عرض مشاركة واحدة
قديم 03/07/2005   #5
شب و شيخ الشباب Syria Man
عضو
-- مستشــــــــــار --
 
الصورة الرمزية لـ Syria Man
Syria Man is offline
 
نورنا ب:
May 2005
المطرح:
بين الزحام أدوب ...................... وارحل بين الدروب
مشاركات:
5,240

إرسال خطاب MSN إلى Syria Man إرسال خطاب Yahoo إلى Syria Man
افتراضي


اِدَّعى محمد مرة ثانية في الآية 42 أن أكثر من ملاك ظهر لمريم، وليس الملاك جبرائيل جبريل وحده 42/1. ثم أبلغت الملائكةُ مريمَ أن الله اختارها، وقالوا لها: «يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصطفاكِ وَطَهَّرَكِ واصطفاكِ عَلَى نِسَاءَ الْعَالَمِينَ». ومريم هي الوحيدة بين النساء التي يعتبرها المسلمون مصطفاة من الله في جميع العصور. والله لم يصطفِها فحسب، بل وطهَّرها أيضاً. لا يعتبر المسلمون أنها خاطئة أو أنها ورثت الخطية عن أبويها، إنما يرون أنها احتاجت إلى تطهيرٍ من الله لتنال شرف النبوة.

42/1 - انظر «هل القرآن معصوم؟» Light of Life

نالت مريم من محمد تبجيلاً لم تنله امرأة أخرى، فقد نسب لها أعلى مرتبة حظيت بها امرأة ذكرها القرآن. فهي في المفهوم القرآني المرأة الفريدة بين نساء العالمين، سواء على الأرض أو في السماء. ومقدار الاحترام والتبجيل الممنوحين لمريم في الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية أثر على التكريم الممنوح لها في الإسلام إلى حدٍّ كبيرٍ.

بيد أنه بعدما جعلها محمد محترمة ومكرَّمة بما يماثل طريقة تكريم بعض النصارى لها، أسرع بالحطّ من سموها وجعلها على مستوى مسلمة صالحة، وصوَّرها كأنها تنضم إلى صفوف من النساء المسلمات الساجدات لله خمس مراتٍ كل يوم. ونرى في وصف محمد مثالاً نموذجياً على الأسلوب الذي صاغ به رسالته للنصارى. فمن ناحيةٍ سمح لهم أن يسمعوا ما يريدون سماعه، فاعترف بأن مريم أفضل النساء قاطبة. ومن الناحية الأخرى، شكَّلها بحسب الصورة التي أرضت المجتمع الإسلامي. وكان محمد يرتكز على هذه الألعوبة خاصة عند عقد صفقاته التي تهدف إلى استمالة النصارى إلى الإسلام، فيقبل بعض مفاهيمهم، ويحترم تكريمهم للسيدة العذراء ويشجعهم بنفس الوقت على الموافقة والتصديق أن هناك مواضع مشتركة كثيرة بين المسلمين والنصارى.

إن محمداً لم يكتفِ بتقديم مريم على أنها سيدة النساء عبر الأجيال والعصور، بل زاد على ذلك أنْ جعلها في الآية 43 إمامًا تَؤُمّ المسلمات جميعاً في صلاة الجماعة 43/1.

43/1 - إن فاطمة بنت محمد هي الوحيدة عند المسلمين وخاصة لدى الشيعة حيث تتمتع بجانب مريم بنفس المكانة العليا. ومن ألقابها عند الشيعة «سيدة نساء العالمين، مشكاة أنوار أئمة الدين وزوجة أشرف الوصيين البتول العذراء» محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 43، ص 2، تهران 1963.

الآية 44 هي جملة اعتراضية، يجيب فيها محمد على سؤال قاطع متأخر عن زكريا وكيف كان يحق له أن يتبنى مريم البنت. فأظهر أن جبريل ألهمه جواباً منفصلاً على هذه القضية الدقيقة. ولعل مريم كانت تأتي بما فاض عنها من طعام الجنة إلى أسرتها مما أدَّى إلى إقبال الكثيرين على كفالتها، ووافق جميعهم على إلقاء أسهمٍ بالطريقة الوثنية القديمة التي كانت تمارَس أمام الأوثان في مكة قبل الإسلام. وباستخدامهم هذه الطريقة كانوا يرجون معرفة الشخص المناسب، بإرشاد الأرواح والآلهة. لقد وافق محمد على هذا الأسلوب وصدَّق عليه، وكيف لا وهو نفسه كان قد استعمله من قبل أمام أوثان مكة، فأدخل هذه العادة السحرية إلى الإسلام.

والآية 45 في سورة آل عمران مهمة كل الأهمية لأي مسيحي يتعاون مع المسلمين، لأن محمداً لخَّص فيها ستة من ألقاب المسيح الواحد والعشرين المذكورة في القرآن. لقد كشف عمَّا كان بمقدوره أن يوافق على صفات المسيح ليرضي سامعيه النصارى، مُقدِّما آراءه كأساس لمزيدٍ من البحوث والنقاش. وهو لم يذكر الصفات التي ما كان يؤمن بها عن المسيح والتي كان يرفضها. إن هذه الآية تبقى إلى اليوم مفتاحًا للنقاش النافع البناء مع المسلمين. فينبغي على المسيحيين أن يحفظوها عن ظهر قلب!

«إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مِرْيَمَ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» سورة آل عمران 3: 45.

تُعَدُّ هذه الكلمات عند المسلمين وحياً ووعداً من الله لمريم العذراء حملته الملائكة عَمَّن سيكون المسيح. تُعيّن هذه الصفات الست إطار كل ما يُسمَح للمسلمين أن يؤمنوا به عن المسيح، وتضع الخط الفاصل بين ما يمكن للمسلمين قبوله فيما يختص بابن مريم وما يجب رفضه.

روى محمد أن الله خاطب مريم شخصياً بواسطة جماعة من الملائكة، وليس بواسطة إنسان أو نبي أو عرَّاف. ولذلك يُقدر المسلمون مريم أنها النبية الوحيدة التي لها اتصال مباشر مع الله، فتحمل تقريباً نفس مكانة محمد، بل وأعلى من ذلك في بعض النواحي. وكفى أن سورة 19 تحمل اسمها عنوانًا وموضوعاً، وتُرقِّيها إلى رتبة آية الله، أي علامة أو معجزة الله.

تبدأ الآية 45 بعبارة مدهشة: إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ. فالقادر على كل شيء بشّر مريم بنفسه، وكرز لها بالإنجيل. والقرآن يعلن أن الله هو المبشر الأول! فإذا كان المسلمون حانقين على النصارى لأجل نشاطاتهم التبشيرية، فيجب على خدام الرب أن يعلنوا لهم أنهم إنما يحذون حذو الله! فإن كان هو أول من بلغ مريم بالبُشرى، فعلينا نحن أيضاً ألاَّ نصمت أو نخبِّئ ما قد أعلنه الله في القرآن والإنجيل.

تقول هذه الآية: إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ. يظهر هذا التعبير كلمة منه أحد أسماء المسيح في القرآن< لأن كلمة منه لا تدل على مجرد كلمة، بل على شخص فريد. قد وضع هذا التعبير تجسد كلمة الله موضع التنفيذ، لأن علماء المسلمين مُجمِعون على أن هذه الكلمة لم يُنطَق بها ولم تُسمَع بالآذان، بل على أنها شخص 45/1.

45/1 - يروي الطبري أن «كلمة» اسم لعيسى سماه الله بها جامع البيان، ج 3 ص 69

وأما فخر الدين الرازي فيقول في تفسيره: «إن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل الله في أرضه وبأنه نور الله لما أنه سبب لظهور ظل العدل ونور الإحسان فكذلك كان عيسى عليه السلام سبباً لظهور كلام الله عز وجل بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه... فلا يبعد أن يسمى بكلمة الله» مفاتيح الغيب، ج 8، ص 48.

هذه واحدة من ست آيات يُدعى المسيح فيها كلمة الله المتجسد. ربما سمع محمد رسالة إنجيل يوحنا 1: 1-14، فَرَاق له التعبير إن في البدء كان الكلمة... ولكنه لم يَعِ معناه بالكامل. فنقرأ في الإنجيل حسب البشير يوحنا: «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ». فحذف محمد مجده من الآية الكريمة، واقتبس وصدَّق أن عيسى هو كلمة الله المتجسد.

يسمّي القرآن إبراهيم خليل الله، وموسى النبي كليم الله، وأعطى الرب لداود الزبور المزامير الممتلئ بالتسبيح لله. ونال سليمان من الله حكمةً استطاع بها أن يفهم حتى لغة الطير سورة النمل 27: 16، وتلقى زكريا بشارةً شخصية من القدير الذي أوحى إلى هؤلاء الأنبياء بكلمته. فنطقوا بها بمستويات متباينة من الأمانة، ما عدا المسيح. فهو لم يسمع كلمة الله فحسب، بل كان هو ذات الكلمة! سمع جميع الأنبياء كلمة الله وبلَّغوها، ولكن دون أن يتبعوها كاملةً. كان هناك فرق شاسع بين أقوالهم وأفعالهم. أما المسيح فلم يكن ثمة تعارض أو تضارب بين رسالته وحياته. أتمّ الكلمة التي وعظ بها بشهادة حياته. كان هو نفسه زكياً ومُنزَّها عن الخطية والدَّنس سورة مريم 19: 19. ويشير اصطلاح كلمة الله إلى طبيعته اللاهوتية.. لقد حلّ كل سلطان وقدرة كلمة الله في المسيح وفيه قدرة الخلق، والشفاء، وسلطان غفران الخطايا، والتعزية، والتجديد. قد ظهرت فيه مشيئة الله في هيئة جسدية. هو لم يتكلم الكلمة التي استُؤمِن عليها فقط، بل عاشها وكان هو هي. وبمقدور المسلمين أن يدركوا هذه الحقيقة من القرآن.. إن شاءوا!

في الإسلام صار الوحي إلى محمد كتاباً، أما في المسيحية فإن إعلان الله قد صار بشراً! يؤمن النصارى أن إرادة الله، وقدرته وسلطانه صارا جسداً في المسيح. ويطلب المزيد من المسلمين في العالم من النصارى الصلاة الشفاعية لأجلهم ويشفيهم المسيح لإيمانهم المسَلَّم إنه كلمة الله الشافي القدير. ويعمل الله ذاته في كلمته والله هو كلمته بالذات يوحنا 1: 1.

أدرك علماء الإسلام بعد محمد هذا الجوهر الجلي ولم يألوا جهداً لتبسيط هذا الاصطلاح، فادّعوا أن كلمة الله في المسيح كانت مخلوقة، وأنها لم تولد ولم تنبثق من الله مباشرةً. وأما عن القرآن فقالوا إنه حضور الله بالذات، أما المسيح فقد اعتبروه مخلوقاً غير مولود. حاولوا بقدر استطاعتهم أن ينزلوا المسيح إلى مستوى البشر حتى يُطمَس ثم يختفي مجده الإلهي، الذي يسطع حتى في القرآن.

أما اللقب الثاني لابن مريم في القرآن فهو المسيح المسيَّا. وبينما يرد لقب كلمة الله خمس أو ست مرات، يظهر لقب «المسيح» إحدى عشرة مرة. وهو مشتق من الفعل مَسَحَ، الذي يعني: أَمَرَّ اليَدَ عليه بالماء أو الدهن، أو غسل، أو أزال الأثر. وكلمة المسيح هي صيغة مبالغة على وزن فعيل وتعني «الممسوح». وتحتوي على أكثرية معاني لقب المسيح الأصيل. غير أن المسلمين وبعض النصارى يظنون أن هذا اللقب مجرد اسم. فلنتذكر كيف عرَّف المسيح نفسه بوصفه الممسوح عندما قرأ بصوتٍ عالٍ في المجمع بمدينة الناصرة:

«رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ» إشعياء 61: 1 و2 ولوقا 4: 18 و19.

كشف المسيح في هذه الآية من الإنجيل عن معنى لقبه. إنه الممسوح. وهذا يصف وظيفته وسلطانه. لقد مُسح في زمن التوراة ملوك وأنبياء وكهنة عديدون بدُهن زيت مقدس لينالوا قوة الله وسلطانه ليستطيعوا أن يتمموا دعوتهم. ويجمع النصارى أن المسيح هو ملك الملوك، ورئيس الكهنة الأبدي، وكلمة الله المتجسد، لأن ملء السلطان الإلهي يحلّ فيه جسدياً. وأعلن المسيح أن كل سلطان في السماء وعلى الأرض قد دُفِع إليه متى 28: 18. ولا يعرف المسلمون، ولا يدركون، هذه الحقيقة الروحية، فيستخدمون هذا اللقب كاسم بعد أن أفرغوه من مُحتواه. هذا أسلوب على طريقة محمد. قد استعمل الاصطلاح بعد أن أفرغه وأبدل محتواه الأصلي بمعنى إسلامي.

يظهر اسم عيسى 25 مرة في القرآن، غير أن معناه في القرآن ليس كمعناه في الإنجيل. فاسم يسوع كان معروفاً وموجوداً في اللغة العربية منذ يوم الخمسين، وهو تعريب لكلمة يَشُوع العبرانية. إلاّ أن محمداً شَوَّه الاسم العربي ليسوع بوضع أول حرف منه في نهايته وآخر حرف منه في بدايته. ونجد عدة تفسيرات تشرح لماذا سمَّى محمد يسوعَ بعيسى. فيقول البعض إن اسم عيسى مأخوذ عن العبيد السريانيين في مكة حسب طريقة نطقهم هذا الاسم اليوناني إيسو. ويقول آخرون إن محمداً غيّر اسم عيسى ليوافق اسم موسى في السجع. بل ويرى بعض العلماء أن قلب أول وآخر حرفين في الاسم يدل على رمي لعنة أو معاملة سحرية. بينما يرى آخرون أن عيسى مأخوذ عن عيسو بن يعقوب المكروه، وقد أطلقت اليهود في شبه جزيرة العرب أيام محمد هذا الاسم على كل مارق فاسد، ثم أطلقوا هذا الاسم المرفوض على يسوع الذي اعتبرته اليهود مبتدعاً في ديانتهم ومضلاً لأمتهم. غير أن أحداً لا يعلم على وجه اليقين سبب تغيير اسم الأسماء هذا في الإسلام. فلا يعرف المسلمون اسم المسيح الحقيقي ولا يدركون معناه وقوته لأن اسم المسيح الشخصي أُفرِغ وأُبدِل بواسطة محمد.

شرح الملاك جبرائيل في متى 1: 21 وأيضاً في لوقا 1: 31 أن اسم ابن مريم سيُدعى يسوع لأنه يخلِّص شعبه من خطاياهم. فمعنى هذا الاسم: أن يهوه يخلص أو يُعِين. ويطمئننا هذا الوصف الإلهي ويمنحنا تعزية كبرى، لأن يسوع قد خلَّصنا بالفعل، وهو ما فتئ يخلص أتباعه من كل خطاياهم. ما أروعه من اسمٍ! فيكشف هذا الاسم الفريد عن خطة الله لخلاص العالم في العهد الجديد، وتُرعب هذه الخطة إبليس، ربما لأنها كامنة في اسم يسوع. فحرَّفه محمد في القرآن إلى عيسى، حتى لا يدرك المسلمون أن يسوع قد خلَّصهم أيضاً من جميع خطاياهم، فاسم عيسى كما هو مكتوب في القرآن مُحرَّف. فيتجاهلون مخلصهم الوحيد ويرفضونه.

ويَرِد لقب «ابن مريم» 23 مرة في القرآن. فالمسلمون لا يدعون يسوع بابن الله بل بابن مريم. ويُعتبر هذا اللقب «ابن مريم» في الشرق الأوسط عاراً وتهكماً. فإذا سُمِّيَ الابن على اسم والدته فهذا يعني أنه مجهول الأب. فأراد محمد أن يُبرِئ ساحة مريم بواسطة سورة آل عمران وسورة مريم ليوضح أن المسيح ما كان ابن سفاحٍ، بل ابنٌ زكي مولود من عذراء. لذلك يحق لكل مسلم مُخْلِص في إيمانه أن يصدق بأن المسيح وُلِد من مريم البتول. لم يعاشرها زوج ولم تُغتصب. إن حبلها بالمسيح كان حبلاً روحياً، بكلمة الله وروحه الطاهر دون تدخل عناصر جسدية.

تقترب معتقدات المسلمين في هذه المسألة من الإيمان النصراني مع اختلاف واحد طفيف، وهو قولهم إن المسيح خُلِق في مريم بكلمة الله. بينما يقرّ قانون الإيمان المسيحي أنه وُلِد فيها. قد يظهر هذا الاختلاف لأغلبية المسلمين والنصارى مثل مماحكة كلامية. ويزعم البعض أن خُلِق يعني في نفس الوقت وُلِد. لكن شتَّان الفرق بين هذا وذاك إذا تعمقنا في المعنى الروحي.

لكي نفهم مصدر هاتين العبارتين والنتائج الروحية التي تترتَّب عليهما، ينفعنا أن نطَّلع على الخلفية التاريخية للنزاع الذي يكتنفهما. عاش بالإسكندرية بمصر نحو عام 300م شيخ واعظ اسمه أريوس جنباً من راهب اسمه أَثَنَاسْيُوس. كان أريوس فيلسوفاً قال إنّ المسيح خُلِق بواسطة كلمة الله في مريم العذراء، ووُلِد في بيت لحم واعتمد من الروح القدس في نهر الأردن، ثم نما في المعرفة والإدراك الروحي حتى بلغ رتبة ابن الله الكاملة عن طريق الاستنارة الروحية سالكاً في طاعة الإيمان. واعترف أريوس أن المسيح مات على الصليب، ودُفِن وقام حيًّا من قبره في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الله أبيه السماوي.

ولم يوافق أثناسيوس على هذا الكلام، وسمّى تعليم أريوس هرطقة وتجديفاً على الله. فأوضح: لو كان المسيح مخلوقاً، لكانت له بداية، وليس له كيان أزلي مثل الله، فإن كان مخلوقاً يشبه الملائكة والشياطين. فصرّح أثناسيوس بأن المسيح انبثق من أبيه السماوي قبل كل الدهور كانبثاق الكلمة من فم قائلها، وأنه إلهٌ أزلي من إلهٍ أزلي. ومولده في بيت لحم لم يكن إلا تجسده، وليس بدايته. وبذل أثناسيوس حياته بالدفاع عن هذه العقيدة، أن المسيح كان موجوداً قبل ميلاده لأنه إله سرمدي.

كان هذان المعتقدان المختلفان الشرارة التي أوقدت نزاعاً محتدماً فتّ عضد الكنائس في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. وشنَّ علماء اللاهوت حرباً عواناً على بعضهم البعض دامت أكثر من 300 عام قبل أن يتفقوا على مسألة طبيعة المسيح. وكانت النتيجة أن الكنيسة انقسمت. ولربّما سمع محمد بعض الأفكار عن هذا النزاع، فقبل ما نفعه من اعتقادات أتباع أريوس في شبه جزيرة العرب.

لقد احتاج الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الكبير إلى كنيسة موحّدة لأجل حكومته، فدعا قادة الكنائس والأساقفة والمطارنة والرهبان معاً، الذين بلغ عددهم 318 رجلاً، وأمرهم بأن يجتمعوا في نيقية عام 325م ليتناقشوا ويصِلوا إلى قرار بشأن طبيعة المسيح لتثبيت وحدة الكنسية. وتمَّ أخيراً تحرير قانون الإيمان النيقاوي نسبةً إلى نيقية المذكورة واتُّفِق عليه. ولا يزال إقرار الإيمان هذا مقبولاً ومحفوظاً لدى الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية على السواء باعتباره القاسم المشترك لإيمانهم. وفيه يعترفون جميعاً أن المسيح: نور من نور ، إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق ، مساوٍ للآب في الجوهر . أما المسلمون فرفضوا هذا القرار وادَّعوا بخلق المسيح مثل كل المخلوقات الأخرى.

لو كان المسيح مخلوقاً، لَكان الله مجرد خالقه، وهو عبده وحسب. ولكن إن كان مولوداً، فالله يكون أباه وهو ابنه. وشارك المسيح أتباعه بامتيازه، حتى يكونوا أولاد أبيهم السماوي وليسوا عبيداً. يتعلق خلاص البشرية بأسرها بهاتين الكلمتين مولود وغيرمخلوق. فيسمِّي المسلمون المسيح ابن مريم فقط، بينما نحن المسيحيين ندعوه ابن الله. وتجد المعيار الروحي لهذه المشكلة في الآيات التالية:

«لَمْ أَكْتُبْ إِلَيْكُمْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ، بَلْ لأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَهُ، وَأَنَّ كُلَّ كَذِبٍ لَيْسَ مِنَ الْحَقِّ مَنْ هُوَ الْكَذَّابُ، إِلَّا الَّذِي يُنْكِرُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ؟ هذَا هُوَ ضِدُّ الْمَسِيحِ، الَّذِي يُنْكِرُ الآبَ وَالِابْنَ كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ الِابْنَ لَيْسَ لَهُ الآبُ أَيْضاً، وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِالِابْنِ فَلَهُ الآبُ أَيْضاً.

أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لا تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ امْتَحِنُوا الأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ لأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالَمِ بِهذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ رُوحٍ لا يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ وَهذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ الْمَسِيحِ الَّذِي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي، وَالآنَ هُوَ فِي الْعَالَمِ. أَنْتُمْ مِنَ اللهِ أَيُّهَا الأَوْلادُ، وَقَدْ غَلَبْتُمُوهُمْ لأَنَّ الَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي فِي الْعَالَمِ» 1يوحنا 2: 21-24 و4: 1-4.

حاول محمد في الآية 45 من سورة آل عمران أن يظهر لوفد وادي نجران النصراني، على الرغم من نكرانه لألوهية المسيح، أنه هو أيضاً مؤمن بالمسيح، واعترف في الكلمات التالية أن المسيح وجيه مكرَّم في الدنيا، وأنه من المقرَّبين لله عزّ وجلّ في الآخرة.

تأتي كلمة وجيه من الوجه، وكأن الوجيه هو صاحب الوجه الكبير. ونحن نرى في وقت الانتخابات وجوه المرشحين على لافتات كبيرة معلَّقة في الشوارع أو مُلصَقة على الحوائط، وما من عابر طريق إلاّ ويقع بصره على صورهم. وكأن القرآن يقول إنه لا يستطيع أحد السير فيهذه الدنيا ولا دخول السماء دون أن يواجه المسيح ويمرّ منه، فهو في الإسلام من أهم الشخصيات في الدنيا وفي الآخرة. غير أنهم لا يعترفون بأنه الطريق الوحيد والحق الرسمي والحياة الأبدية فيعتبرونه واحداً من الطرق المتعددة لله، وكجزءٍ من الحق وليس الحق كله. إلا أنهم يشهدون بأن المسيح حي ويعيش في السماء حقاً.

قرَّظ محمد المسيح كثيراً أمام وفد وادي نجران غير أنه لم يقل الحقيقة كلها. فبحسب الكتاب المقدس المسيح هو الطريق الوحيد، وكل الحق، والحياة الأبدية، وهو أقرّ: «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلَّا بِي» يوحنا 14: 6. وهو جالس عن يمين أبيه، ويسكب روحه على كل من يقبل بإخلاص قلب التبرير المجاني الذي أتمَّه بموته.

يعلق القرآن إن المسيح حي، بخلاف أنفس البشر الآخرين الذين ينتظرون يوم الدينونة. إنه يحيا الحياة الأبدية بالقرب من الله. لم يتلاش المسيح أو يمت حين تقرّب من القدير، فإشعاعات قداسة الله لم تبده لأنه بلا خطية. قدَّم محمد المسيح بهذه الطريقة ليُدهِش النصارى بما يحق أن يؤمن به المسلمون عن شخص المسيح. ففي رأيهم، هو ليس حياً في السماء الثالثة فقط، بل مُقرَّب لله شخصياً! هو ليس منتظراً في المستويات الدَنية كآدم، وموسى، وإبراهيم الذين ينتظرون يوم الدين الذي فيه سيدنون من الله. أما المسيح فهو قريب من الله، مثل الكروبيم والسرافيم.

سمح محمد للمسيح أن يُقترب من الله أكثر من أي شخص آخر، لكنه لم يوافق على أنه جالس عن يمين العظمة، مع العلم أن المسيح يُعتبر في القرآن مُنزهاً عن الخطأ وطاهراً لأنه استطاع أن يقترب من عرش الله. لم يرد محمد أن يعترف بألوهية ابن مريم فوافق باقترابه من الله لا بجلوسه معه على عرش المجد الرؤيا 17: 7. وبهذه الطريقة يظهر روح ضد المسيح مرة ثانية، معترفاً بالحق ومحرِّفاً له في نفس الوقت.

كان للسلاطين العثمانيين عروش ذهبية مرصعة بالأحجار الكريمة تضارع الخيالَ روعةً. ولم تكن هذه العروش كراس لشخص واحد بل تشبه الأرائك الواسعة، حيث يمكن أن يجلس اثنان أو ثلاثة أشخاص بسهولة. وكان أولئك السلاطين يدعون ذوي الامتيازات العالية وأصحاب المكرمة ليجلسوا معهم على عروشهم. ويُصرِّح الكتاب المقدس مراراً أن المسيح جالس عن يمين أبيه على العرش الإلهي مزمور 110: 1 ومتى 22: 44. ولم يستطع محمد أن يسمح للمسيح بهذا الحق. سمح له أن يقترب من الله، ولكن لم يدعه يشترك في سلطان أبيه ومجده. فيعتبر المسلمون المسيح ثاني أعظم شخصية في التاريخ العالمي، بعد محمد، ليس في الماضي فقط بل وفي الحاضر والمستقبل أيضاً.

أما الآية 46 فتذهلنا بما ترويه:

«وَيُكَلِّمُ النَّاس فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ» سورة آل عمران 3: 46.

يعتقد المسلمون أن المسيح قدر أن يتكلم وهو طفل رضيع. فسورة مريم 19: 23-33 تصرِّح بأنه نطق جُملاً كاملة لحظة مولده. لم يحتَج أن يتعلم الكلام، لأن عقله كان كامل النمو منذ مولده.

لماذا يستطيع المسلمون أن يؤمنوا أن المسيح الطفل تكلم منذ مولده؟.. لأنهم يعتقدون أنه كلمة الله المتجسد! ظهر مليئاً بكلمة الله، فائضاً بالحق والحكمة الوفيرة من أول لحظة وُلِد فيها. فبدأ حياته بالكلام، وما انفك يتكلم إلى اليوم. كل كلمة نطق بها كانت وحياً عن أوامر الله ومواعيده.

أخذ محمد هذه الرواية المثيرة للعجب، أن الطفل يسوع قد تكلم بطلاقة وذكاء، من قصة أبوكريفية ملفّقة ومنحولة ابتدعها النصارى السريانيون، وتعود هذه الأسطورة إلى القصص السريانية التي روتها الأمهات لأطفالهنَّ عن الطفل يسوع الحبيب. فنجد هذه النصوص الأصلية في خمسة مصادر مكتوبة مئات السنين قبل الإسلام 46/1.

46/1 يذكر ميشال الحايك في كتابه «المسيح في الإسلام» المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1961 ستة مصادر مسيحية قديمة تتحدث عن كلام يسوع في المهد وهي:

- إنجيل متى المزعوم 31: 1: 3، 31

- إنجيل توما المزعوم 60: 7، 15 في نصه اللاتيني 6: 1-4 والسرياني، 229-221

- إنجيل طفولية سيدنا، 48-49

- وإنجيل الطفولة الأرمني 20

- هذه القصة قديمة ذكرها القديس أريناوس عن إنجيل مرقسي منحول الآباء الرسوليون 7: 655

وكان محمد قد سمع هذه القصة من عبيدٍ سريانيين بمكة، ولم يقدر أن يميِّز بين مرويات الدَّهماء وبين الوحي الإلهي الصحيح، فيتضح أنه ما كان نبياً بل طالب الحق حنيفاً. لم يقبل أحبار النصارى هذه القصة الوهمية لعلمهم الأكيد بعدم صحتها. ولم تؤكّد مريم العذراء هذا الحادث عندما زارها لوقا الطبيب اليوناني، وتحرَّى عن التفاصيل المتعلقة بميلاد المسيح.

اعتبر محمد هذه القصة ممكنة، وربما لم يصدقها بكل جوارحه، إنما سردها على قادة النصارى اليمنيين ليستميلهم للإسلام. فأراد أن يقنعهم بأنه يؤمن بالمسيح أكثر مما هم كانوا يؤمنون به.

اعترف محمد أيضاً أن المسيح من الصالحين. وهنا استعمل ذات الكلمة الواردة في الكتاب المقدس لوصف الله في إعلان يسوع أن ليس أحد صالحاً إلاّ واحد وهو الله متى 19: 17 ومرقس 10: 18 ولوقا 18: 19. لكن الخمسمائة ألف نبي أو أكثر في الإسلام يُدعون صالحين لأن المسلمين يعتقدون أن الرسالة الصالحة لا تأتي إلاّ من مصدر صالح. لذلك ينظرون إلى المسيح على أنه صالح. فيحبونه ويكرِّمونه، ولكن لا يعترفون أبداً بألوهيته. وكل من يقول إن المسيح هو الصالح الوحيد، وإن صلاحه مثل صلاح الله، فلا يعتبر فيما بعد مسلماً. لا يمانعون الشهادة بأن المسيح قريب من الله، ويعتبرونه من أفضل رسل الله، ولكنهم لا يؤمنون بلاهوته.

وجاوبت مريم بحسب الآية 47 بتحفّظ شديد على إعلان الملائكة فقالت: «رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟» لا يعتبر المسلم هذه الآية من كلام مريم المباشر، ولا يرى فيها رأي محمد الشخصي، بل يقبلها وحياً من الله. فيظن المسلمون أن الله أرسل الملاك جبريل لمحمد، بعد تبشير مريم بميلاد المسيح في الناصرة ب 600 عام، ليؤكد له أن مريم لم يمسسها بشر! لقد اجتهد محمد في سورة مريم 19: 16-33 وسورة آل عمران 3: 33-64 ليُبرِئ ساحتها، كما ذكرنا. فيؤمن المسلمون بناءً على هذا الوحي القرآني أن مريم كانت عذراء عمرها ما بين 12 و16 عاماً، ولم يمسسها أحد ولم تُغتَصب، بل صانت نفسها من كل غواية . كانت فتاة مصلِّية قانتة لا تبرح مكان العبادة إلا عندما لاقاها الملاك سورة مريم 19: 16-17. إن المسلمين يُعجَبون من مريم تعجباً ويعدُّونها آية الله ونبية منزَّهة عن الخطأ.

أجابت الملائكة بحسب القرآن مريم المُحرَجة بعبارة صارمة، وأخبروها أن خلق المسيح فيها أمرٌ هيِّن عند الله. فإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون. لا يترك الإسلام مُتَّسعاً لحرية الإرادة، ولم يسأل الملائكة مريم إن كانت تقبل أو حتى أن تصدق الرسالة السماوية، بل فرضوا عليها مشيئة الله فرضاً دون أدنى اهتمام بمشاعرها ورغباتها. فيظهر الله كالذي ينفذ إرادته دون اعتبار أو احترام للبشر. فمن يريد أن يفهم الله في الإسلام فليدرس هذا النص القرآني ويقارنه بالنص الموازي له في سورة مريم. فيستطيع استيعاب مفهوم الله في الإسلام الذي يختلف جُلَّ الاختلاف عما هو في المسيحية.

نقرأ في إنجيل لوقا 1: 26-45 حقيقة الرواية المبنية على شهادة مريم ذاتها التي أدلت بها إلى لوقا الطبيب اليوناني. فبعدما سلم الملاك جبرائيل على مريم التحية اللطيفة أصابتها بصدمة، وحاولت تجميع أفكارها لتفهم مغزى هذه التحية السماوية. ولكنها لم تُجِب على إعلانه بكلمة ولم تفتح الحوار معه، كما يزعم القرآن.

ثم أزال جبرائيل خوفها وشرح لها الخطة الإلهية خطوة بخطوة: إنها ستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، وسيكون هذا عظيماً وسيُدعَى ابن الله العليّ، الذي سيخلُف داود أبيه في المُلك، لأن الله كان قد وعده قبل ذلك بألف عام أنْ سيكون له وريثٌ أبدي 2صموئيل 7: 12-14. وسيكون ملكوته ملكوتاً روحياً لا ينتهي.

وبعد هذا الإيضاح المفصَّل أقرَّت مريم أنها ما عاشرت رجلاً قط. لم يبدُ منطقياً لها أن تحبل بغير زوج، فأوضح الملاك لها ثانية أن يتم ميلاد المسيح روحياً فيها، وأن يحل الروح القدس نفسه عليها وستظللها قوة العليّ. لم ينفخ الملاك بروح الله في مريم، إنما حلّ الروح القدس عليها وحبل بالمسيح فيها.

أعلن الملاك لمريم بحسب الإنجيل، - بعد هذا الإيضاح الطويل- أن قريبتها أليصابات، زوجة زكريا العاقر، كانت حبلى رغم عمرها المتقدم. وساعد هذا الخبر مريم على استيعاب اللّغز: أن كل شيء مستطاع عند الله. فخضعت طوعاً للخطة الإلهية وصدقتها، ووافقت على إرادة الله دون إجبار. إن كل من يضاهي النص الأصلي لهذا الحدث التاريخي بملخَّص القصة القرآنية يرى الفرق الشاسع بين هاتين الديانتين. فأصدر الله في الإسلام أمراً غير مشروطٍ، دون مناقشة، بينما تتّحد في الإنجيل محبة الله وإنشاء الإيمان في الفتاة تدريجياً.

بعد ما أخبرت الملائكة مريم حسب القرآن بما قرَّره الله، تابعت سرد وعوده عن المسيح. فأخبرتها الملائكة في آية 48 أن الله بنفسه أخذ يعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. الغريب في هذا الإعلان القرآني أنّ الله لم يعلّمه فقط العهد القديم التوراة والعهد الجديد الإنجيل والأمثال الحكمة، بل اطلعه على كتاب إضافي سِرِّي. فماذا كان هذا الكتاب يا تُرى، مع العلم بأن القرآن لم يكن قد ظهر بعد؟ يفهم المسلمون واليهود من هذا التعبير أنه يشير إلى اللوح المحفوظ في السماء. فيظن الإسلام أن كل الوحي دُوِّن سابقاً في السماء في نصه الأصلي 48/1.

48/1 - وفي تفسير ابن كثير: في رواية عن ابن عباس «أن رسول الله قال: إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء» تفسير القرآن العظيم، ج 4، ص 497

فكل ما كُتب في التوراة والمزامير والأنبياء مع الأناجيل والرسائل في العهد الجديد، وحتى في القرآن ليس إلا أجزاء منسوخة من هذا الكتاب الأصيل في السماء المدونة فيه كل أحداث التاريخ، بل سيرة كل شخص على الأرض، بحذافيرها.

اعترف محمد في عبارة مدهشة أن الله شخصياً علَّم المسيح هذا الكتاب الأصلي! فلم يسمعه المسيح من اليهود، كما كان الحال مع محمد، ولا من العبيد النصارى، ولكن من الله رأساً. كشف الله العليم للمسيح كل سر في الدنيا وفي الآخرة، وأعلن له مشيئته الكاملة. ويقدر المسلمون أن يؤمنوا بأن تجمّع حق الله وعلمه السابق في المسيح، لأن محمداً اعترف بأن المسيح هو كلمة الله وأنه كان على علم بمشيئة الله الشاملة. وهذا يعني ضمنًا أنه كان يعرف العهد القديم بأكمله وأنه صدَّق عليه، مما يثبت عدم تحريفه.

وتستمر آية 49 فتقول: «وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ».

هذه آية من سبع آيات في القرآن تعلن صراحةً أن المسيح هو رسول الله. فما هو الفرق بين الرسول والنبي؟ الشهادة الإسلامية تقول:

لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

لا ترد كلمة «نبي» في الشهادة التي يرددها المسلمون كل يوم. فلم يعتبر محمد نفسه نبياً دينياً فحسب، بل رسول الله أيضاً. إن كلمة رسول تعني شخصاً أُرسِل باسم سلطة أرسلته. أما النبي فهو من تلقَّى وحياً وإلهاماً من السماء، بينما يكون من واجبات رسول الله أن يبني ملكوت الله بالأسلحة والشرائع إذا تطلب الأمر. يجمع الرسول بين الالتزامات السياسية والرسالة الروحية. فليس إعلان مشيئة الله إلاَّ نصف مهمته، أما النصف الآخر فهو إنشاء مملكة الله بالنفوذ السياسي، كما يرى الإسلام.

أعلن الملاك جبرائيل في الإنجيل لمريم أن ابنها سيرث عرش سَلَفِه داود وأنه سيبني ملكوتاً أبدياً إلهياً. لكن لم يسمح محمد للمسيح أن يُدعى ملكاً إلهياً، لأنه كان سيظهر آنذاك أعظم من محمد . لكنه لم ينكر بنفس الوقت سلطة المسيح السياسية.

ولا يُصرّح المسلمون أن المسيح ومحمد نبيان وحسب، بل إنهما زعيمان سياسيان من رجال الدولة. ويقرأون في القرآن عن أنبياء كثيرين، إنما أسماء رسل معدودة. ومنهم موسى وعيسى ومحمد. يقرأ المسلمون في القرآن أن المسيح تلقَّى من الله سلطة روحية وسياسية، ويعرفون أنّ من واجباته أن يبني المملكة السماوية على الأرض وأن يسُنّ شرائع روحية وسياسية.

لكن شتان الفرق بين هذا الفكر الإسلامي وبين المبادئ التي يعلنها الكتاب المقدس عن سلطة المسيح السياسية. يظهر في الأناجيل أن المسيح قد تحدث 90 مرة عن ملكوت الله أو ملكوت السموات، ولكن تكلم عن الكنيسة ثلاث مرات لا غير. فلم يأتِ المسيح ليبني كنيسته بالدرجة الأولى، إنما أتى ليؤسس ملكوت الله الروحي على الأرض حسب دستوره في موعظة الجبل. فأتى ليعيد الخليقة بأسرها إلى أبيه السماوي. جاء ليرث ويجمع كل ما خلقه الله على الأرض. فلم يأتِ من أجل الصديقين فقط أو من أجل بضعة مؤمنين لهم حُظوة لديه، بل جاء ليخلِّص الضالين ويرشد الجميع إلى طريق العودة إلى أبيه في السماء. ولكن عندما رفض بنو إسرائيل مَلِكهم الموعود، كما نقرأ في مثل الكرمة والكرامين، وقتلوا سيدهم. فسلّم دعوته وحقوق إرث ملكوت الله للأمم أجمعين متى 21: 33-46 ومرقس 12: 1-12 ولوقا 20: 3-19.

عندما سلم بنو إسرائيل مسيحهم وملكهم ورئيس السلام للسلطات الرومانية حدث تغيير جذري في دعوة المسيح. فمنذ ذلك الوقت وصاعداً صار كل إنسان من جميع الأمم مدعواً لدخول ملكوت الله الروحي، وصار له حق في رعويته.

إن كلمة كنيسة في اليونانية هي إكْلِيسِيا، تشير إلى نخبة مدعوين من شعوبهم. وهم الذين لبَّوُا الدعوة لحمل المسؤولية مهما كلف الأمر. وهكذا دعا المسيح كنيسته من كل الأمم ليحملوا المدعوين مسؤوليتهم الروحية والاجتماعية عن شعب الكنيسة. فبعد أن انسكب الروح القدس على كل بشر أشار سفر الأعمال ورسائل الرسل مرتين أكثر إلى الكنيسة مما إلى ملكوت الله. لم يهمل المدعوون الملكوت الروحي، ولكنهم يبذلون جهدهم أولاً للكنيسة. فليضع المسيحيون حسب معيار العهد الجديد ثلثين من وقتهم ومالهم لالتزامات الكنيسة وليصرفوا الثلث الأخير لإنشاء ملكوت الله الروحي. فينبغي أن يتوجَّهوا إلى خلاص نفوس الضالين فقد جاء المسيح ليطلب ويخلص الهالكين متى 18: 14 ولوقا 19: 10. إنه يهتم اهتماماً بالغاً بالذين خارج الحظيرة ولا يمكث مع المُخلَّصين فقط. إنه يفضل أن يترك التسعة وتسعين باراً وحدهم ويفتش على الضال حتى يجده ويخلّصه لوقا 15: 7!

لاحظ محمد التطوّر الروحي في خدمة المسيح: أنه لم يأتِ أساساً ليبني كنيسته الروحية، بل ليؤسس ملكوت أبيه السماوي على الأرض. وقبل محمد مرة أخرى 90 بالمائة من ماهية المسيح وخدماته، لكنه حرَّف النقطة الجوهرية. فقد زعم أن المسيح لم يكن إلاّ رسولاً لله، ونفى عنه صفة الملك الروحي نفياً تاماً. لم يفهم محمد ما قصده المسيح حين وضح رسوليته وقال: «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا» يوحنا 20: 21. فقد كشف المسيح أنه حقاً رسول الله، لكنه أوضح في ذات الوقت أنه ابن أبيه السماوي أيضاً.

خلاصة بشارة الملائكة بمولد المسيح في القرآن

ألقى محمد خطبة بارعة كان قد حفظها عن ظهر قلب أثناء مناقشة الثلاثة أيام. حاول أن يفهم، ويستوعب، ويغيِّر المعلومات التي حصل عليها من وفد وادي نجران بخصوص وعود الملاك جبرائيل لمريم، حتى تتوافق مع طريقة تفكيره الإسلامية. قدَّم محمد في قالب شعري للنصارى ما قَبِلَه من الوعود التي وعد بها الله بشأن مجيء المسيح ليقنع سامعيه أن الإسلام هو أحدث وآخر دين. واستعمل مبادئ وألفاظاً من الإنجيل كأداة ماكرة ليجذبهم للإسلام. وتم اجتهاده بطرق ثلاث:

1 قدم سبعاً من صفات المسيح وأسمائه بطريقة إيجابية جعلته يظهر كأنه مسيحي مؤمن . بل قدم حلولاً وسطاً أوسع من المفهوم الإسلامي ليُعمي النصارى ويجذبهم إلى الإسلام. وقد تخطىّ الحدود التي رسمها لنفسه، فاعترف بأن المسيح هو كلمة الله المتجسد، وأنه ابن العذراء مريم التي حبلت به من دون زواج. وكما رأى محمد خُلِق المسيح في بطن مريم بكلمة الله وروحه.

ووافق محمد أيضاً على مهمة المسيح السياسية الدنيوية كسفير الله ورسوله. ولعله كان يسمع أن كلمة «مسيح» تحمل معنى مزدوجاً، أي ممسوحاً روحياً للتبشير الديني وممثلاً عاماً بسلطان الله. وجاهر محمد بأن المسيح يحيا إلى الأبد، وأنه يثبت شخصية عظيمة «وجيهاً في الدنيا والآخرة». وأعلن أن عيسى قُرِّب من الله دون أن يُمات. واستعمل لذلك عدة ألفاظ عبر بها عن تنزّه المسيح عن الخطية وأكد خلوده.

ويحق للمسيحي أن يستخدم كل هذه الأسماء والصفات والمعاني الخاصة بالمسيح في حواره التبشيري مع المسلمين كجسر يقودهم من القرآن إلى ملء الإنجيل. فالسواد الأعظم منهم يرون في هذه العبارات وحي الله المباشر لمحمد.

2 وضّح محمد بصورة غير مباشرة ذكية في عظته التي ألقاها على الوفد النصراني أنه غيَّر معاني الألقاب والصفات السبعة للمسيح. وتصرَّف كأنه قبل طبيعة ابن مريم الروحية، ومهمته السياسية، وخلوده الأبدي. إنما أفرغ هذه الألقاب الكتابية من محتواها وملأها بأفكاره الإسلامية. فيظهر المسيح في القرآن على أنه كلمة الله المتجسد، الذي بيّن قدرته بمعجزات بهية، ولكنه في الوقت نفسه يظهر مخلوقاً ضعيفاً مثل أي شخص آخر. ولهذا لم يسمه محمد -ولو مرة واحدة- ابن الله، بل ابن مريم فقط. فرغم أن محمداً اعترف تقريباً بألوهية المسيح، نجده ينكرها تماماً. ولذلك أثبت على نفسه أنه ضد المسيح 1يوحنا 22: 2 و23 و1: 4-3. وأكد محمد على خدمة المسيح السياسية وعلى هدفه بتأسيس مملكة الله بين بني إسرائيل. ومع ذلك رفض وصفه الملك الروحي ورفض سلطته الكلية، فدعاه فقط رسولاً من عند الله. قد عاف محمد أن يعترف بأفضلية المسيح عليه.

3 من المدهش أن محمداً اعترف أن المسيح لم يظل ميتاً في قبره، بل حي إلى الأبد. إن محمداً ميت، ولكن المسيح حي! ينتظر محمد في البرزخ يوم الدين 49/1.

وأما المسيح فيأتي ثانيةً ليدين الأحياء والأموات. يدّعي محمد في الأحاديث أن المسيح يحيا في السماء الثالثة فقط، أدنى من موسى وإبراهيم اللذين يسكنان السماء الخامسة والسادسة، وينكر حقيقة المسيح عند الله رغم أنه أثبتها أمام وفد النصارى من اليمن. فيظهر المسيح للمسلمين رسولاً مفوضاً، ولكنه بعيد بكثير عن أن يكون الرب الذي يجلس على العرش عن يمين أبيه.

49/1 - اختلف علماء الإسلام في معنى البرزخ. فقد أتى الطبري بعدة روايات عن «أصحاب التأويل». ويبدو أن الجميع اتفقوا على أن البرزخ يعنى نوعاً من الحجاب أي الحاجز أو المانع، قال مجاهد بأنه حجاب بين الميت الموت والرجوع إلى الدنيا، وفي قول ابن زيد: «ما بين الموت والبعث» جامع البيان، ج 13، ص 53

أنصت محمد بحرص لشهادة وفد وادي نجران النصراني الذي شرح ما كان الله قد وعد به بخصوص ميلاد المسيح بفم الملاك جبرائيل لمريم. غير أن محمداً طوَّر هذه الوعود وصنع منها مبادئ تنسجم مع أركان إيمانه الإسلامي - إن جاز القول. فقد حوَّل الملك الإلهي إلى مجرد رسول لله، الذي وُلِد ولادة معجزية من عذراء. ولكن اعتبره واحداً من عبيد الله المخلوقين دون أي طبيعة إلهية.

خدني الحنين لعينيكي حبيتو من وقتها
بحلم سنين ألاقيكي و أنسى الجراح بعدها
وبقيتي من قسمتي عشقي ونور دنيتي
ما شافتش قبلك عيوني وعليكي فتّحتها

المسيح يحمينا

jesus i trust in you

أنا هو القيامة والحياة من يتبعني لايمشي في الظلمة
 
 
Page generated in 0.15798 seconds with 10 queries