وآخر الرسوم في هذه الحقبة، وربما أعظم إنجازات رمبرانت على الإطلاق، هي اللوحة الضخمة (14×12 قدماً) تعرف بالتاريخ باسم "حراسة الليل"، والأكثر احتمالاً أن اسمها "جماعة كابتن كوك الرماة(136)" (1643). ولا ينقص هذه الرقعة الهائلة أية تفاصيل، وليس فيها أي ظل للظلام أو أي مسقط إلا حسب حسابه، أو أي تباين في اللون إلا وهو مدروس. ويقف الكابتن المزهو في الوسط في لون أسمر وأبيض وأحمر، وإلى يساره قائمقام في أحذية عالية وسترة وقبعة صفراء ذهبية اللون، والسيوف تبرق والرماح تلمع والأعلام ترفرف، وإلى يمين الكابتن فرقة الناي والطبول. وتغادر الجماعة مقرها إلى ما يبدو واضحاً أنه عرض في أحد المهرجانات. وتعاقد رمبرانت مع كل من الأشخاص الستة عشر الذين سيصورهم، على أن يدفع كل منهم مائة فلورين. وأحس كثير منهم بأن المساواة في الأجر لم تقابلها مساواة في التألق والعظمة في اللوحة، وشكا بعضهم من أنه وضعهم في الظل ولم يسلط عليهم الأضواء، أو أنه قصر في تحديد ملامحهم حتى يسهل على أصدقائهم التعرف عليهم. ولم يشتد الطلب بعد ذلك على الصور الجماعية في مرسمه، وبدأ نجمه يأفل.
ولا بد أن المال كان وفيراً لديه في 1639 لأنه اشترى في تلك السنة داراً فسيحة في شارع جودن-يريد الذي كان يقطنه أثرياء اليهود. وكلفته الدار ثلاثة عشر ألف فلورين. وهو مبلغ ضخم لم ينجح قط في دفعه كاملاً. وربما قصد ألا تتسع لأسرته فحسب، بل لتلاميذه ولمرسمه ومجموعته المتزايدة من التحف القديمة والأشياء الغريبة والفن. وبعد دفع نصف ثمن الشراء في السنة الأولى من شغل الدار، وبقاء النصف الثاني ديناً عليه، ارتفعت فائدته التي لم تدفع إلى حد جره إلى هاوية الإفلاس.وفي الوقت عينه كانت صحة حبيبته ساسكيا آخذة في التدهور، وكانت قد أنجبت له ثلاثة أولاد، مات كل منهم في سن الطفولة. وهدت ولاتهم العسرة ونهايتهم الأليمة من كيانها. وفي 1641 أنجبت له أبناً أسماه تيتوس، وقد بقي على قيد الحياة، ولكن أمه فارقت الحياة في 1642. وأوصت بكل ما تملك إلى رمبرانت، شريطة أن تؤول بقية التركة إلى ولدها إذا تزوج والده ثانية. وبعد سنة من وفاتها رسم لها رمبرانت صورة من الذاكرة العامرة بحبها. وكدرت هذه الخسارة صفو حياته. وبدأ من ذلك الوقت أن فكرة الموت تستبد به وتقلقه. وعلى الرغم من أنه كان شديد التعلق بأسرته، فإنه كان دائماً يؤثر الوحدة على الرفقة، أما "الآن فقد" آوى إلى عزلة تضر بالصحة(137)". ولم يكن رجل الدنيا المثقف أو المهذب مثل روبنز. وقرأ قليلاً: ولم يكد يقرأ شيئاً سوى الكتاب المقدس، وعاش في مملكة اللون والظل والضوء التي لا تنبس ببنت شفق. وهي متنوعة مثل دنيا الأدب ولكنها غريبة عنها فريدة. وكان من الصعب عليه أن يقوم بالواجبات الاجتماعية إذا قدم عليه من يجلسون أمامه ليرسمهم، أو أن يتبادل معهم أحاديث قصيرة بقصد تسليتهم والاحتفاظ بسكوتهم وهدوئهم. وقل المترددون عليه حين وجدوا أن رمبرانت مثل معظم أسلافه، لم يكن يرضى أن يرسم له مرسماً تخطيطياً في جلسة أو جلستين، ثم يكمل الصورة من هذا الرسم التخطيطي، بل آثر أن يرسم على القماش، الأمر الذي يتطلب جلسات كثيرة، هذا فوق أنه كان له طريقة انطباعية في أن يرسم ما يفكر فيه أو يحس به، لا مجرد ما يرى، ولم تكن النتيجة دائماً مرضية. كئيبة.
|