وفي العقد الأخير من عمره (1660-1669) سهر للإبقاء على حياته ابنه وخليلته. ولكن كان مسكنه ضيقاً ومرسمه سيئ الإضاءة، ولا بد أن يديه فقدتا بعض اتزانهما نتيجة كبر السن والشراب، فلوحة "القديس متي الإنجيلي(15

" غير مصقولة في تركيبها، ولكن الملاك الذي يهمس في أذنه لم يكن سوى تيتس الذي يلغ الآن العشرين من العمر، ولا يزال جميلاً كالعروس. ثم جاءت في تلك السنة (1661) آخر روائع الفنان: "خبراء نقابة تجار الأقمشة(159)" فإن فاحصي القماش والمراقبين كلفوا الفنان بأن يخلد ذكرهم بصورة جماعية تعلق في دار رابطتهم. وربما كنا نغتفر بعض التردد في التركيب، وبعض الفجاجة في التفاصيل وبعض التقصير في إسقاط الضوء ولكن النقد في حيرة من الأمر ليعثر على غلطة في الصورة. فأن أمامية الصورة وخلفيتها اللتين تمكن منهما تمكن منهما الرسام جعلتا الشخوص الخمسة الرئيسية تقفز إلى عين الرائي "كل منها شخص واحد منفصل"، ولكنهم جميعاً التقطوا في نفس اللحظة الحية التي التقى فيها تفكيرهم. وفي كثير من اللوحات التي رسمت في سنوات التهدم والتدهور هذه، يجد الخبراء علامات على انهيار الطاقة وانحطاط الأسلوب، بساطة الألوان، إهمال التفاصيل، العجلة في جريان الفرشاة وعدم الصقل. ولكنا، حتى في هذه الأيام نجد صوراً أخاذة، مثل "عود السخي(160)"-وهي تشخيص لا ينسى للصفح المحبب إلى النفس، و"العروس اليهودية(161)" وتلك ثمرة عجيبة مدهشة تأتي من شجرة تذوي وتذبل.
ولكنا لم نذكر شيئاً عن مناظر الطبيعة ورسومه وحفره. ولم يبرز أو يتفوق إلا القليل من المناظر الربيعية، ولكن الرسوم بلغت القمة بين مثيلاتها وثمة رسمان مشهوران: "مشهد أمستردام" بالقلم والحبر، الموجود في فيينا، و"المرأة العجوز جالسة" في برلين. ويعد إنتاجه في الحفر مضارعاً لأحسن ما أنتج في ناونج هذا الفن الشاق المجهد. وعرف أحد أعماله في هذا الفن "المسيح يشفي المرضى"، باسم "القطعة ذات المائة جيلدر" لأنها اشتريت بثمن لم يسبق له مثيل (1200 دولار؟). على أن نسخة منها على أية حال قدرت 1867 بمبلغ 35 ألف فرنك (20 ألف دولار؟).
أن 300 من أعمال الحفر، 200 من الرسوم و650 من اللوحات منجزات رمبرانت لا تزال باقية، تكاد تكون مشهورة مثل شهرة روايات شكسبير، وتكاد تكون متنوعة أصلية عميقة مثلها. وكلها تقريباً من صنع يديه. فعلى الرغم من أنه كان مساعدون، فإن أحداً منهم لم يشاركه سره في الكشف عما خفي وما لا يرى(162). وكانت بعض أعماله رديئة وبعضها منفراً، مثل "الثور المسلوخ" في اللوفر. وكان أحياناً يستنفذ كل جهده في الأسلوب الفني وفي أحيان أخرى يتجاوزه من أجل الرؤيا، أي رؤيا الفنان نفسه..وكان، مثل الطبيعة، يتخذ موقفاً محايداً بين الجمال والقبيح، لأن الجمال، وإن الصورة التي تمثل القبح حقاً هي صورة جميلة. وأبى أن يضفي أشكالاً مثالية على الشخوص في لوحاته الدينية، وأرتاب في أن يكون العبرانيون الوارد ذكرهم في التوراة على مستوى جمال اليهود في أمستردام، فصورهم على هذا النسق، ومن ثم انبعثوا من عالم الأساطير أو التاريخ إلى الحياة. وازداد شيئاً فشيئاً مع تقدمه في السن، حبه للبسطاء من الناس حوله، لا حب من جردهم السعي وراء الكسب من الروح الإنسانية. وعلى حين أن بعض الفنانين، مثل روبنز، التمسوا موضوعاتهم بين أرباب الجمال أو السعداء أو الأقوياء وأصحاب السلطان، فإن رمبرانت كان يسخو بفنه الحنون على المنبوذين والمرضى والبؤساء، حتى المشوهين ذوي العاهات، وعلى الرغم من أنه لم يسخر من الدين أو لم يهزأ به، فقد بدا أنه على غير وعي منه، يجسد موقف السيد المسيح وويتمان تجاه أولئك الذين أخفقوا، أو أبو أن يشتركوا، في صراع كل إنسان مع سائر بني الإنسان. الصدق عنده كان قمة