مقدرة الكلاب وعفوها
لما كنت صغيرا ، كان أبناء قريتي ما يزالون يربون كلابا . فالرعاة منهم ، يربون كلابا شرسة ، لحماية قطعانهم . ويطعمونها في صغرها شحما وصوفا محروقا ، لتزداد شراسة ، كما يقولون . وهواة الصيد يقتنون كلابا سلوقية ، يحرمون عليها لحم الطيور في صغرها ، حتى لا تأكل الطرائد في كبرها . إنها تربية صارمة ، كتربية أولاد لا يريد أهلهم أن يروهم يمدون أيديهم إلى أموال الآخرين .
وكان والدي يعهد إلينا بتربية الكلب وتدريبه ، لأن المدرب والمربى يعطيان من ذاتهما . والصغير لا يملك إلا البراءة والبساطة . وكنا ، نحن الصغار نفرح لذلك .
ولكن والدي رغم محبته لكلبه ، وتعلقه به ، كان يحقره . فيطعمه من فضلات البيت . و فضلات عائلة قروية فقيرة ، حيث لا يتعدى بعض الكسر اليابسة وقليلا من الطعام الزائد . ويفرش له في الليل كيسا ممزقا لا يصلح لشيئ .
تختلف معاملتنا للكلب عن الغربيين ، الذين يقدمون له أحسن الطعام ، ويكون لهم غرف مخصصة للنوم ، حيث أنهم لا يعاملون الكلاب ككلاب ، بل كما يعامل الآدميون .
انهم يقصرون عدد أولادهم على واحد أو أثنين . فيتسنى لهم أن يقوموا بواجباتهم كاملة تجاه كلابهم العزيزة . ومنهم من يحرم نفسه انجاب الأولاد اطلاقا ، حتى لا تتوزع عاطفته بين الكلب والولد . ناهيك عن المقابر الفخمة التي يخصصونها لكلابهم . لأنه لا يجوز أن تطرح جثة الكلب ، بعد موته ، كما تطرح النفايات ز
ويجب أن أقر بكل تواضع ، بأن والدي لم يبلغ هذا المبلغ من الحضارة والرقي . ولكنه كان يحب كلبه " راكس " ، ويصعب عليه أن يعيره إلى أحد أصدقائه في رحلة صيد . شأنه في ذلك شأن كل إنسان يعلق قلبه في مقتنياته .
و" راكس " لفظة لاتينية ، معناها " الملك " . ولكن الاسم ما كان يمنعه من السطو على اخمام الدجاج والاستيلاء على بيضها . انه الملك ، وكان يستغل اسمه ليدخل أحينا إلى " اليوك" فيقلب ابريق الزيت ويشربه . و كم جائتنا شكاوى من نساء القرية عليه . فكانت جدتي تتذمر لكنها لا تستطيع شيئا ، لأن "راكس " عزيز على والدي ، ووالدي يضع كل رصيده لحمايته ، لأنه ماهر في الصيد .
وكان يرافقنا "راكس " إلى الكرم ، وعندما كنا نمر من أمام بيت ضوميط خليل العلم ، كان يهجم كلبه "غضاب " على "راكس " . فيلوذ "راكس " بالفرار .
وأحيانا كان "غضاب " يمر أمام بيتنا فكان " راكس " ينبح عليه اثباتا لوجوده ، وهو يتراجع إلى الوراء . أما " غضاب " فما كان ليعبأ به .
انها كانت بالفعل حماقة منا نحنا الصغار . فمرات كثيرة كان "غضاب " يهجم على " رااكس " وينهشه ، فيصرخ " راكس " صرخة الضعيف القاصر . وحالما تسمع كلاب البلدة صوته كانت تبادر النباح من بعيد ، احتجاجا على اعتداء كلب شرس على كلب سلوقي ، لكن النباح لم يكن إلا تصريحات فارغة ، رفعا للعتب . لقد كانت تدرك ضعفها أمام قوة " غضاب " وأصدقائه .
ولكن يبدو أن " راكس " كان يعرف نقطة ضعف " غضاب " ، فينقلب على ظهره ، ويرفع يديه ورجليه إلى العلاء ، كأنه يطلب الرحمة . فيقف غضاب القوي بجانبه مزمجرا ، تلجمه شهامته عن ممارسة قوته على ضعيف مستسلم يطلب الرحمة .
لم يكن راكس يحمل بطاقة معينة ، ولا ينقل سلاحا خطرا ، ولم يرسل في مهمة سرية . فكل ذنبه أنه سلوقي ضعيف ، اجتاز حمى غضب الجعاري ، برفقتنا من الكرم .
ولكن شهامة غضاب القوي ، كانت تعفو عنه ، عندما كان يستسلم مسترحما.
أبحث عنك بين قطرات الندى فلا أجدك
|