و في أعقاب إحدى طلعاتها إلى الربوة المعهودة ، و بينما هي في طريقها إلى منزلها ، صادفت الحاخام ( بيتوئيل ) فحياها بلهفة متسائلا من أين قدومها ، فأجابته : " كنت هناك " و أشارت بيدها نحو الربوة ، فرد بشيء من الدهشة و العتاب :
- ساره - رعاك رب إسرائيل - كيف تجسرين على تخطي حدود البلدة ؟ ألا تعرفين أن هناك قتلة ، حذار من الذهاب وحدك سواء هنا أو هناك في مدينتهم ، إنهم قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت ، حذار يا ساره .. حذار !
فابتسمت مستخفة و لم ترد عليه ، ثم حاولت متابعة خطاها ، فأوقفها بقوله :
- ساره ، كنت أبحث عنك على أي حال ..
تجيبه ببرود :
= ها أنا ذي ...خيرا ، ما الأمر ؟
- ساره .. لقد قررت أن ...
يجيبها ، فترد مستغربة :
= و هل يعنيني ما تقرره ؟
يصمت قليل و قد شعر بالإحراج ، ثم يسألها مستاءً :
- نعم ، قد يعنيك ، و لكن لِمَ تعاملينني بجفاء ؟ هل لمناقشاتنا الحامية دخل في ذلك ؟
= أنا لا أجافيك و لكنني لا أودك أيضا ، أرجو أن تقدر صراحتي و تعذرني ، و ليس لمناقشاتنا أي دخل في ذلك ، فأنا لي رأيي و أنا حرة فيه ، و أنت لك رأيك و أنت حر فيه ، ثم لماذا لا تدع النقاش لوقت النقاش ؟
و إذ أراد أن يكسر الجمود معها ، قال لها ممازحا :
- اعترفي بأنني دوما أفحمك !
فأجابته متحدية :
= أعترف أنني أمام شخصية نرجسية من طراز فريد ...
أجابها محتدا و بشفتين مرتعشتين :
- نرجسي ؟ هل لاحظت أن حديثك معي عبارة عن هجوم متواصل ؟ إنني لا أفهمك يا ساره ؟ لعلك لم تدركي بعد حقيقة نواياي تجاهك ؟
فردت بأدب جم و لكنه بارد و نافذ :
= سيدي الحاخام ، أولا أنا لا أبادلك نواياك ، ثانيا - إن تهجمي هو على أفكارك و ليس على شخصك ، و ستزداد هجماتي ضراوة ، ما دمت مستمرًا في دعوتك لطرد سكان حبرون و ما جاورها ، لأنه يكفي ما استولينا عليه حتى الآن من أراضِ لا حق لنا بها .. يكفي ما تسببنا من تشريد و تهجير و كوارث .
هنا اكفهر وجهه ، و لكنه سرعان ما سيطر على انفعاله ، فأجابها متجاهلا عبارتها الأخيرة :
- أعتقد أنك متأثرة بحركة السلام الآن و اليساريين الآخرين ، على أي حال سعيت وراءك لأدعوك للانضمام إلى الحركة السرية التي سأقودها منذ اليوم ، و الهادفة إلى تفريغ المدينة المجاورة و القرى من حولها ، من أبناء الجارية ، و سوف نستخدم كل الوسائل لتنفيذ هذا الغرض ؛ أنا متأكد في النهاية أنك يهودية ، و أنك لن تخرجي عن إجماع زملائك و زميلاتك الشبان .. فكري بالأمر يا ساره ، فإذا قبلت فسوف أجعلك سكرتيرتي الخاصة ، لما تحملينه من مقومات تؤهلك لهذا العمل ؛ و عندئذ ستعرفين من هو ( بيتوئيل ) الذي لم يهتم طيلة حياته بأنثى سواك ..
و لدهشته الشديدة أجابته :
= سيدي الحاخام ، احفظ مركزك أرجوك ، و لتعلم بأنني غير مهتمة بشخصك أو بمشاريعك ، و لا أرى أي حق يخولك أو سواك ، بطرد الناس من بيوتهم و أراضيهم ..
يجيبها محتدا :
إنها أرضنا ، أصغي لما تقوله التوراة : " لنسلك أعطي هذه الأرض ، من نهر مصر إلى النهر الكبير ، نهر الفرات " ثم تلا أيضا : " قال الرب لأبراهام بعد اعتزال أخيه لوط عنه : " ارفع عينيك و انظر من الموضع الذي أنت فيه ، شمالا و جنوبا و شرقا و غربا ، لأن جميع الأرض التي أنت ترى ، لك أعطيها و لنسلك من بعدك و إلى الأبد ، و اجعل نسلك كتراب الأرض ، حتى إذا استطاع أحد أن يعد تراب الأرض فنسلك أيضا يعد ، ثم امش في الأرض طولا و عرضا ، لأنني لك أعطيها. "
فالعبارة الأولى تحدد معنى الأرض الإسرائيلية ، و العبارة الثانية تحدد قيمة حبرون بالنسبة لنا كيهود ؛ فهلا كففت عن معارضتك الجوفاء ؟
فأجابته بأدب ممزوج بشيء من السخرية :
= سيدي الحاخام ، ألم تلاحظ أن الكلام موجه لأبراهام ؟ و أن أبراهام هو والد يستحاق و يشمعيل ، أي أن الأرض لنا و لهم ؟!
يجيبها بحدة :
- إني مندهش حقا لمواقفك الغريبة هذه ... لقد قيل لي أنك مفتقرة إلى الثقافة الدينية اليهودية ، فلم أصدق ، و ها أنت تشككينني حتى بإيمانك . ساره ، هل أنت حقا يسارية و منتسبة إلى حركة السلام الآن ؟ أم لعلك كما يهمس البعض ، علمانية شيوعية ؟
أجابته بكل ما تملكه من جرأة :
- هل أدركت سر شعوري بالغثيان كلما جمعتني بك الظروف ؟
ثم مضت في سبيلها غير آبهة بارتعاش كل عضلة من عضلاته أو امتقاع وجهه حتى الازرقاق .
بعد أن توثقت صداقة عمر بساره روزنسكي ، حكى لها قصة والدته :
اسمها طالي طوطاح ،هي حاليا في الثلاثينيات ، تعرف عليها والدي عندما كان مع عائلته في يافا ، كان والده ( أي جدي ) من كبار تجار سوق (اسكندر عوض) في يافا ، يرسله إلى تل أبيب لتخليص الأقمشة التي كان يستوردها ، تعرف على والدها و هو مخلِّص بضائع في ميناء تل أبيب ، و أصبحا منذ ذلك الوقت صديقين ، و دعاه مرارا إلى منزله حيث تعرف عليها ، و لا أعلم بالضبط كيف تبادلا إعجابهما ثم حبهما ، و ما أعلمه أنه عندما طلبها والدي للزواج قلب له والدها ظهر المجن و طرده من منزله ؛ و لكن والدتي تسللت ذات ليلة من بيت أبيها ، و اقترنت بوالدي بعد أن أشهرت إسلامها فأسماها والدي أمينة. و لكن جَدَّيَّ ، والدي أبي ، قاوما هذا الزواج ؛ مما دفع والدي إلى مغادرة يافا سرا مع والدتي صفر اليدين ، ليحط رحالهما في مدينة الخليل ، ثم تمكن بفضل خبرته و تعامله السابق مع تجار المدينة من بدء مشروعه التجاري الخاص من الصفر .
إلا أن الناس من حولنا لم يتركونا نعيش حياتنا بهدوء ، فمنذ حرب حزيران المشؤومة ( حرب الأيام الستة كما يحلو لكم أن تسموها ) و سقوط مدينة الخليل بأيدي إسرائيل ، بدأت النساء من جيراننا و معارفنا بمضايقتها ثم بمقاطعتها رغم علمهم بإسلامها .
ليس هذا فقط ، فوالدها الذي ادعى أن ابنته خطفها عربي رغما عنها ، و الذي لم يكف عن التقصي عن مكانها بمساعدة الشرطة الإسرائيلية ، فما أن علم بشكل أو بآخر أنها تقيم في مدينة الخليل ، حتى بدأ يرسل لها من يقنعها بأن تترك زوجها العربي و تعود إلى أهلها و دينها معززة مكرمة ، و إلا اضطر إلى إعادتها بقوة القانون . بينما بدأ بعض المستوطنين بمضايقة والدي ، فخربوا له سيارته ، ثم اقتحموا مرة دكانه ، و عاثوا بموجوداتها فسادا ، و هددوا والدي مرارا بالقتل ، و لكن ظل على موقفه ثابتا .
و ذات يوم عدت من مدرستي لأكتشف أن أمي قد غادرت المنزل ، و لأجد والدي حزينا كئيبا ، و في يده رسالتها التي تعتذر فيها منه ، مبررة هجرنا بعدم قدرتها على احتمال الضغوط الهائلة الواقعة عليها و عليه ، من كل الجهات ، و أنها أصبحت تخشى على حياته ، و أنها وجدت أن من مصلحته و مصلحة ابنهما عمر أن تغادر ، رغم ما في ذلك من ألم تكتوي و ستظل تكتوي بناره .
تأثرت ساره بقصة عمر و أمه فعصرت قلبها الرقيق ألما و أدمعت عينيها ، و لكنها لم تكتفِ بالانفعال فقد جعلت من مسألة العثور عليها لتجمعها به قضيتها الأولى .
و بينما كانت ساره تقوم بمهمتها الإنسانية ، كان بيتوئيل و عصبته من المستوطنين المتطرفين تهاجم بلدة حلحول المجاورة ، بحجة أن بعض أطفال هذه المدينة الصغيرة قد رجموا حافلة إسرائيلية بالحجارة أثناء مرورها فيها .
كان أفراد العصبة مسلحين بمطارق و فؤوس و هراوات ، فأخذوا يحطمون بها زجاج سيارات مواطني البلدة ، و يشوهون هياكلها ، و يقطعون عجلاتها ، ثم انبرى بعضهم إلى نوافذ المنازل فكسروها ، و أتلفوا كذلك مصابيح الشوارع ، بينما كان حرس الحدود الإسرائيليين يتفرجون ، إلى أن حاول بعض طلاب المدارس التصدي لهم ، عندئذ أطلق الجنود عليهم النار فقتلوا طالبا و تلميذة ، و أوقعوا عددا كبيرا من الجرحى . ثم أخضعوا البلدة لمنع تجول خانق استمر عدة أيام .
ثم أخذت عصبة بيتوئيل تتحرش بأهالي الخليل ، و خاصة خلال إقامة صلوات الجُمع ، ثم توجهت طغمة منهم إلى الحرم الإبراهيمي وسط مظاهرة مسلحة استفزازية ، فاحتلوا قسما منه ، و حولوه إلى معبد ...
كان هذا التوتر بين الجانبين قد حال دون لقاء ساره و عمر ، فقد منع حرس الحدود المستوطنين من زيارة حبرون- الخليل - كما منعوا العرب من تخطي حدود مدينتهم لأي سبب كان .