أحلام مستغانمي-أخذ معه كلّ ذلك الضوء
كلّ نيسان لا أستطيع إلاّ أن أذكره. مذ رحل ونحن نحاول إنقاذ النار، التي أشعلها فينا نزار قباني ومضى. ذلك الطفل الزوبعة، ذلك الشاعر الذي حيث يمرُّ تشتعل بمروره فتيلة الشعر.
نقف دَهِشين أمام رمادنا بعده· لماذا خالفنا نصائحه ورحنا نؤمّن على حياتنا ضدّ الحرائق الجميلة؟ وما نفع ما ننقذه؟ وماذا لو كان الشيء الوحيد الذي أنقذناه حقاً، هو كلّ ما سرقناه من العمر، وسلَّمناه وليمة للنار.. نـــار الحياة؟
ليس عَجَبَاً، أن يكون نزار قد أنهى حياته بطلب كوب من الماء، بكلمة "شكــراً". فنزار قبّاني حالة ناريّـة، قبل أن يكون حالة شعرية. إنه يُذكّرني بـ"بودلير" الذي كان يقول، ليُثبت غرابته، إنّ أول كلمة لفظها عندما بدأ النطق. كانت Allumette أي "كبريت". ولا أذكر أن "نيرون" نفسه قد طالب أبويه، حال وصوله العالم، بالنار، هو الذي أحرق روما في نـزوة لهـب.
لا أدري مِن أين جَـاءَت نزار هذه النزعة النيرونية لإضرام النار في تلابيب النساء، اللائي أحببنه وأحبّهنّ في أثواب نومهنّ، وفساتين سهراتهنّ، ومناديل بكائهنّ، وكلِّ ما لبسنه لموعدهنّ الأول معه، أو ما نسينه في غرفته بعد موعد حُـبّ، ولِمَ كلُّ مدينة أحبَّها أو مرَّ بها، شَـبَّ فيها الحريق، ولم يستطع رجال الإطفائيّة، العاملون على حفظ التقاليد وضبط السلوك، من أجلها شيئاً؟
أكان يتسلّى بألسنة اللهب، ثم يركب قطار الشعر المفخخ كبريتاً، ليُجرِّب فينا سياسة الأرض المحروقة، تاركاً الناس خلفه مفزوعين مهرولين محمّلين، كلٌّ بدلو من الماء.
نزار لم يكتب يوماً بأصابعه، بل بأصابع "الديناميت"، التي كان يُعدّها لنا بنوايا إجراميّة، وبكلِّ عناية شعرية، كما تلفُّ النساء في كوبــا على حجورهنّ السيجار الفاخر.
الآن، نكتشف ذلك، وقد توقّفت تلك الانفجارات التي كان يُحدثها بين الحين والآخر، فيهزّنا بها، بلداً بعد آخر، وفرداً بعد آخر· ولذا، بعد رحيله، ساد العالم صمت شعري رهيب، لا لأنّ شاعراً كبيراً مات، ولكن، لأنّ وهمنا بالشعر انطفأ، ولم يعد في إمكان أحد أن يجعل من تفاصيل حياتنا العادية حالة شعرية.
عند رحيله، استبشر بعض الشعراء خيراً، وتوقّعوا أنهم بموته سيكبرون، وبغيابه سيتقدّمون صفّـاً. ولكنهم أخطأوا في حساباتهم· فالشعر فضّاح لِمَن دونه، وقد يجعل شاعراً يزداد حضوراً بغيابه، وآخر يصغر، على الرغم من ضوضائه· ولذا، فإنّ الشعراء الذين كانوا في حياته كباراً، مازالوا كذلك، وأولئك الذين كانوا أقزاماً سيبقون كذلك، ولا جدوى من وقوفهم في طوابير الشعر. الشاعر كائن لا ينتظر· الشعر هو الذي ينتظره عصوراً.
نزار لم يقف يوماً في الصف، لقد كان منذ نصف قرن، وحتى بعد موته، صفّاً في حدّ ذاته، يمتد من أوّل إلى آخر الخريطة العربيّة، وعَلَمَاً شعرياً تصطف خلفه أمة بأكملها. كان صوت عصرنا الشرعيّ، وابن القبيلة والمتمرّد عليها، الذي أصبح بانقلاب شعريّ مَلِكَها.
لقد كان نزار يقول: "إنّ المبدعين خُلِقُوا ليزرعوا القنابل تحت هذا القطار العثمانيّ العجوز، الذي ينقلنا من محطّة الجاهلية الأولى إلى محطة الجاهلية الثانية". وأثناء زرعه تلك الألغام، نسف نزار خلال نصف قرن كلَّ الشعراء، الذين ركبوا قطار الشعر من دون تذاكر، ومن دون أن يدفعوا شيئاً مقابل هذا اللقب. وحاولوا السفر معلّقين بأبواب القطارات والمهرجانات الضوضائيّة.
لقد قضى عمره في ركلهم و"دفشهم" ومحاولة الإلقاء بهم من النافذة، دائم السخرية منهم والاستخفاف، وما سمعوه ولا صدّقوه. والآن، وقد نزل وتركهم يسافرون نحو حتفهم في ذلك القطار المجنون، نعي أنه رحل وهو يحاول إنقاذ آخر قصيدة من أيدي مرتكبي الجرائم الشعريّة. ورحل وهو يحاول إنقاذ آخر أنثى قبل وصول التتار.
ذهب وهو يحاول إصلاح العطل الأبديّ في مولّدات الفرح العربيّ، ولذا مات بصعقة كهربائية، مُعلَّقاً إلى قنديل الشعر، أثناء محاولته إدخال الكهرباء في شارع الحزن العربيّ.
رحل آخذاً معه كلّ ذلك الضوء.
أمام المواقف غير المتوقعة التي تضعنا فيها الحياة.
أحب أن يتبع المرء مزاجه السري,ويستسلم لأول فكرة تخطر بذهنه دون مفاضلتها أو مقارنتها بأخرى.
فالفكرة الأولى دائما على حق مهما كانت شاذة وغريبة لأنها وحدها تشبهنا.
.......
خلي حبنا يمشي ع المي وما يغرق
|