وأخذني فأدخلني داراً قوراء في وسطها بركة عليها نوافير يتدفق منها الماء، فيذهب صعداً كأنه عمود من البلور ثم يتثنى ويتكسر ويهبط كأنه الألماس، له بريق يخطف الأبصار، صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان، وعلى أطراف الدار دكك كثيرة، مفروشة بالأسرة والمتكآت والزرابيّ كأنها خباء الأمير، فلم نكد نتوسطها حتى وقثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد، يصيحون علينا صياحاً غريباً، فأدركت أنها مكيدة مدبرة، وأنهم يريدون اغتيالي، فانتضيت خنجري وقلت: والله لا يدنو مني أحد إلا قطعت رقبته، فأحجموا وعجبوا ورعبوا، وغضب صاحبي وظنني أمزح، ومال عليّ يعاتبني عتاباً شديداً. فقلت له: ويحك أو ما تراهم قد أحاطوا بنا؟ قال:
إنهم يرحبون بنا ويسلمون علينا. فسكت ودخلت. وعادوا إلى حركتهم يضحكون من هذا المزاح، ويدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون، وأنا لا أدري ما هم صانعون حتى قادونا إلى دكة من هذه الدكك، وجاءوا ينزعون ثيابنا فتحققت أنها المكيدة، وأنهم سيسلبونني خنجري حتى يهون عليهم قتلي، فقد عجزوا أن يقاتلوني وبيدي الخنجر، فأبيت وهممت بالخروج ولكن صاحبي ألحّ عليّ وأقسم لي، فأجبت واستسلمت وإن روحي لتزهق حزناً على إني ذللت هذا الذل حتى أسلمتهم سَلَبي يسلبونني وأنا حي. ولو كنت في البادية لأريتهم كيف يكون القتال... حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبق عليّ شيء، قلت: أما من مسلم؟ أما من عربي؟ أتكشف العورات في هذا البلد فلا يغار أحد، ولا يغضب إنسان؟
فهدّأ صاحبي من ثورتي وقال: أفتغتسل وأنت متزر؟ قلت: فكيف أتكشف بعد هذه الشيبة وتذهب عني في العرب فتكون فضيحتي إلى الأبد؟
قال: من أنبأك أنك ستتكشف؟ هلا انتظرت!
فانتظرت وسكت فإذا غلام من أغلمة الحمام، يأخذ بيده إزاراً فيحجبني به حتى أنزع أزراري وأتزرّ به، فحمدت الله على النجاة، وكان صاحبي قد تعرى فأخذ بيدي وأدخلني إلى باطن الحمام، فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلى ساحات، ومداخل ومخارج ملتفّة متلوية، يضّل فيها الخرّيت وهي مظلمة كأنها قبر قد انعقدت فوقها قباب وعقود، فيها قوارير من زجاج تضيء كأنها النجوم اللوامع، في السماء الداجية، وفي باطن الحمام أناس عري جالسون إلى قدور من الصخر فيها ماء، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وقلت هذه والله دار الشياطين وجعلت ألتمس آية الكرسي فلا أذكر منها شيئاً، فأيقنت أنها ستركبني الشياطين لما نسيت من آية الكرسي، وجعلت أبكي على شيبتي أن يختم لها هذه الخاتمة السيئة، وإني لكذلك، وإذا بالخبيث يعود إليّ يريد أن ينزع هذا الإزار الذي كسانيه، فصحت به: يا رجل، اتق الله، سلبتني ثيابي وسلاحي، وعدت تجردني وتعريني، الرحمة يا مسلمون، الشفقة أيها الناس! فوثب إليّ الناس، وأحدقوا بي، وجعلوا يضحكون، فقال صاحبي:
- ما هذا يا صْلَبى، لا تضحك الناس علينا، أعطه الإزار. قلت: وأبقى عرياناً؟ قال: لا، ستأخذ غيره، هذا كساء يفسد إذا مسه الماء، وإن للماء كساء آخر.
ونظرت فإذا عليه هيئة الناصح، وإذا هو يدفع إليّ إزاراً آخر، فاستبدلته به مكرهاً وتبعت صاحبي إلى مقصورة من هذه المقاصير، فجلسنا علا قدر من هذه القدور... وأنا أستجير بالله لا أدري ماذا يجري عليّ، فبينما أنا كذلك وإذا برجل عار، كأنه قفص عظام، له لحية كثة، وشكل مخيف وقد تأبط ليفاً غليظاً يا شرّ ما تأبط، وحمل ماعوناً كبيراً، يفور فوراناً، فاسترجعت وعلمت أنه السمّ وأنه سيتناثر منه لحمي، فقصد إليّ، فجعلت أفرّ منه وأتوثب من جانب إلى جانب وهو يلحقني ويعجب من فعلي، ويظن أني أداعبه، وصاحبي يضحك ويقسم لي أنه الصابون، وأنه لا ينظف شيء مثله.
قلت: ألا شيء من سدر! ألا قليل من أشنان؟
قال: والله ما أغشك، فجرب هذا إنه خير منه.
فاستجبت واستكنت، وأقبل الرجل يدلكني دلكاً شديداً وأنا أنظر هل تساقط لحمي، هل تناثر جلدي، فلا أجد إلا خيراً فأزمعت شكره لولا أني وجدته يتغفلني فيمد يده تحت الإزار إلى فخذي، فيدلكه ويقرصه، فقلت هذا ماجن خبيث، ولو ترك من شره أحد لتركني، ولصرفته عني شيبتي، وهممت بهشم أنفه وهتم أسنانه، ولحظ ذلك صاحبي فهمس في أذني أنه ينظفك وكذلك يصنع مع الناس كلهم، فلما انتهى وصب عليّ الماء، شعرت والله كأنما نشطت من عقال، وأحسست الزهو والخفة، فصحت فأنكرت صوتي فقلت: ما هذا، أينطق لساني مغنٍ من الجن؟ وأعدت الصيحة فازددت لصوتي إنكاراً. واستخفني الطرب، فجعلت أغني وأحدو، فقال صاحبي: لعلك استطبت صوتك؟
قلت: أي والله. قال: أفأدلك على باب القاضي؟
قلت: وما أصنع في باب القاضي؟ قال: ألا تعرف قصة جحا؟
قلت: لا والله، ما أعرف جحا ولا قصته.
قال: كان جحا عالماً نحريراً، وأستاذاً كبيراً، لكن كان فيه فضائل نادرة، وكان خفيف الروح، فدخل الحمام مرة فغنى فأعجبه صوته -وكان أقبح رجل صوتاً- وراقه حسنه، فخرج من فوره إلى القاضي، فسأله أن ينصبه مؤذناً وزعم أن له صوتاً لا يدخل أذناً إلاّ حمل صاحبها حملاً فوضعه في المسجد... فقال القاضي: اصعد المنارة فأذن نسمع.
فلما صعد فأذّن، لم يبق في المسجد رجل إلا فر هارباً. فقال له القاضي: أي صوت هذا، هذا الصوت الذي ذكره ربنا في الكتاب:
قال: أصلح الله القاضي، ما يمنعك أن تبني لي فوق المئذنة حماماً؟!..
* * *
ولمح الأعرابي صديقاً له من أعراب نجد، قد مرّ من أمام القهوة، فقطع عليّ الحديث وخرج مهرولاً يلحق به.
|