حتى لا يبقى اعلان دمشق مجرد وعد
منذ نصف قرن على وجه التقريب كانت أحلامنا على تنوعها واختلافها تبدو قابلة للتحقيق، فهناك من كان يحلم بدولة عربية واحدة تمتد بين المحيط والخليج تحقق التنمية، والتقدم والديمقراطية والرخاء، وهناك من كان يحلم بأممية عمالية تمتد عبر المحيطات والقارات تحقق المساواة وتلغي استغلال الإنسان للإنسان، وهناك من كان يحلم بعالم إسلامي يتحالف، ينشر الدين الحنيف ويطبق تعاليمه، وهناك من كان يحلم بسورية ذات حدود تختلف عن حدود سايكس بيكو تحقق ما يسمونه وحدة الأمة السورية، وهناك من كان يحلم بليبرالية شبيهة بالعالم الغربي تكون سورية جزءاً منه …. لكن وباختصار شديد وبدون الدخول في التفاصيل، وبعد نصف قرن على تلك الأحلام نجد أنفسنا جميعاً وعلى اختلاف مشاربنا والإيديولوجيات التي بنينا عليها قد غدونا على هامش علاقات طائفية ومذهبية وأثنية طفت على السطح لتحل محل العلاقات والتنافس السياسي الحضاري فابتعدنا جميعاً عن تحقيق أهدافنا وأحلامنا، وغدا الواقع يتجه في الاتجاه المعاكس لكل تطور حضاري إنساني … وإذا كان لهذا الفشل أسبابه الموضوعية، وإذا كان لكل تيار على الساحة السورية تبريرات جاهزة لما حصل، وإذا كان من أيسر الأمور رمي الأسباب كل على الغير، أو على الآخر في الداخل أو في الخارج، فإن من الملح والواجب على الجميع إجراء مراجعة موضوعية وصادقة مع الذات، ومع الآخر في نفس الوقت، فنحن الآن متساويين في الفشل على الأقل … ولعل هذا الاجتماع الموقر لهذه النخبة الممتازة من أبناء الوطن أن يكون معنياً بوضع الأسس، وتحديد السبل للخروج من المأزق، وتحديد الاتجاه إلى مستقبل مختلف.
وبما أن الظروف الراهنة ضاغطة على أعصابنا، فإننا سنتجاوز مرحلياً البحث عن أسباب ما جرى وظروفه إلى البحث تحديداً في الظروف الراهنة والموقف الراهن المطلوب منها للخروج من واقع نسعى جميعاً للخروج منه بأقل الخسائر الممكنة إلى مستقبل يتيح لكل منا أن يسعى إلى أهدافه بحرية … ويتجه إلى أحلامه في وطن حر مستقل عزيز يفتح صدره رحباً لأهداف جميع أبنائه وأحلامهم، بعد أن أسهمت الظروف المريرة التي مرت بالبلاد والعباد إلى إلغاء شبه تام للحياة السياسية … وأضحت نسبة عالية وساحقة من شعبنا خارج إطار أي عمل سياسي أو اجتماعي أو عام وانكفأت الغالبية العظمى من شعبنا لمعالجة أزماتها الخاصة والفردية التي ازدادت تعقيداً بسبب الفساد والاستئثار بالسلطة.. واستسلمت في الغالب إلى أن الشأن السياسي، والقرار السياسي، والاتجاه السياسي والموقف السياسي ليس من شأنها بل أن تدخلها فيه، أو مجرد التساؤل لا يجلب إلا المآسي والقمع المجاني الذي لا يؤدي إلى نتيجة، بل وأضحت النظرة الاجتماعية لدى غالبية الرأي العام للذين يتصدون للشأن العام نظرة إشفاق رغم التعاطف معهم فهم يدفعون الثمن من حرياتهم ومستقبلهم ومستقبل عائلاتهم في مواجهة غير متكافئة مع أنظمة مدججة وقادرة، وهذا ناجم عن أن الأحزاب والقوى السياسية ونتيجة للجوء الاضطراري إلى العمل السري ابتعدت عن أن تكون أحزاباً جماهيرية، وأبعدت قسراً عن أن تكون رافعة للوعي السياسي للجماهير ومحرضاً لزجها في العمل العام، وهذا يتطلب العودة السريعة لتلك الأحزاب للاضطلاع بدورها التاريخي، وان يعود المجتمع إلى إنتاج الرجال العامين الموثوقين والفاعلين والانتقال من مرحلة الفرد الرمز لعموم الوطن إلى وطن جميع مواطنيه رموز حقيقيين تعدادهم بعدد مواطني الوطن أجمعين … وهذا يتطلب فهماً دقيقاً للمرحلة الراهنة، فالمرحلة ليست مرحلة للصراع الإيديولوجي، وليست مرحلة صراع بين برامج أحزاب، فالجميع في ظل الظروف الراهنة عاجز عن تنفيذ أي بند من بنود برامجه، إنها باختصار شديد مرحلة التحالف بين جميع قوى المجتمع وفعالياته لتهيئة المناخ الاجتماعي والسياسي والثقافي والقانوني المتوازن ليتم التنافس الحر بين جميع البرامج المستندة إلى الإيديولوجيات المختلفة، ومن ثم الاحتكام لإرادة الشعب … هكذا وفي هذا السياق التاريخي نفهم إعلان دمشق على انه حاضنة لتحالف مرحلي يهدف إلى إيجاد المناخ المناسب للتنافس الخلاق بين جميع أبناء الوطن دون إبعاد أو إقصاء أو استئصال من أجل بناء وطن حر مستقل ديمقراطي تتكافأ فيه الفرص بين جميع أبنائه لا أكثر من ذلك ولا أقل.
هكذا نرى انه لأمر بالغ الأهمية أن نؤكد على ماهية إعلان دمشق بدءاً من المبررات التاريخية وانتهاء بالغايات والأهداف، وذلك حتى تأتي الإجراءات والمؤسسات والأساليب في السياق العام المتسق مع الغايات والأهداف.
إن إعلان دمشق من وجهة نظرنا اكتسب أهميته التاريخية ليس من النص الذي عبر عنه وحسب، وإنما قبل ذلك وبعده من الضرورة التاريخية لميلاد كتلة وطنية حقيقية تشد أوتار النسيج الاجتماعي في وطننا، وتشكل حاضنة حقيقية لمكونات المجتمع كافة أفقياً وعمودياً في وجه الخراب الذي أحدثته عقود من الاستبداد من جهة، وفي مواجهة الغربان الذين ينعقون مبشرين بخراب أمر وأدهى قادم مع الأيام القادمة...
ولعله لأمر هام أيضاً، وحتى يكتسب هذا الحديث مصداقيته، أن نعترف بأن إعلان دمشق، وبعد أشهر من إشهاره مازال وعداً بأن يكون حاضنة لكتلة وطنية حقيقية ولم يتحول إلى كتلة وطنية بعد، ولعل انعقاده في ظل الظروف بالغة الصعوبة والحساسية هو المعني بإحداث هذه النقلة التاريخية من الوعد إلى الواقع، وإذا كنا الآن لسنا في وارد التحدث عن الصعوبات والقمع الذي أعاق ذلك إلى الآن، فإنه لأمر بالغ الأهمية أن نزيل العقبات الذاتية الكامنة فينا وفي مكونات القوى المشكلة لإعلان دمشق قبل الحديث عن مواجهة العقبات والأخطار الناتجة عن الاستبداد والقمع الضاغط على الإعلان من خارجه، وفي هذا السياق لعله من التكرار الحديث عن ضعف هيكلية القوى السياسية في البلاد نتيجة عقود الاستبداد المريرة التي التهمت المجتمع ومكوناته وأحزابه ونقاباته وصحافته، وجمعياته ونواديه ومؤسساته التنفيذية، ومؤسساته التشريعية، ومؤسساته القضائية واستبدلت ذلك كله بمؤسسات شكلانية بحيث نرى الدول القائمة على الأرض العربية محكومة حصرياً بواحدة من السلطات الثلاث التالية :
ا - الاستبداد الصريح.
2 - الديمقراطية الشكلانية الزائفة.
3 - الاحتلال الخارجي.
يتبع......
لا صراع حضارات بل صراع كيانات سياسية فالثقافات
لا تتناحر وإنما تتفاعل.....والحضارات لا تتصادم وانما تتلاقح.
......understood seek first to understand then to be
|