كتبت The morning 2
نظر إلى معطفه المهترئ... تناوله بيده وهو يدمدم:
"لن يقيني من برد الشاتء القارس، ولكنه يوحي بالدفء على كل حال..."
نزل إلى الشارع ليعيد الرتابة نفسها.. حيّا صاحب المحل المجاور بنفس الانبتسامة التي يقنّع فيها وجهه كلما دعت الحاجة... وقف أما محل ألعاب الأطفال ذاته.. أخذته أحلامه إلى ذلك القسم البعيد من الجنة، جنته الخاصة، يحلم فيها أن تشفى ابنته ليشتري لها لعبة (صيد السمك) التي وعدها بها... لا ينزله من جنته إلا صوت سائق سيارةٍ يلعنه بصوتٍ مرتفع لكي يبتعد عن الطريق!!
تابع طريقه إلى المشفى الذي ترقد فيه بشرى...
كم عمرها؟؟ لم يعد يذكر جيداً.. كلّ ما يعرفه أنها وُلدَت منذ أربع سنين، ووُلِد الألم معها.. في أوطاننا تقاس الأعمار بمقدار الألم والمعاناة!!
أيحبها؟؟ يا له من سؤالٍ ساذج... حتى الوحوش تحب أطفالها، فطيف بالأحرى هو؟؟! لقد بذل في سبيلها كل ما يملك... ترك وظيفته المتواضعة.. صرف على علاجها آخر قرشٍ كان قد ادخره ليعينه في آخرته.. ولكن....
لم يستطع التخلص من هواجسه التي لاحقته عند اجتيازه بوابة المشفى.. إلى أين تقوده هذه الحياة بجبروتها؟ أما لهذه المعاناة اليومية من نهاية؟
نهاية!!! ذعر عندما خطرت على باله فكرة النهاية بكل ما تحمله من معاني...
صعد إلى الطابق الثالث.. استقبلته الممرضة بابتسامتها العذبة المعهودة. قادته إلى الطبيب المختص لأنه "يريد التحدث معك بأمرٍ هامّ"...
"خير انشالله.." قالها بصوتٍ متلعثم وهو يمدّ يده لمصافحة الطبيب..
"إنّ وضع ابنتك كما تعلم صعبٌ جداً.. فالورم قد تغلغل في أعماق جسدها.. وهي تعيش منذ فترةٍ ليست بالقصيرة على مسكنات الالم.. واليوم اضطررنا لإدخالها مجدداً إلى وحدة الإنعاش بعد توقفٍ مفاجئ في القلب.. وهي تحيا الآن بفضل أجهزة الإنعاش..
أرجو أن تسمعني حتى النهاية.. نحن قد بذلنا ما بوسعنا، وأنت ايضاً بذلت من صحتك ومالك الكثير... والآن بإمكانك أنت وحدك أن توقف معاناة بشرى.. أن تريحها وإلى الأبد من هذا الألم الذي لا يطاق.. أنت وحدك تملك السلطة بإيقاف أجهزة الإنعاش متى شئت... وكن على ثقةٍ أننا ستحترم قرارك مهما كان..."
حاول الأب أن يثور.. أن يلعن.. أن يصلي أو أن يكفر.. ولكن كل ما استطاعه هو دمعة سقطت من عينه، وقد سقطت معها آماله وأحلامه..........
فهو لم يرتب حياته كي تسير على هذا النحو .. و لم يشأ ابدا ان يدخل يوما في صراع مع الالهه .. فـ الالهه تعرف ما تصنع اما هو فيصنع ما يعرف فقط .. جلس كـ حطام على الكرسي امام مكتب الطبيب و اسند رأسه الى المكتب و راح يحاول الاستيقاظ من الالم .. لكنه ابدا لم يستطع عزف تلك الانشوده .. رفع رأسه ليسأل الطبيب .. هل لديك اطفال ؟ فـ اجاب الطبيب حائرا بين المشاعر و الطب.. "اعلم جيدا حساسيه موقفك و لكن ! ان موقعي كـ طبيب يحتم علي اطلاعك على هذا الاحتمال .." لم يرد سماع اي من الـ الاشياء الاخرى .. حمل معطفه و هام بالخروج ممن الغرفه اسند رأسه الى الباب بتعب فسمع احدى الممرضات تقول له: " علها تنتظرك " دخل اليها و هو يبارك قدرته على الابتسام .. لكنها لم تكن تنتظره .. بل كانت تغط في الم عميق ,, راقب لبضعه دقايق تعابير وجهها .. "انه يأكل جسدها بمراره " حدثه صوت من الخلف .. " لكنها كل ما املك في هذا العالم " اجاب بـ مراره اخرى .. عاد ذلك الصوت بعد ساعه .. " اما زلت هنا" "انت لا تعرفين معنى الانهزام امام الله ".. اجابها و خرج ليحرق واحده اخرى من سجائره .. ثم عاد الى غرفه " بشرى" فقبلها من جبينها و خرج متجها الى متجر الالعاب .. استبدل اخر ما كان يخض في جيبه بـ "صياد السمك" الذي لطالما انتظر حلول الشفاء كي يلعب و بشرى على ايقاعها .. و ها هي اليوم تتماثل للشفاء .. ثم عاد الى المشفى و طلب من تلك الممرضه عند الباب ان تزرعها قرب سريرها علّها تشتم رائحتها و تعلم انها تماثلت للشفاء .. ثم هام بالدخول الى غرفه الطبيب لكن ذاك الصوت اتاه في الوقت المناسب و كما دائما من الـ خلف .. " خرج بـ امر مستعجل " "ازرعي هذه الورقه على مكتبه ليقتفها عندما يعود " طلب الى ذلك الصوت .. ناولها الورقه بيد مرتجفه و اصابع بارده ..
ثم خرج و لم يره بعدها احد يعبر ممار ذلك المبنى المثقل بـ ابنته..
قال لي في الطريق إلى سجنه:
عندما أَتحرّرُ أَعرفُ أنَّ مديحَ الوطنْ
كهجاء الوطنْ
مِهْنَةٌ مثل باقي المِهَنْ !
|