العبادة الحقيقيّة
"الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يوحنا 4، 24)
ما الذي كان ينقص السامريّة حتّى دار بينها وبين المسيح كلّ هذا "الجدال" الطويل؟ يدلّ الحوار القويّ بين يسوع وهذه المرأة أنّه كان هناك بينهما خلاف عميق حول الموضوع، وهو العبادة الحقيقيّة.
لقد كانت أسئلة السامريّة الموجهة نحو يسوع تحاول أن تثير "مواضيع دينيّة" تختصّ بالعبادة الحقيقيّة كموضوع خلاف بين فئتين، اليهود والسامريين. لكن يسوع لم يقبل أن يتوقّف عند ذلك، بل قاد الحوار إلى ما هو أعمق. فبينما كانت تلك تدور حول مسائل نظرية مثل مكان العبادة، توقّف يسوع عند الأمر الأهمّ وهو "جدوى العبادة"، العبادة التي يُفترض أن تطهّر الحياة؟ لذلك سألها "اذهبي وادعي رجلك". لم يسأل يسوع عن نظريات في الدين وإنّما عن الإيمان الحيّ المرتبط بالحياة.
بينما كانت هذه السامريّة متحمّسة في إثارة الخلافات الدينيّة ومناقشتها والدفاع عن رأي قومها حولها، في الوقت ذاته لم تكن حياتها تلائم مبادئ الدين وكانت حياتها غير ملتزمة بمبادئها. فما نفع العبادة؟ وهل يهم حين نفقد الحياة من العبادة أن نجد المكان؟ كلنا نعبد الله، ونحبه. لكنا في مرّات عديدة نمارس عبادتنا ليس بالحق ونحياها أيضاً دون روح. العبادة هي"الزمان والمكان الذي يتجلّى فيه مجدُ الله للإنسان، ويلتقي الإنسان فيه بالله".
هناك مرضان يصيبان عبادتنا، نحن المؤمنين، فيفسدانها. وذلك بنسبة متفاوتة تزداد مع تناقض سهرنا وفحصنا لحقيقة عبادتنا. وهذان المرضان هما "الرياء" و"العادة".
"الرياء" هو عدم تطابق الواقع مع الظاهر، وبكلمة أخرى هو المرض الذي يتسلّل إلى عبادتنا، فيجعلنا نرفع العبادة ظاهراً باسم الله ولكن بالواقع من أجل سواه. الرياء هو كلّ ممارسة تخدم أمراً ليس هو غايتها الحقيقيّة. وهذا أخطر كذب لأنّه كذب على الروح وليس على البشر.
وفي عبادتنا هناك عوارض لهذا الداء. فمرات عديدة نتدين من أجل أعين الناس التي ترى في الظاهر وليس في الخفية، ونتيجة ذلك هو أن نشدّد في العبادة على المظاهر الخارجيّة وليس على التوبة الداخليّة، وذلك لنكسب لنا مجداً من الناس بدل أن نمجّد نحن الله. وهذا وضع يدفعنا مرّات أن نصفّي البعوضة حين ينظرنا الناس، وأن نبتلع الجمل إذا غابت عنّا عينهم (متى 23، 23).
يدفعنا الرياء مراراً إلى تفسير الوصايا والكتاب بما يوافق أهواءنا ونزواتنا، فنجتهد في تفسير الدين ونضع في تفسيره شرائع ونواميس كشباك متشابكة في الحياة اليوميّة، لكنّها تمرّر من ثقوبها أهمّ ما في الوصايا أي المحبّة. فتصطاد هذه الشباك لنا إعجاب الناس ونهرّب منها واجبات المحبّة الحقيقيّة. فنكون قد جعلنا الدين شريعتنا وألغينا شريعة الله.
يدفعنا الرياء، حين يتملّكنا، إلى الإكثار من تكريم الله، ولكن كما قال أشعياء "هذا الشعب يكرّمني بشفتَيه أما قلبه فهو بعيد عني". يجعل الرياء ضحيته عاجزة عن سماع نداء التوبة، النداء الذي لا يسمعه إلاّ القلب، لكنّه في هذه الحالة بعيد ولو أكثرت الشفاه من التكريم. من يصاب بالرياء هو أعمى يريد أن يظهر أنّه يرى.
عندما يبلغ الرياء بالإنسان إلى حدود كبيرة يوسّع الهوّة بين المعتقد وبين الحياة، حتّى درجة التعاكس أحياناً. فالمبالغة- رياءً- في المظاهر الدينيّة تفترض على صاحبها أحمالاً لا يريد أن يحملها، لذلك يفصل فوراً بين كلامه وبين سلوكه، بين إيمانه وبين حياته. وينقلب الدين إلى مجرّد حوارات سفسطائية، وتصير الممارسات الطقسيّة مظاهر لاكتساب مديح الناس وليس لاستدرار رحمة الله.
لذلك يسهل على المصاب بالرياء أن يميل بالدين إلى التنظير. وأن يجعل الدين مسألة فكريّة أو موضوعاً للحوارات وليس للحياة.
و"العادة"، هي غير "العبادة". لا شكّ أنّ العبادة تتطلّب المثابرة والمواظبة وتدخل في العبادة "عادة مقدّسة". لكن المقصود "بالعادة" هنا هو ممارسة العبادة بـ"عاداتها" أو"عوائدها"، أي بشكلها الخارجي دون الولوج إلى جوهرها.
وسبب السقوط في "العادة" هو هبوط وعي المؤمن إلى درجة تحديد علاقته بالله في مجرّد تأدية بعض الواجبات والالتزام بإتمام بعض الطقوس، التي تصير عقود هدنة وفصل بين حقوقنا وحقوق الله، وبين واجباتنا وواجباته. أي بالواقع عكس العبادة التي هي جسر نعبر فيه إلى الله وأداة اتّصال به.
لذلك في مثل هذا الوضع يطيب للمؤمن أن يوضّح "حدود العلاقة" مع الله، ويغوص في التشريع ويقف عند الحرف ولو قتل الروح. "فالحرف يقتل والروح يحيي". فقد يدقق مثلاً في أدقّ تفاصيل أنواع الطعام في الصيام ولكنّه قد يهمل الصلاة، ويملأ العين والذهن من الرغبات والشهوات الدنيويّة. أو يبالغ في التمسك بالكلمات في الطقوس ويتناسى ما ينتج عنها من التزامات.
لا شكّ أن العبادة الحقيقيّة تحتاج لجرأة كبيرة ورجولة روحيّة ومجهود حقيقيّ، لأنّ أولى دلائل الممارسة الحقيقيّة للعبادة هي التبدّل الداخليّ للإنسان. العبادة عكس العادة: العادة تعني التكرار الأعمى، ولكنّ العبادة تعني التقدّم نحو الله، وهذا يسبقه التبدّل الداخليّ الكيانيّ. تكتفي العادة في العبادة بتقديم الذبائح بأشكالها وألوانها. لكن العبادة الحقيقة تتطلّب ذبائح وأعمال فضيلة فقط كتعبير عن تقديم "طريقة الحياة" ذاتها. حيث العبادة الحقيقة تقوم على تبديل طريقة حياتنا من حياة بالجسد إلى حياة بالروح، ومن حياة بحسب الإنسان القديم إلى حياة الإنسان الجديد بحسب المسيح.
العبادة هي مكان وزمان تقبّل النعمة وحضور الروح. ولا يحضر الروح ولا يسكب نعمته علينا قبل طهارة الحياة، والحياة الطاهرة هي تحديداً الحياة المتحرّرة من الأمجاد الباطلة والمتحرّرة من قشور الحرف في الطقوس. إنّ العبادة الحقيقيّة هي متجدّدة لا يهمّها مظهر في عين الناس ولكنّها تبحث عن موقع في عين الله.
لما كانت العبادة هي ممارسات يجب أن تقودنا إلى الله الآب، فإنّ يسوع لا يقبلها إلا إذا كانت من الروح. لا ننشئنَّ بيننا وبين يسوع علاقات دينيّة جدليّة، إنّما لنبنيَنَّ علاقة حيّة تسأل عن طريقة الحياة بحسب مشيئته. لا تنفعنا معرفة مكان العبادة حين نفسد الحياة. ولا يقبل الربّ ذبائح وهو يبتغي القلب الطاهر. طريقنا إلى الحوار مع يسوع هو واحد إنّه توبتنا، عندها يسكب الروح فينا نعمته ويقودنا إلى الاعتراف بالحقّ وملامة الذات، وهذه وحدها تقودنا إلى معرفة الله، لأن أنقياء القلوب يعاينون الله.
"انذهلي يا سماوات، لأن الربّ قال هذا (...) اقترف شعبي شرّين. لقد أهملني أنا بنبوع الماء الحيّ. وقد ابتنى آباراً مشقّقة لا يمكنها أن تحفظ الماء..." هذا ما جاء على لسان أرميا النبيّ (2، 12-13).
الرياء شرّ يستبدل ينبوع الحياة ويسلب مكان الله في العبادة ويبدّله بالأمجاد والرغبات الإنسانيّة. والعادة هي آبار مشققة لا يمكنها أن تحفظ نعمة الروح القدس ولا أن تجمعها. هذان هما الداءان اللذان يفسدان العبادة الحقيقيّة. إنّنا نخلط أحياناً بين الماء الحيّ والنار ونستكين للأشكال كآبار مشقّقة راضين بها وهي لا تجمع ماء النعمة.
العبادة بالروح والحقّ هي"ماء حي". وهذا يعني بالعمق أن العبادة تروي العطش الإنسانـيّ الحقيقيّ، وليست مجرّد ممارسات تروي عين الناس. وهذا الماء حيّ متدفّق لا يقبل سكون الماء الراكد ولا تفسّره العادة. إنّه ماء يبدّل الإنسان ويحرّكه.
من يدخل العبادة من بابها الحقيقيّ يلتقي أوّلاً بذاته وهناك يصادف يسوع. مقياس حقيقة عبادتنا ليست الممارسات الخارجيّة وإنّما الخبرات المتجدّدة الروحيّة، حيث لا تجديد لا حياة ولا عبادة.
الماء الحيّ الذي يعطيه يسوع يصير في جوفنا أنهار ماء حيّ. العبادة محطة في لحظات النهار نفتح فيها قلبنا للروح القدس فنتقبّل نعمته، أي نقبل أن تسير بنا إراداته إلى حيث الروح يشاء.
الله روح، "ولن يتزكّى أمامه أيّ حيّ" كما في المزامير. يرى الناس المظاهر ويرى الله الداخل. إن الله يطلب منا عبادة بالحق والروح، لأن حكمه أيضاً سيكون بالحقّ والروح. لذلك سجودنا هو من الداخل وعبادة يبعثها الروح وحقّ يسوع.
آميــن
الميتروبوليت بولس مطران حلب
|