الخداع.
تحوَّل الكثيرون من نصارى وادي نجران عن إيمانهم بعد نجاح حملة المسلمين إلى الإسلام إما بدافع من الخوف أو لأنهم كانوا مضطرين أن يدفعوا الجزية لمحمد، الذي ضمن لهم حياتهم وممتلكاتهم وحرية العبادة داخل صوامعهم وبِيَعهم. ونورد هنا العهد الذي أملاه الخليفة عمر بن الخطاب على نصارى دمشق المهزومين، الذي يشير غالباً إلى مضمون ضمان الحماية الذي وقَّعه محمد لنصارى وادي نجران:
خدني الحنين لعينيكي حبيتو من وقتها
بحلم سنين ألاقيكي و أنسى الجراح بعدها
وبقيتي من قسمتي عشقي ونور دنيتي
ما شافتش قبلك عيوني وعليكي فتّحتها
المسيح يحمينا
jesus i trust in you
أنا هو القيامة والحياة من يتبعني لايمشي في الظلمة
|