(2)
ما من أحد زرعها يا بني .. وهل الأرض التي نبتت فيها أرض زراعية ؟ ألم تر أنها حجرية مسطحة مرتفعة إرتفاعا بينا على ضفة النهر ، كأنها قاعدة تمثال ، والنهر يتلوى تحتها كأنه ثعبان مقدس من آلهة المصريين القديمة .. لا يا بني ، ما من أحد زرعها .. اشرب الشاي يا بني .. فأنت محتاج إليه بعد المحنة التي تعرضت لها .. أغلب الظن أنها نمت وحدها .. ولكن ما من أحد يذكر أنه رآها على غير حالتها .. التي رأيتها عليها الآن . أبناؤنا فتحوا أعينهم فوجدوها تشرف علي البلد . ونحن حين ترتد بنا ذكريات الطفولة إلى الوراء ، إلى ذلك الحد الفاصل الذي لا نذكر بعده شيئا ، نجد دومة عملاقة تقف على شط عقولنا ، كل ما بعده طلاسم ، فكأنها الحد بين الليل والنهار. كأنها ذلك الضوء الباهت الذي ليس بالفجر ولكنه يسبق طلوع الفجر . أتراك يا بني تتابع ما أقول ؟ هل تلمس هذا الشعور الذي أحسه في ذهني ولا أقوى على التعبير عنه ؟ كل جيل يجد الدومة كأنها ولدت مع مولده ونمت معه – أجلس إلى أهل هذه البلد واستمع إليهم يقصون أحلامهم ، يصحو الرجل من نومه فيقص على جاره أنه رأى نفسه في أرض رملية واسعة رملها أبيض كلجين الفضة .. مشى فيها فكانت رجلاه تغوصان فيقتلعهما بصعوبة . ومشى ومشى حتى لحقه الظمأ وبلغ منه الجوع ، والرمل لا ينتهي عند حد . ثم صعد تلا ، فلما بلغ قمته رأى غابة كثة من الدوم في وسطها دومة – دومة طويلة ، بقية الدوم بالنسبة إليها كقطيع الماعز بينهن بعير . وانحدر الرجل من التل وبعدها وجد كأن الأرض تطوى به . فما هي إلا خطوة وخطوة وخطوة ، حتى وجد نفسه تحت دومة ودحامد .. ووجد إنا فيه لبن رغوته معقودة عليه كأنه حلب لساعته ، فشرب منه حتى ارتوى ولم ينقص منه شيء . فيقول له (( أبشر بالفرج بعد الشدة )).
وتسمع المرأة منهن تحكي لصاحبتها (( كأنني في موكب سائر في مضيق في البحر ، فإذا مددت يدي مسست الشاطئ من كلا الجانبين .. وكنت أرى نفسي على قمة موجة هوجاء تحملني حتى أكاد أمس السحاب ، ثم تهوي بي في قاع سحيق مظلم ، فخفت وأخذت أصرخ وكأن صوتي قد أنحبس في حلقي . وفجاة وجدت مجرى النيل يتسع قليلا .. ونظرت فإذا على الشاطئين شجر أسود خال من الورق له شوك ذو رؤوس كأنها رؤوس الصقور . ورأيت الشاطئين ينسدان علي وهذا الشجر كأنه يمشي نحوي ، فتملكني الذعر ، وصحت بأعلى صوتي (( يا ود حامد )) ونظت فإذا رجل صبوح الوجه له لحية بيضاء غزيرة قد غطت صدره ، رداؤه أبيض ناصع ، وفي يده سبحة من الكهرمان . فوضع يده على جبهتي قائلا (( لا تخافي )) فهدأ روعي . ونظرت فإذا الشاطئ متسع والماء يسيل هادئا ونظرت إلى يميني ، فإذا حقول قمح ناضجة ، وسواقٍ دائرة وبقر ترعى ، ورأيت على الشاطئ دومة ود حامد . ووقف القارب تحت الدومة . وخرج منه الرجل قبلي .. فربط القارب ومد لي يده فأخرجني .. ثم ضربني برفق على كتفي والتقط من الأرض دومة وضعها في يدي ، والتفت إليه فلم أجده ، وتقول لها صاحبتها (( هذا ود حامد .. تمرضين مرضا تشرفين منه على الموت ، لكنك تشفين منه . تلزمك الكرامة لود حامد تحت الدومة )) .
وهكذا يا بني .. ما من رجل أو إمرأة ، طفل أو شيخ ، يحلم في ليلة إلا ويرى دومة ود حامد في موضع من حلمه .
تسألني لم سميت بدومة ود حامد ؟ صبرا يا بني .. هاك كوبا آخر من الشاي .
في أول العهد الوطني جاءنا موظف في الحكومة وقال لنا إن الحكومة تنوي أن تنشئ محطة تقف عندها الباخرة . وقال لنا إن الحكومة الوطنية تحب أن تساعدنا وتطورنا ، وكان متحمسا يتحدث ووجهه متهلل . ونظر فإذا الوجوه التي حوله لا تستجيب لشيء مما يقول – نحن يا بني لا نسافر كثيرا . ولكننا إذا أردنا السفر لأمر هام – كتسجيل أرض ، أو النظر في قضية طلاق ، فإننا نركب حميرنا ضحى كاملة .. ثم نأخذ الباخرة من المحطة في البلدة المجاورة .. لقد اعتدنا يا بني على ذلك ، بل نحن من أجل هذا نريد الحمير . فلا غرو أن الموظف لم يجد على وجوه القوم ما يدل أنهم سعدوا للنبأ . وفتر حماس الموظف واسقط في يده ، وتلعثم في كلامه . وبعد فترة من الصمت سأله أحدهم : (( أين تكون المحطة ؟ )) وقال الموظف : إنه لا يوجد غير مكان واحد يصلح للمحطة – عند الدومة – ولو أنك في تلك اللحظة جئت بإمرأة وأوقفتها عارية كما ولدتها أمها وسط أولئك الرجال ، لما أثرت دهشتهم أكثر مما فعلت تلك الجملة – سارع أحدهم وقال للموظف : الباخرة تمر عادة هنا يوم الأربعاء . فإذا عملتم محطة هنا فإنها ستقف عندنا عصر الأربعاء ، فقال الموظف إن الموعد الذي سيحدد لوقوف الباخرة في محطتهم سيكون في الرابعة بعد الظهر من يوم الأربعاء - فرد عليه الرجل : (( لكن هذا هو الوقت الذي نزور فيه ضريح ود حامد عند الدومة . ونأخذ نساءنا وأطفالنا ، ونذبح نذورنا ، نفعل ذلك كل أسبوع )) .
فرد الموظف ضاحكا : (( إذا غيروا يوم الزيارة )) . ولو أن ذلك الموظف قال لأولئك الرجال في تلك اللحظة إن كلا منهم ابن حرام لما أغضبهم كما أغضبتهم عبارته تلك . فهبوا لتوهم هبة رجل واحد ، وعصفوا بالرجل وكادوا يفتكون به ، لولا أني تدخلت فانتزعته من براثنهم ، وأركبته حمارا وقلت له انج بنفسك . وهكذا ظلت الباخرة لا تقف عندنا . وما نزال إذ اضطرنا الأمر وأردنا السفر ، نركب حميرنا ضحى كاملا ونأخذ الباخرة من البلد المجاوة ، لكن حسبنا أننا نزور ضريح ود حامد ومعنا نساؤنا وأطفالنا ، نذبح نذورنا كل يوم أربعاء ، كما فعل آباؤنا وآباء آبائنا من قبل .
أمهلني يا بني ريثما أصلي صلاة المغرب .. يقولون أن المغرب غريب إذا لم تدركه في وقته فاتك .. (( عباد الله الصالحين .. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .. السلام عليكم ورحمة الله .. السلام عليكم ورحمة الله )).
وي .وي . هذا الظهر يوجعني منذ أسبوع . ماذا تظنه يا بني ؟ ولكنني أعرف أنه الكبر .. ألا ليت الشباب .. كنت في شبابي آكل نصف الخروف في إفطاري ، وأتعشى بلبن خمسة بقرات ، وأرفع كيس البلح بيد واحدة ، وكذاب من قال إنه صارعني فصرعني ، كانوا يسمونني التمساح مرة عمت النيل أدفع بصدري مركبا موسوقة قمحا إلى الشاطئ الآخر .. ليلا .. وكان على الشاطئ الآخر رجال على سواقيهم . فلما رأوني أدفع المركب نحوهم ألقوا ثيابهم وفزعوا وفروا . فناديتهم ))يا قوم مالكم فيحكم الله ؟ ألا تعرفونني ؟ أنا التمساح .. أنتم والله الشياطين من خلقتكم القبيحة )) .
أجمع الأوراق المبعثرة أمامي , لأترك مكاناً لفنجان القهوة وكأنني أفسح مكانا لك ..
هل الورق مطفأة للذاكرة؟
تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني حبك .
|