عرض مشاركة واحدة
قديم 30/06/2007   #3
شب و شيخ الشباب وليم والاس
مسجّل
-- اخ طازة --
 
الصورة الرمزية لـ وليم والاس
وليم والاس is offline
 
نورنا ب:
Oct 2006
مشاركات:
8

افتراضي


(3)

هل قلت لي يا بني ماذا نفعل حين نمرض ؟
إنني أضحك لأنني أعلم ما يدور في رأسك .. أنتم في البنادر تسارعون إلى المستشفيات لأدنى سبب . إذا جرح إصبع واحد منكم هرع به إلى الحكيم فلفه له في عصابة وعلقه على رقبته أياما ، وهو مع هذا لا يطيب . مرة كنت أعمل في حقلي فعض شيء إصبعي ، هذا الإصبع الخنصر . فانتصبت قائما وتلفت ابحث عن العشب .. فإذا ثعبان لابد . أحلف لك أنه في طول ذراعي هذا . فمسكته من رأسه وسحقته بين إصبعي . ثم عضضت إصبعي الملدوغ ومصصت منه الدم وأخذت حفنة من التراب فدلكته بها ، بيد أن مثل هذا الأمر طفيف . ماذا نفعل في الملمات ؟

جارتنا هذه .. ذات مرة تورم حلقها فأقعدها طريحة الفراش شهرين . وذات ليلة تكاثرت عليها الحمى ، فنهضت من فراشها سحرا وتحاملت على نفسها حتى أتت .. أجل يا بني .. أتت دومة ود حامد . وتروي المرأة ما حدث فتقول : (( وقفت تحت الدومة وأنا لا أكاد أقوى على الوقوف . وناديت بأعلى صوتي : يا ود حامد جيتك مستجيرة وبك لائذة . سأرقد هنا عند ضريحك ، وتحت دومتك ، فإما أمتني وإما أحييتني ، ولن أبرح مكاني هذا إلا على إحدى الحالتين )) .

وتستمر المرأة في قصتها فتقول : (( وتقلصت على نفسي وأنا أستشعر الخوف ، وسرعان ما أخذتني النومة. وبينما أنا بين النائمة واليقظة ، إذ أصوات ترتل القرآن ، وإذا نور حاد كأنه شفرة السكين قد سطع حتى عقد بين الشاطئين فرأيت الدومة وقد خرت ساجدة . وهلع قلبي ووجب وجيبا ظننته سيخرج من فمي . ورأيت شيخا مهيبا أبيض اللحية ناصع الرداء ، يتقدم نحوي على وجهه ابتسامة . وضربني بسبحته على رأسي وانتهرني قائلا " قومي " . وقسما أنني قمت وما أدري " أنني قمت " وجئت إلى بيتي ولا أعلم كيف جئت .. ووصلت عند الفجر فأيقظت زوجي وولدي وبناتي . وقلت لزوجي أوقد النار وضع عليها وعاء الشاي . وقلت لبناتي زغردن . فانكبت علينا البلد . وقسما ما خفت بعدها ، ولا مرضت بعدها )) .


نعم يا بني ، نحن قوم لا نعرف دروب المستشفيات . في الأمور الصغيرة كلدغات العقارب والحمى والفكك والكسر ، نلزم الأسرة حتى نشفى ، وفي المعضلات الكبيرة نذهب إلى الدومة .

هل أقص عليك يا بني قصة ود حامد ؟ أو أنك تريد أن تنام ؟ أهل البندر لا ينامون إلا في أخريات الليل – ذلك أعلمه عنهم . أما نحن فننام في حين يسكن الطير ، ويمتنع الذباب عن مشاكسة البقر ، وتستقر أوراق الشجر على حال واحد ، وتضم الدجاج أجنحتها على صغارها ، وترقد الماعز على جنوبها تجتر ما جمعته في يومها من علف . نحن وحيواناتنا سواء بسواء ، نصحو حين تصحو ، وننام حين تنام ، وأنفاسنا جميعا تصاعد بتدبير واحد .

حدثني أبي نقلا عن جدي قال : (( كان ود حامد في الزمن السالف مملوكا لرجل فاسق ، وكان من أولياء الله الصالحين . يتكتم إيمانه ولا يجرؤ على الصلاة جهارا حتى لا يفتك به سيده الفاسق . ولما ضاق ذرعا بحياته مع ذلك الكافر ، دعا الله أن ينقذه منه . فهتف به هاتف أن أفرش مصلاتك على الماء ، فإذا وقفت بك على الشاطئ فانزل . وقفت به المصلاة عند موضع الدومة الآن، وكان ذلك مكانا خرابا . فأقام الرجل وحده يصلي نهاره ، فإذا جاء الليل أتاه أمرئ ما بصحاف الطعام ، فيأكل ويواصل العبادة حتى يطلع عليه الفجر . كان هذا قبل أن تعمر البلد . وكأن ما هذه البلدة بأهلها وسواقيها وعمارها قد انشقت عنها الأرض . كذاب من يقول لك إنه يعرف تاريخ نشأتها . البلاد الأخرى تبدأ صغيرة ثم تكبر . إنه يعرف تاريخ نشأتها . ولكن بلدنا هذا قام دفعة واحدة . أهله لا يزيد عددهم ولا ينقص ، وهيأته لا تتغير . ومنذ كانت بلدتنا . كانت دومة ود حامد .. كما أن أحدا لا يذكر كيف قامت ونمت ، كذلك لا يذكر أحد كيف قامت الدومة في أرض حجرية ترتفع على الشاطئ ، وتقوم فوقه كالديدبان)) .

حين أخذتك لزيارتها ، هل تذكر يا بني السور الحديدي حولها ؟ وهل تذكر اللوح الرخامي القائم على نصب من الحجر ، وقد كتب عليها " دومة ود حامد " ؟ وهل تذكر القبة ذات الأهلة المذهبة فوق الضريح ؟ هذا هو الشيء الوحيد الذي جد على بلدنا منذ أن أنبتها الله . وقصة ذلك كله أقصها عليك الآن .


حين ترحل عنا غدا – وأنت لا شك راحل ، متورم الوجه ، متوهج العينين ، فأحرى بك يابني ألا تلعننا ، بل ظن بنا خيرا وفكر فيما قصصته عليك الليلة ، فلعلك واجد أن زيارتك لنا لم تكن شرا كلها.
أنت تذكر أنه كان لنا قبل أعوام نواب وأحزاب وضوضاء كبيرة ، وما كنا نعرف أولها من آخرها . كانت الدروب تسوق إلينا أحيانا غرباء تلقيهم على أبوابنا ، كما يلقي موج البحر بالحشائش الغريبة . ما منهم من أحد زاد على ليلة واحدة عندنا ، ولكنهم كانوا ينقلون إلينا أنباء الضجة الكبيرة في العاصمة . حدثونا يومها أن الحكومة التي طردت الاستعمار قد أستبدلت بحكومة أخرى أكثر ضجة ونواباً . وكنا نسألهم : من الذي غيرها ؟ فلا يردون علينا جوابا . ونحن منذ أبينا أن تقوم المحطة عند الدومة ، لم يعد يعكر علينا صفونا أحد ، وانقضى عامان ونحن لا نعرف شكل الحكومة ، سوداء هي أو بيضاء ، ورسلها يمرون ببلدنا ولا يقفون فيه ، ونحن نحمد الله أن كفانا مؤونة استقبالهم .حتى كان قبل أربعة أعوام ، حين حلت حكومة جديدة محل الحكومة الأولى ، وكأن هذه السلطة الجديدة شاءت أن تشعرنا بوجودها . صحونا ذات يوم فإذا بموظف ذو قبعة ضخمة ورأس صغير ، ومعه جنديان وهم عند الدومة يقيسون ويحسبون . سألناهم ما الخبر ؟ فقالوا : إن الحكومة تريد أن تبني محطة تقف عندها الباخرة تحت الدومة .. قلنا لهم : ولكننا رددنا عليكم ذلك من قبل فماذا تظنون أننا سنقبله اليوم ؟.

قالوا : الحكومة التي سكتت عنكم كانت حكومة ضعيفة ، ولكن الحال قد تغير الآن . ولا أطيل عليك ، فقد أخذنا بنواصيهم وألقيناهم في الماء ، وانصرفنا إلى أعمالنا . وماهو إلا أسبوع حتى أتتنا كوكبة من الجند ، وعلى رأسهم ذلك الموظف الصغير الرأس ذو القبعة الكبيرة . فنادى بهم أن خذوا هذا وخذوا هذا وخذوا هذا ، حتى أخذوا عشرين رجلا منا كنت أنا بينهم . وحملونا إلى السجن . ومضى علينا شهر وذات يوم جاء الجند أنفسهم الذين سجنونا ففتحوا علينا الأبواب . وسألناهم ما الخبر ؟ فلم يكلمنا أحد . ولكننا وجدنا حشدا كبيرا خارج السجن – أول ما رأونا هتفوا ونادونا وعانقنا أناس نظيفوا الثياب ، تلمع على معاصمهم ساعات مذهبة وتفوح نواصيهم برائحة العطر . وحملونا في موكب كبير إلى أن أتينا أهلنا . فوجدنا خلقا كبيرا لا أول له ولا آخر . وعربات واقفة وخيولا وجمالا . وقال بعضنا لبعض : (( إن ضوضاء العاصمة قد وصلت عندنا )) وأوقفونا نحن الرجال العشرين صفا يمر علينا الناس يصافحون أيدينا . . رئيس الوزراء .. رئيس مجلس النواب .. رئيس مجلس الشيوخ .. نائب دائرة كذا .. ونظر بعضنا إلى بعض دون أن نفهم ما يدور حولنا ، إلا أن سواعدنا كلت من طول ما صافحت من أولئك الرؤساء والنواب ، ثم أخذونا في حشد عظيم إلى حيث الدومة والضريح .. ووضع رئيس الوزراء الحجر الأساسي للنصب الذي رأيته ، والقبة التي رأيتها والسور الذي رأيته . وكما يهب الأعصار برهة ثم يذهب ، إختفى ذلك الحشد كما جاء فلم يبت ليلة عندنا .. وأحسبه ذباب البقر . فقد كان عامها سمينا بدينا يطن ويزن كالعام الذي جاءنا فيه الواعظ .


وقد روى لنا أحد هؤلاء الغرباء الذين تلقيهم الدروب عندنا قصة تلك الضجة فيما بعد فقال )) لم يكن الناس راضين عن تلك الحكومة منذ أن جاءت ، وهم يعلمون أنها لم تأت إلا بشراء عدد من النواب . وظلوا يتربصون بها الفرص . كانت المعارضة تبحث عن شرارة توقد بها النار . فلما حدث حادث الدومة معكم أخذوكم وألقوا بكم في السجن ، نشرت الصحف النبأ ، وخطب رئيس الحكومة المقالة في البرلمان خطبة داوية قال فيها )) لقد بلغ من طغيان هذه الحكومة المقالة أنها أصبحت تتدخل في معتقدات الناس )) (( في أقدس الأشياء المقدسة )) وحمل الناس الصيحة ، واستجابت أفئدة الناس في سائر القطر لحادث الدومة ، كما لم تستجب لحادث من قبل ، لعل السبب في كل بلد من بلدان هذا القطر علما كدومة ود حامد يراه الناس في أحلامهم . وبعد شهر من الضوضاء والصراخ والشعور الملتهب ، اضطر خمسون من نواب الحكومة أن يسحبوا تأييدهم منها. فقد أنذرتهم دوائرهم أنهم إما أن يعلنوا ذلك ، وإلا فهذه الدوائر التي انتخبتهم تنفض أيديها منهم .


وهكذا سقطت الحكومة وعادت الحكومة الأولى إلى الحكم . وكتبت الصحيفة الأولى في القطر تقول ( إن دومة ود حامد أصبحت رمزا ليقظة الشعب ) .


ومن يومها ونحن لا نحس للحكومة الجديدة وجودا ، من يومها لم يزرنا أحد من القوم العمالقة الذين زارونا وحمدنا الله أنه كفانا مشقة مصافحتهم . عادت حياتنا إلى سيرتها الأولى ، لا مكنة ماء ، ولا مشروع زراعة ، ولا محطة باخرة ، وبقيت لنا دومتنا تلقي ظلها على الشاطئ القبلي عصرا ، ويمتد ظلها وقت الضحى فوق الحقول والبيوت حتى يصل إلى المقبرة . والنهر يجري تحتها كأنه أفعى مقدسة من أفاعي الأساطير . بيد أن بلدنا قد زاد نصبا رخاميا وسورا حديديا وقبة ذات أهلة مذهبة .


ولما فرغ الرجل من كلامه ، نظر إلي وعلى وجهه إبتسامة غامضة ترفرف على جانبي فمه كضوء المصباح الخافت . فقلت له : (( ومتى تقيمون طلمبة الماء والمشروع الزراعي ومحطة الباخرة ؟ )) فأطرق برهة ثم أجابني : (( حين ينام الناس فلا يرون الدومة في أحلامهم )) . قلت له : ومتى يكون هذا ؟ فقال : (( ذكرت لك أن ابني في البندر يدرس في مدرسة ، إنني لم ألحقه بها . ولكنه هرب . سعى إليها بنفسه ، إنني أدعو أن يبقى حيث هو فلا يعود . حين يتخرج ابن ابني من المدرسة ويكثر بيننا الفتيان الغرباء الروح . فلعلنا حينئذٍ نقيم مكنة الماء والمشروع الزراعي .. ولعل الباخرة حينئذٍ تقف عندنا .. تحت دومة ود حامد )).


فقلت له : (( وهل تظن أن الدومة ستقطع يوما ؟ )) فنظر إلي مليا ، وكأنه يريد أن ينقل إلى خلال عينيه المتعبتين الباهتتين ما لا تقوى على نقله الكلمات (( لن تكون ثمة ضرورة لقطع الدومة . ليس ثمة داع لإزالة الضريح . الأمر الذي فات على هؤلاء الناس جميعا أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء .. يتسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة )) .
وبعد أن صمت برهة نظر إلي نظرة لا أدري كيف أصفها ، ولكنها أثارت في نفسي شعورا بالحزن – الحزن على أمر مبهم لا أستطيع تحديده . ثم قال : (( أنت لا شك راحل عنا غدا . فإذا وصلت إلى حيث تقصد ، فاذكرنا بالخير ولا تقس في حكمك علينا )) .
[/b]

أجمع الأوراق المبعثرة أمامي , لأترك مكاناً لفنجان القهوة وكأنني أفسح مكانا لك ..
هل الورق مطفأة للذاكرة؟
تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني حبك .
  رد مع اقتباس
 
Page generated in 0.04869 seconds with 10 queries