عرض مشاركة واحدة
قديم 26/07/2007   #2
شب و شيخ الشباب فاوست
عضو
-- قبضاي --
 
الصورة الرمزية لـ فاوست
فاوست is offline
 
نورنا ب:
Jul 2006
المطرح:
في وطني السليب
مشاركات:
655

افتراضي


وأما المؤرخ الشهير ميشليه فبعد أن اطلع على الرواية قال: أُصبت بمصيبتين كبيرتين هذا العام: وفاة ابني وظهور رواية فيكتور هيغو!..

والآن ما هو رأي شارل بودلير؟ لقد أشاد بها وكتب عنها مقالة كاملة في الصحافة. وكان مما جاء فيها: "إنها رواية مبنيّة على هيئة قصيدة، إنها ملحمة حقيقية. وكل شخصية من شخصياتها لا تشكل استثناء إلا ضمن مقياس أنها تعبر عن فكرة عامة". وهذا نقد موفق ودليل على أن بودلير قرأها فعلاً. ثم أردف يقول: إنها كتاب في الإحسان والشفقة على الناس الضعفاء. إنها نداء خارج من الأعماق من أجل ألا ينسى المجتمع عاطفة التضامن والإخاء..". ولكن الغريب العجيب هو أن بودلير راح يهجو الرواية في رسالة شخصية كتبها إلى أمه وقال فيها: "أعتقد أنكِ تلقيت الرواية. إنها تافهة بكل معنى الكلمة. ولكني مدحتها في الصحافة وأثبت بأني قادر على الكذب.. وقد كتب لي فيكتور هيغو رسالة سخيفة لكي يشكرني على مقالتي. وهذا دليل على أن الإنسان بإمكانه أن يكون غبياً أحياناً..". فهل بالغ بودلير في مدح الرواية أم بالغ في ذمها أمام أمه؟ هل كان يشعر بالحسد تجاه النجاح الضخم الذي حققه فيكتور هيغو في حين أنه هو لا يزال كاتباً مغموراً؟ كل شيء جائز..



أما لامارتين، الصديق المقرب، فقد خيَّب آمال فيكتور هيغو. فقد استقبل الرواية ببرود، بل وبعدائية لأنها تهاجم المجتمع وتؤلِّب عليه الفقراء! ورد عليه هيغو قائلاً بأن المجتمع الذي يقبل بوجود مثل هذا الفقر المدقع في أحضانه ينبغي أن يُهاجَم ويُنْتقَد. ثم هاجم رجال الدين وسادة المجتمع الذين يعتبرون شيئاً طبيعياً وجود كل هذا الفقر والبؤس. وقال بأني أحلم بمجتمع آخر يكون فيه كل فرد مالكاً لبيته وشبعاناً. وقد تقول لي: ولكن الهدف بعيد. وأجيبك نعم، ولكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من السير نحوه.. وأنا أقول لك ما يلي: نعم إني أكره العبودية والفقر والجهل والمرض. وأريد تخليص المجتمع من كل ذلك. أريد إضاءة الليل، وأحقد على الحقد. ولهذا السبب كتبت "البؤساء". فهذه الرواية لا هدف لها إلا تأسيس التضامن والإخاء كقاعدة عامة وكذلك تأسيس التقدم البشري كذروة عليا نحلم بالوصول إليها يوماً ما...



أما الناقد المحافظ والأرستقراطي "باربي دورفيلي" فقد أدان الرواية وكل توجهات فيكتور هيغو لأنه يريد قلب المجتمع القديم وكل القيم التي انبني عليها. وكان مما قاله: "عندما سنتعب من النقد والتجريح والتشكيك بقيمنا وديننا وأصالتنا فإننا سنعود حتما إلى السلطة الحقيقية للملوك: أي السلطة الدينية الإلهية المعصومة. وسوف نتخلى عن المادية الحيوانية ونعود إلى المذهب الكاثوليكي..". ثم أردف هذا الناقد قائلاً: "إن فيكتور هيغو كتب أخطر كتاب في هذا العصر والأكثر ضرراً. فهو يضرب على وتر العواطف الجريحة لكي يهدم قواعد المجتمع ومؤسساته الواحدة بعد الأخرى.. وكل ذلك يتم عن طريق استغلال دموع الفقراء.. فالكاتب إذ أعطى الحق للمجرم ضد الشرطي، وإذ قدم صورة جميلة عن اللص أثبت أنه شخص غير مسؤول...". ثم هاجم تقنية الرواية قائلاً: لماذا يقطع المؤلف أحداث الرواية وينخرط في تعليقات شخصية ومواعظ أخلاقية لا نهاية لها؟ وبعدئذ عندما يعود إلى الحكاية لا نجده يربط اللاحق بالسابق. وهذه طريقة رديئة في الكتابة الروائية.انها رواية مفككة..".



هذا النقد جرح فيكتور هيغو على الرغم من أنه حاول التخفيف منه وتظاهر بالعكس عندما قال: "هل يضير الرجال العمالقة أن تهاجمهم الأقزام؟!". مهما يكن من أمر، وعلى الرغم من كل الانتقادات التي تعرضت لها رواية "البؤساء" في وقتها فإنها استطاعت أن تصمد وأن تنجح في اختبار الأبدية والخلود. فقد عبرت القرون دون أن يبليها الزمن. ومن يسمع باسم باربي دورفيلي هذا؟ فكم من الروايات سقطت ولم يعد يذكرها أحد. أما هي فقد فرضت نفسها كإحدى روائع الأدب العالمي وترجمت إلى مختلف لغات الأرض وطبعت مئات الطبعات بعد موت صاحبها وكل مهاجميه. ولا يعود ذلك فقط إلى الحس الإنساني العميق الذي تشتمل عليه، وإنما أيضاً إلى جمال الأسلوب وقوة تصوير الشخصيات، هذه الشخصيات التي أصبحت أشد واقعية من الناس الواقعيين. فمن لم يسمع باسم جان فالجان؟ ألا نكاد نتخيل أنه وجد حقاً؟! وأنه شخص من لحم ودم..



ترى الناقدة "مريم رومان" في كتابها الصادر مؤخراً في باريس عن "فيكتور هيغو والرواية الفلسفية" أن هيغو كان يخلط بين الفلسفة والأدب. وبالتالي فمعظم أعماله الشعرية أو النثرية تحتوي على مضمون فلسفي. وكان يتموضع بالقياس إلى فلاسفة القرن الثامن عشر الذين سبقوه مباشرة، أي فلاسفة التنوير. ولكن يبدو أن المحاور الأساسي له كان فولتير أكثر من روسو، أو مونتسكيو، أو ديدرو. في الواقع إن فيكتور هيغو كان في طفولته وشبابه الأول مَلَكياً وفولتيرياً في آن معا. ولكنه التحق فيما بعد بحزب الكاتب شاتوبريان، أي الحزب الملكي المسيحي الذي كان معادياً للثورة الفرنسية والتنوير. نقول ذلك على الرغم من أن القطيعة مع فولتير لم تحصل إلا بشكل تدريجي آنذاك. واستمرت هذه القطيعة حتى حصول المنفى عام 1852. عندئذ حصلت قطيعة جديدة ودائمة في حياة فيكتور هيغو فانتقل من حزب المحافظين المسيحيين إلى حزب الليبراليين التقدميين. وعندئذ عاد إلى مدح فولتير وعصر التنوير. يقول هذه الكلمات الهامة في رواية "البؤساء" ذاتها:

"إن منجزات القرن الثامن عشر صحيحة وجيدة. فالموسوعيون وعلى رأسهم ديدرو، والفيزيوقراطيون وعلى رأسهم تورغو، والفلاسفة وعلى رأسهم فولتير، والطوباويون وعلى رأسهم روسو، هؤلاء هم القمم الأربعة المقدسة. إن التقدم الكبير الذي حققته البشرية باتجاه النور مدين لهم". هكذا نلاحظ أن الرجل حسم موقفه لصالح التقدم والتنوير والحداثة.



في السيرة الضخمة التي كتبها عنه يقول المؤرخ والناقد هوبير جوان بما معناه: فيكتور هيغو معجزة بحد ذاته! إنه متعدد ووحيد في آن معاً. إنه يغزو كل شيء ويكتب في كل الأنواع. وقد أصبح شخصية عامة وعمره لا يتجاوز السادسة عشرة.. إنه يخترق القرن التاسع عشر من أوله إلى آخره تقريباً وهو الذي يخلع عليه معناه. وعندما مات عام 1885 فإن القرن التاسع عشر مات معه...



وأما الناقد المعروف هنري غيمان فيرى أن الأحقاد التي أثارها فيكتور هيغو في حياته، وحتى بعد مماته، كانت هائلة. ولا غرابة في ذلك. فشهرة الرجل طبقت الآفاق وما كان ممكناً إلا أن تثير الحسد الشديد والحساسيات والعداوات. فبعد موته مباشرة كتبت جريدة "الصليب" الناطقة باسم الحزب الكاثوليكي الأصولي الفرنسي تقول: لقد كان مجنوناً منذ ثلاثين سنة! واستغرب أعداؤه كل هذا التشييع الرسمي والشعبي لموته، وقالوا بأنه لا يستحقه!.. وهذا ما عبَّر عنه أحدهم عندما قال: أبداً لم يكن فيكتور هيغو شخصاً نبيلاً. وذلك لأنه طيلة حياته كان يبحث عن التصفيق وهتافات الإعجاب. وأقل نقد له أو لأدبه كان يخرجه عن طوره.. وأما أناتول فرانس فقد هجاه بعد موته قائلاً: لقد حرك الكلمات أكثر مما حرك الأفكار.. وأوهمنا بأن أحلامه التافهة هي قمة الفلسفة! يا لها من مهزلة حقيقية...

في الواقع إن الحزب المسيحي المحافظ لم يغفر له "خيانته". فمن المعلوم أنه كان ينتمي إليه طيلة النصف الأول من حياته، أي حتى بلغ السادسة والأربعين من العمر. ثم انقلب عليه بعدئذ وانضم إلى المعسكر المضاد: أي المعسكر الليبرالي التحديثي التنويري. لقد انتقل من صف السادة والأغنياء إلى صف الشعب والفقراء، ومن معسكر الملكيين إلى معسكر الجمهوريين. وأكبر تجسيد لهذه النقلة كانت روايته "البؤساء". مهما يكن من أمر فإن فيكتور هيغو يظل علامة بارزة في تاريخ فرنسا. واسمه مكتوب على عدد لا نهائي من الشوارع والساحات في مختلف المدن الفرنسية. ولا أحد يستطيع أن ينافسه في هذا المجال: لا ديكارت، ولا موليير، ولا حتى شارل ديغول. ولكن ربما كان أدبه قد راح ضحية نجاحه وشهرته التي غطَّت على كل شيء. فلم يعد احد يقرأه الآن..أو قل خفت موضته كثيرا.

الحرية لسوريا من الإحتلال الأسدي
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.05155 seconds with 10 queries