زواج الصغار ، وقضاؤهم
ومن الأمور التي قلدنا بها الكبار : الزواج و القضاء ، ولقد برعنا في الزواج أكثر من القضاء ، لأن تقليد الزواج أسهل بكثير من تقليد القضاء . فقد رأينا زواجات كثيرة ، بينما القضاء لم نشهد قط . بل سمعنا الكبار يرددون عنه في بعض النوادر ، ويحكون عن بعض الأحكام والمرافعات ، بقدسية وإكبار .
في الزواج ، كنا نختار كوخا أو بيتا مهجورا ، لا تصل إليه عيون الكبار . فالكبار يحبون البيوت الفخمة ، ويحنون إلى القصور .
نجتمع في البيت ونجلس العريس و العروس على حجرين اثنين متحاذيين . فالصغير يسعد على حجر تحت رأسه ، أو تحت قفاه ، ولا يطلب أكثر . وبجنبهما يجلس أشبين و أشبينة ، يشهدان على " صحة" الزواج . ولكن هذه الشهادة ما كانت تفيد شيئا ، لأن الزواج ما كان يدوم طويلا : ساعة ، أو ساعتين على الأكثر . وبعد ساعة تطرد العروس عريسها ، أو العكس ، ويأخذ مكانه عريس آخر . فكنا بذلك نقلد الغرب المتحضر و لا ندري ، ونظن أنفسنا نقلد الشرق المتخلف الذي مازال يؤمن بديمومة الزواج .
ولم نكن نرى في ذلك مغبة . ولم المغبة ؟ فبعد ساعتين من الجلوس معا على حجرين متلازمين ، كان يضجر الواحد من الآخر ، فيطلب التغيير . وتغيير الوجوه مستحب في عالم الصغار ، وخاصة أن مفهوم الالتزام غائب ، ومعنى المسؤولية غير موجود .
و يبدأ العرس من جديد بموافقة الحاضرين جميعا ، ووسط زغاريدهم . والحاضرون يوافقون ، ولا يحتج واحد منهم ، لأنهم كلهم متشابهون ، صغارا وليس فيهم من يسن قانونا يلزم الجميع . والصغار لا يحبون القوانين التي تقيد وتلزم . فيلبس كاهننا ، مرة ثانية ، فستان جدته الأسود ، ويربطه من جديد ، على وسطه بخيط من القنب ، ليرفعه عن الأرض ، فيغطيه حتى أخمص قدميه . ويأخذ واحدا من كتبنا العتيقة ويسأل العريس :
- " يا يوسف ، أتريد حنة زوجة لك ؟ " .
فيجيب يوسف " نعم ! " .
ثم يسأل العروس :
- " يا حنة ، أتريدين يوسف زوجا لك ؟ "
فتجيب بحياء ، وخفر : " نعم ! " .
فيعلو صياحنا ، ويزغرد أقوانا صوتا . ونهتف كلنا بصوت واحد : " صارت لك يا عريسنا صارت لك " .وتبدأ التهاني ، وتقديم النقوط : خرنوبا وتينا جافا ... وترش العروس علينا التراب ، كما تنثر بعض العرائس على الحضور ملبسا أو فرنكات معدنية ، وهي في طريقها من الكنيسة إلى البيت . لأن العروسين لم يكونا يعرفان بعد بهذه " البدعة " التي يسمونها شهر العسل في الأوتيل ، كأنهما يرتكبان عملا مشينا . بل كانا يرجعان إلى بيتهما الزوجي ، فيشهد حبهما الأول ، ويفرح بهما أهلهما . وكنا نتلقى التراب على رؤوسنا بفرح يوازي فرح الكبار بالفرنكات ، ويزيده ، لأن الاتساخ بالتراب يغسل . أما الاتساخ بالفرنكات فلا يغسل .
وكانت العروس تعرض جهازها المؤلف من خرق حمراء ، وصفراء ، ومن أقراط نبات العليق الذي نسميه " حلق الست " . وكانت واحدة من رفيقاتها تمثل دور العجوز ، فتجلس بقرب الجهاز وتقلبه من حين لآخر ، متباهية به ، والعروس التي لا تعرض جهازها كنا نعدها فقيرة ، أو بخيلة الأهل .
أما القضاء فلم ننجح في تقليده لأننا لأم نشهد محاكمات ومرافعات ، ولم نر قاضيا على القوس . وإنما كنا نعرف أن القاضي يلبس أثناء الحكم ثوبا أكبر منه ....
فكل الناس يفصلون الثياب على حجمهم كما يفعلون مع الديانة ومع صورة الله ، إلا القضاء ورجال الدين ، فيلبسون ثيابا فضفاضة لأن وظيفتهم تقوم بتمييز الحق من الباطل .
لذلك كان القاضي بيننا ، يسرق معطف أحد أقربائه ، ولبادة جده ، ويلبسهما وقت المحاكمة .
ولكن غابا ما كنا نلجأ إلى القضاء ، لأنه في عالم الصغار الأبرياء ، كان ما يزال للمصلحين دور مهم ، وكلمة مسموعة . إلا إذا تدخل الكبار فإنهم يضخمون القضية ويعقدونها ، فيصعب حلها إلا بخلق قضية أكبر منها .
وأذكر خلافا وقع بين اثنين من رفاقنا على بلبل ، فتبلبل الجو . بكى واحدهما ، فسمعت أمه بكاءه ، فانتصرت له ، وبدـ " تنشر " ابن جيرانها وأمه ، فردت عليها جارتها من العيار الثقيل . وسمع الزوجان ، فانتفض كل منهما يدافع عن كرامة زوجته ، لأن الكرامة تحتاج إلى شتائم لتنقذها . وتطورت القصة حتى وصلت إلى محكمة الكبار ، وبدأت الواسطات مع زعماء المنطقة .
وفي اليوم التالي رجع رفيقنا إلى اللعب معنا ، بكل بساطة وبراءة . فأطلت واحدة من النسوة وأستدعت ابنها إلى البيت بحجة أنها ستغسله قبل أن يبرد الماء . ويبدو أنها غسلته بكامله ، حتى دماغه ، ولم نعد نرى وجهه بيننا . لأن الماء كان يظل ساخنا في بيت أمه .
أبحث عنك بين قطرات الندى فلا أجدك
|