مشكلة أعم عن لغوية التجربة الإنسانية التي جعلت من الممكن ظهور النصوص واستجابة التأويل
لذلك يقول ريكور: "إن الاستقطاب بين الأسطورة والرسالة المبلغة فيها من جانب والتأويل والتوضيح
.( من جانب اخر ظهر وكأنه حل جزئي لعمل اللغة الدينية( 59
وقد عالج ريكور الهيرمينوطيقا الدينية في دراسته: "هيرمينوطيقا فلسفية وهيرمينوطيقا توراتية" التي
. F.Bouvon , Exegesis نشرها أولا عام 1975 في الكتاب الذي اشترك في تحريره مع
وأعاد نشرها في . Problemes de Methode et exercics de lecture Neuchatel
"من النص إلى الفعل" . ويهدف ريكور في هذه الدراسة إلى أكتشاف مساهمة الهيرمينوطيقا الفلسفية
في تفسير التوراة . وهو يرى أن هناك علاقة تضمين متبادلة بين الهيرمينوطيقتين وتبعية
الهيرمينوطيقا التوراتية للفلسفة يقول : "لا شئ يمكن أن يبين الخاصية المركزية للاهوت أفضل من
.( مجهود بتطبيق الإضافة العامة للهيرمينوطيقا عليها" ( 60
يعرض ريكور لأشكال الخطاب التوراتي ، والكلام والكتابة ويوجه للهيرمينوطيقا التوراتية بشكل أدق
تحذير مهم من الهيرمينوطيقا الفلسفية : التحذير الذي يعني عدم الاستعجال في بناء لاهوت ما للكلام لا
يضم أوليا العبور من الكلام إلى الكتابة ( 61 ). ويتساءل عما يحقق خصوصية الكلام والكتابة
التوراتيين من بين بقية أنواع الكلام والكتابة الأخرى ويجيب أن أصالة النص تكمن في موضوعه
اللامحدود.
وسوف نعرض لقضية تأويل النص في الفقرة القادمة لذا علينا أن نوضح أهتمام ريكور الأساسي هنا
بجعل الهيرمينوطيقا التوراتية ضمن الهيرمينوطيقا الفلسفية باعتبارها الطريقة الوحيدة التي يمكن
الاعتراف بها وبخصوصية الموضوع التوراتي فالكينونة التي تتحدث عنها التوراة لا يجب البحث
.( عنها في مكان خارج عالم هذا النص الذي هو نص من بين النصوص ( 62
وعلى هذا يرى ريكور أن ما نحتاجه الأن هو إطار جديد يسمح لنا أن نربط التأويلية الإنجيلية
بالهيرمينوطيقا العامة المفهومة بصفتها السؤال عما هو الفهم في علاقته بتفسير النصوص وإيضاحها ،
وإنه لمن وظيفة الهيرمينوطيقا العامة أن تجيب عن مشكلات مثل : ما النص؟ ما العلاقة بين اللغة
.( المنطوقة والمكتوبة؟ ما العلاقة بين الفهم والتفسير في إطار فعل القراءة الشامل؟(
63
الهيرمينوطيقا واللغة ..
يختتم ريكور دراسته من الوجودية إلى فلسفة اللغة برابع العوامل التي أسهمت في اهتمامه
بالهيرمينوطيقا الفلسفية وهو التأثير المتزايد للمدرسة الإنجليزية والأمريكية عن فلسفة اللغة في أبحاثه
التي يراها ضرورية في البحث الفلسفي ( 64 ). وبالنسبة إليه فإن مساهمة فلسفة اللغة اليومية ذات
جانبين :
الأول : أن الخاصية الترادفية للكلمات التي نستعملها في اللغة اليومية العادية هي الشرط الأساسي
للخطاب الرمزي ، وبالتالي فهي أكثر الطبقات أساسية في نظرية الاستعارة والرمز والمثل.
الثاني : تبدو اللغة العادية كما لدى فتجنشتين وأوستن( 65 ) نوعا من المستودع للتعبيرات التي
حافظت على أقصى الطاقات الوصفية فيما يخص التجربة الإنسانية في مجالي الفعل والمشاعر .
وتمثل التميزات الملازمة للكلمات هاديا لكل تحليل ظاهريات . وهو يرى أن استرداد النوايا والمقاصد
في تجارب اللغة هي المهمة الأساسية للظاهريات اللسانية . وليس الظاهريات فقط بل الهيرمينوطيقا
يمكنها أن تستخلص الفائدة من بحث في عمل اللغة العادية . ويختتم ريكور دراسته بالتأكيد على أنه
.( يمكن تجديد مشكلة التأويل النصي بكاملها بالتعرف على جذورها في عمل اللغة العادية نفسها( 66
وهذا ينقلنا إلى جهد ريكور التأويلي الذي أطلق عليه من النص إلى الفعل وهو محور الفقرة التالية .
التأويل من النص إلى الفعل ..
تحددت معالم التأويل عند ريكور في "من النص إلى الفعل" الذي وضع عنوانا جانبيا له "أبحاث في
التأويل" بعد أن أكد في "فرويد والفلسفة" و "صراعات التأويلات" شرعية الهيرمينوطيقا فقد قام
بالدفاع عن التأويلي الفلسفي أو الإيجابي ضد ما كان بمثابة تحد سواء من علم الدلالة أو التحليل
النفسي ، ووجه اهتمامه إلى تحديد العلاقة بين الهيرمينوطيقا والفينومينولجيا الهوسرلية وقد تعمق
ريكور الفينومينولوجيا ودرس فلسفة هوسرل وترجمها ، ومن هنا يؤكد أن الهيرمينوطيقا نتاج
للظاهريات فقد خرجت الأولى من الثانية ، وذلك بالمعنى المزدوج للعبارة ، فهي المصدر الذي نشأت
عنه وهي كذلك المكان الذي غادرت . كما يتناول علاقته بالتأويل الفينومينولوجي بعد هوسرل خاصة
لدى هيدجر وجادامر كما مر بنا.
كما يتضح في هذا المجلد خاصية ثانية هي ما يطلق عليه "إعادة التسجيل المتنامية لنظرية النص في
نظرية الفعل حيث تظهر الأولى في الجزء الثاني من هذا العمل لصالح الاهتمام التطبيقي ، كما تظهر
في التدرج فيما يعرضه من أبحاث حيث نجد نقطة البداية النص وبنيته الداخلية لكن مع قدرته الخفية
على إعادة التشخيص وفي نقطة النهاية رسم تقريبي لمفهوم العقل الفاعل والذي تظهر خاصته في
.( بحثه "نموذج النص: الفعل الحصيف المنظور إليه كنص"( 67
ويوضح في الجزء الثالث أهمية النقد التأويلى ..
أن مهمة الهيرمينوطيقا عند ريكور إذن هي الكشف عن موضوع النص غير المحدود لا عن نفسية
المؤلف أن موضوع النص غير المحدود بالنسبة لبنيته وفي افتراضه هو بمثابة المرجعية للمعنى. وهو
لا يكتفي بالمعنى الذي هو موضوعه المثالي ، بل يتساءل بالإضافة إلى ذلك عن مرجعيته أي عن
مقصديته . وعن قيمة الحقيقة فيه . وهو لا يتوقف عن بنية النص المماثلة ، بل ما يريد هو توضيح
( العالم الذي يختطه النص ( 68
لم يعد السؤال كما يرى ريكور تعريف الهيرمينوطيقي كبحث عن البنيات النفسية التي تختفي تحت
النص ، بل كتوضيح للكينونة في العالم التي أبرزها النص. يقول (ما يجب أن يؤول في النص ، هو
.( افتراض في عالم مشروع عالم يكون بوسعي أن أقيم فيه وأن أقصد فيه أخص ممكناتي( 69
ويحاول ريكور إذن خاصة في ( مهمة الهيرمينوطيقا) أن يعالج الهيرمينوطيقا بالدخول في مناقشة مع
علوم النص من اللسانيات إلى التفسير. إن الهيرمينوطيقا عنده هي نظرية عمليات الفهم في علاقتها مع
تفسير النصوص. والفكرة الأساسية الموجهة لديه هي فكرة إنجاز الخطاب كنص.
إن الهدف هو التكامل بين الشرح والفهم بدلا من الفصل بينهما كما لدى الهيرمينوطيقا الرومانسية .
لذلك فإن موضوع تشريح الهيرمينوطيقا في أختراقه هو الكلام ، والكلام المكتوب بالأخص. يقول :
"إن إنتاج خطاب ذي معنى واحد نسبيا بكلمات متعددة المعاني ، والتعرف على نية أحادية المعنى في
استقبال الإرساليات هو عمل التأويل الأول والأكثر بساطة . وهو ما يسميه دلتاي : "تعابير الكلمات
الثابتة بالكتابة" ، هذه التعابير تقتضي عمل تأويل خاص وترتبط بالضبط بانجاز الخطاب
( كنص.( 70
يؤكد ريكور في دراسته مهمة الهيرمينوطيقا إن الهيرمينوطيقا هي نظرية عمليات الفهم في علاقتها
مع تفسير النصوص أي أن الفكرة الموجهة هي فكرة إنجاز الخطاب كنص ( 71 ). وتتضح لنا طريقة
ريكور في تأويل النص في دراسته وظيفة المباعدة الهيرمينوطيقية التي يحدد لنا إشكاليتها في
الموضوعات الخمسة التالية :-
1- إنجاز الكلام كخطاب
2- إنجاز الخطاب كأثر أدبي
3- علاقة الكلام بالكتابة في الخطاب
4- الخطاب كانعكاس لعالم
5- ماالخطاب وأثر الخطاب كوسيط لفهم الذات .
كل هذه السمات مجتمعة تشكل المعايير النصية يقول في نفس المقالة : "أنا أربط المهمة
الهيرمينوطيقية بمفهوم (عالم النص) ( 72 ) ويضيف أن النص هو الوسيط الوحيد الذي نفهم من خلاله
أنفسنا وهو يسمي نصا كل خطاب تثبته الكتابة .تبعا لهذا التعريف يكون التثبت بالكتابة مؤسسا للنص
نفسه . يؤكد في بحثه الذي يقدم كتاب من النص إلى الفعل : "إن مهمة الهيرمينوطيقا الأولى بعد أن
تخلصت من أولوية الذاتية هي البحث داخل النص نفسه عن الدينامية الداخلية الكامنة وراء تبنيين